الى ناصر عواد/ النصير ابو قحطان

لقد قامرت بحياتك فخسرت أما نحن ففزنا بهزيمة ابدية!

   أنا مدين لك منذ سنين بهذه الكلمات التي لا تسر احدا!ولم يكن صمتي الا امعانا في هذا الانكسارالمزمن  واقرارا بطوفان من هزائم شائنة..لقد قتلت عند ذلك السفح الجبلي الذي اشرف ذات يوم بعيد على اكواخنا المسنودة الى كتف الجبل.كبلت يداك بسرعة الى الخلف واطلقوا النار عليك وعلى من كان برفقتك وغادروا على عجل ليخفوا ارتباكهم وهم يصرخون بلغات صخرية.

   كانت شمس ايار قد انحدرت منذ قليل من شرفات جبل قنديل لتضيئ ببطء بطن الوادي الذي لم يزل في اغلبه يرقد تحت ملائة ضباب كسيرحيث اشجار السنديان والحورتتنفس بهدوء وهي تنفض عن اغصانها الطرية نداوة الصباح المغتال.

   كان الوادي خاليا الا من صراخ القتلة الذين حرصوا ان تاكل النيران كل اثرجميل لنا من كتب ومسرحيات ولوحات وقصائد يتيمة ودواويين لشبان لا نعرف اسمائهم ورسائل كتبت على عجل لاحباء في اماكن نائية وكلمات سريعة تحدثت  عن وداع  مداهم.اطعموا كل تلك الثقافة وتجربتها الفريدة للنيران ثم اقتسموا بعيد ذلك الاموال والاسلحة والمعدات والدواء والحقائب وثياب الاطفال وسرقوا من قتلانا ساعاتهم وخواتم زواجهم . 

  لقد سقطت في ذلك اليوم عاصمة صغيرة اخرى من عواصم الفقراء،واستبيحت ببدائية العصور الحجرية،وقدم اسرانا قرابينا لآلهة كراهيتهم.

  كان الخيار المفروض ان نرحل عشية المجزرة.تسلقنا بصمت مجروح ذلك الجبل الرهيب الذي يحتفظ بين صخوره وشقوقه ومسالكه ثلوجا منذ عصور التكوين.كنا نساءا ورجالا من كل الاعمار جرحى ومرضى واطفالا حديثي الولادة.كان ايضا في صفوفنا العديد من المقاتلين الاشداء يحرسون هذه الاقدام المتعبة وهي تتقهقر الى الاعلى بحزن عميق وخجل يدمي القلب.كنا خيطا بشريا يمتد لمسافة طويلة يتعرج ويلتف،يختفي ويظهر حسب التضاريس،وكان الليل دامسا غامضا منطفيء الكواكب.كان القتال الشديد وهدير مدافع الهاون والرشاشات الثقيلة قد اخلى دوره مع حلول الظلام الى ازيز الاسلحة الخفيفة وكثافة الاشتباكات القريبة.كانت متاريسنا رغم ثقل الخسارة وقلة العدد صامدة تغطي انسحابنا قبل ان تنطفئ الواحدة تلو الاخرى عن رجال تخشبت اصابعهم على بنادقهم وتصلبت اقدامهم في الوحل و حاربوا لاخر قطرة دم ....ثم تركناهم للغربان. 

   لا جديد اذن يا ابا سحر!فمنذ عقود ونحن نقتل باساليب مبتكرة.نشنق عند ساعات الصباح الباكر في زنزانات سرية.

   نذوب في احواض حوامض مستوردة خصيصا،يطلق علينا النار من سيارات مسرعة لا تحمل ارقاما،نسمم في  سجون صحراوية،او ندفن احياءا.

   يلقى بنا من طائرات عمودية في صحاري الله الشاسعة،او نختنق مكبليين غرقا في اقبية مغلقة،نموت بلا  مواعيد او امنيات او شواهد قبور،نموت بلا صلوات او تراتيل او دموع.

    لقد ترك الالاف منا لامهاتهم،كما فعلت انت قبل قليل،ليال مالحات ونهارات مدبوغة بصبر لاذع وملائات سوداء مغبرة وقامات محنية ولآبائهم تركوا صمتا مقهورا وبحة لآخر العمر.وتركوا لزوجاتهم كوابيسا ذات اضراس حادة ولذاكرة اطفالهم افواها  كنواقيس سوداء لا تكف عن طرق الاسئلة .... لقد تمت تصفيتك ببنادق اعتادت الانتقال من كتف الى كتف كلما راقها الامر.وكلما كان الكسب مغريا اعتادت ان توجه فوهاتها باتجاه الصديق والعدو على سواء.لم تكن حربا قط فللحرب قواعدها ولكنها كانت مجزرة اعدت باتقان.

    لقد كنا في الزمان والمكان الخاطئين في قرى وجبال وهضاب غريبة،وتحت ارادة طبيعة لم نألفها.يجاهد الكثيرون منا بدفع الايام وعدم الارتطام بالجدران ولعبنا  ادوارا صعب علينا ادائها،واقمنا بين اعداء بنا متربصين،ولم تبرح احلامنا  احلام العصافير!وهكذا فقدنا رفاقا كثيرين متميزين ماتوا بسبب اصرارنا على كوننا اذكياءا ومحنكين في ادارة الامور و تذليل صعاب المستقبل،لا كنا كباقي المرات انبياءا في اختيار حروب خاسرة،وايجاد قناعات فاشلة.

    لقد رحلت اذن و رحلوا بعيدا.. ولكنهم تركوا،كما تركت انت لنا،وحشة الحقائق و حراجة الاسئلة.

  • كنا في البدء

     عربا اكرادا اتراكا مسيحيين صابئة يهودا وملاحدة من شتى الصنوف،كنا دهريين ووجوديين ومؤمنيين.كنا كتابا شعراءا قضاة ورجال صحافة،كنا جنرالات وجنودا و وزراءا.كنا تجارا ورجال اعمال،ولصوصا صغارا،وعتالين وفلاحين حفاة وعمالا معدمين،وملاكين عقاريين بياقات بيضاء.كنا معلمين وطلابا وتلامذة واساتذة وفنانين ومقامرين ومغرمي معتقلات وقادة سياسيين لا يحسنون كتابة خطاباتهم،وكسبة مشردين وحالمين من كل طراز.كنا جميعا ننتمي لهذه الارض،منها نبتنا وعلى ظهرها تربينا ومنها ابتدءنا وان كان يعوزنا فلسفتها،لكن الآلاف منا طيلة عقود زهقت ارواحهم هنا،وهم يفلحون هذه الارض،يعبدون شوارعها ويبنون مصانعها ودور عباداتها ويستبسلون بالدفاع عن رملها ومائها،ويحمون مدنها المدججة بالفقر وسوء الزمان.وربما لم يجدوا في النهاية رغم كل هذا وذاك مكانا يتسع لبقايا عظامهم لتعود الى ملح هذه الارض ودفء ترابها.

   يبدو ان دمائنا كانت رخيصة حتى داخل اسوارنا وقلاعنا وثقافتنا،تسربت الينا من معتقدات دينية واوهام بدائية!فرحنا نتغنى بالاموات واستبدلنا مفاهيم القرابين والضحايا بالشهادة!وربما لهذا السبب لم تحصل دماء قتلانا على رثاء صادق او وقفة وفاء محنك،فولغ فيها عتاد المجرمين واراذل الناس او ربما كانت حلوة المذاق لمتعطشين كثيرين لم يترددوا عن سفكها دون اي خوف او اعتبار!فهل كنا ملائكة بين عصابات من الشياطين؟ام اخيارا منبوذين في مدينة تعج بالفاسدين او طيبين يعترضون الطريق بمواعظهم الاسطورية؟هل كنا نقتل لاننا حملنا افكارا جاءت من مدن باردة ؟؟ام لاننا كنا ابناءا غير شرعيين لاب غريب جاء من مكان بعيد؟ام كنا متصوفة ودراويشا عرضوا على سيوف الشريعة  المسلولة دوما في وجوههم؟

هل كنا نقتل لاننا ولدنا مبكرين بافكار من نوع غير مالوف؟ام كنا نقتل بحكم عادة تفشت منذ عصور في ثقافة بين النهرين؟ام كنا بضاعة تنتج على ايدي كهنة متحذلقين تحرك دمائنا طواحينهم الصدئة وتلبي سوق القرابين الهمجية؟كهنة احكموا حشدنا  لموت مجاني بأوهام واساطير اقرب الى عوالم حسن الصباح واقل اخلاصا منه بكثير.

  • من الذي استفاد من موتنا ؟

    لقد جرت مياه سوداء كثيرة وتغيرت طبيعة الاسئلة وطبيعة وحجم الامور!ولست هنا لاثير المزيد من الغبار او لاصفع وجه الحاضر المكفهر باحزاني واحزان الكثيرين من امثالي!ولكني احاول ان احاورك كما افعل كل عام وان اقدم المشهد الاخير اليك والى كل الذين قتلوا خلال ثمانية عقود!  

    فنحن الان على ما يبدو،وساصدقك القول،اقرب الى بضاعة تالفة.نحن ارث بال ثقيل وارض يباب وجداول هجرتها مياه الربيع المتدفقة العنيدة.نحتبي تحت خيام اوهامنا وذكرياتنا التي لا زلنا نقتات عليها في ليالينا الطوال الموحشات.لا زلنا نعبد الاسماء القديمة الغريبة وكتب الوصفات الجاهزة التي كتبت تحت نجوم بعيدة واصقاع نائية.لا زلنا بعيدين عن فلسفة هذه الارض،وتراثها وامجاد كفاحها الاسطوري التي خاضته طيلة قرون وقرون والتي نستطيع بيسر قراءتها،اذا شحذنا بصيرتنا،في شقوق هذه الارض في سهوبها وفيافيها وفي جباه فلاحينا المقهورين وكادحي مدننا المغبرة البائسين.لقد قررنا منذ زمن بعيد بكامل ارادتنا وذكائنا المشهود ان لا ننظر بهذا الاتجاه!

   في الثالث من ايار من عام 1983 قادتك بسالتك وبسالة الرجال الذين معك ان تغذوا السير باتجاة بؤرة الحدث.جئتم بكل ما لديكم من حماسة متقدة للدفاع عنا رغم عناء الطريق وقلة الزاد والسهر المضني في الخنادق.ولكن فجاة حاصرتكم اشرعة الموت بعشرات البنادق التي مدت اعناقها نحو روؤسكم.كنا قد غادرنا دون اشعاركم على ما يبدو؟وكانت الحياة قد تعطلت في ذلك الوادي الوديع اثرالهزيمة المروعة التي فزنا بها!

   لا استطيع بل لا اريد ان اتصور مدى دهشتك وحزنك وعشرات الاسئلة السريعة المتوثبة الجارحة التي طرقت بعنف احساسك في فهم اللحظة.ربما كنت كنسر كبير فقد فجاة قدرته على الطيران فأحس بخجل كاسر من عصافير الجبل الصغيرة التي اقتربت لتنظر اليه باستغراب.

 ربما كنت تبحث عن جواب  ما في تلكم الثواني المتسارعة المزدحمة بالاسئلة المتشابكة والامنيات التي لا يسعها قصر المسافة بين فوهات البنادق الممدودة نحوك وبين حمامة روحك .....

    لو كنت في احدى زنزانات الاعدام  لسمح الوقت الثقيل بترتيب الذاكرة ملايين المرات وبطرح الاسئلة والاسئلة المضادة،وبتأمل بطيئ في لغز الحياة والموت ولوضعت الاجوبة التي تمعنتها مرارا،ولملأت اجواء الموت بروح دعاباتك وسخريتك ولنقلت عدواها  للجميع،ولتأملت كل يوم تضاريس الوجوه التي احببتها والطرقات المغبرة المبثوثة بين النخل وبيوت الطين ووجوه الصبايا العائدات من الفرات وكيف يتقين الصيف في ظلال نخيل الطرقات!وربما فكرت بالكلمات الاخيرة التي تود ان تهمس بها  قبيل تلكم الثواني التي تسبق العبور الابدي الى الشاطئ الاخر حيث تفصلنا خطوات قليلة عن ذلك النفق الغارق بالضباب وبالصمت الابدي.

    لم يتسن لك شيئ من ذلك على الاطلاق اذ سرعان ما استحالت كل الوان الربيع من حولك الى شقائق حمراء غطست في دمك القاني.

    ها اني في الآخر أفي بوعدي اليك.وربما هو وفاء الى الاعتراف اقرب.فرغم كونك قد غادرتنا الى كنف الموت الا انني كابدت كي اجد شيئا مناسبا لوداعك،شيئا من شأنه ان لا يقض مضجعك في زورق موتك،وان لا تقشعر منه  بالنهاية  عظامك،ولهذا ابتعدت وساومت ولم اشأ أن اخبرك عن كيف ارتضى البعض منا ان يعمل اجيرا عند قاتليك بعناوين كبيرة كمستشارين سياسيين وصحفيين يحسنون صرف الحقائق وتبييض الوجوه وقد طرحوا رداء خجلهم بعيدا وهم يختبؤن خلف ظله الطويل وينعمون بعطاءه الوفير ... ولم اشأ ان اخبرك كيف يهضم البعض منا حق البعض الآخر وكيف يسطون على شرفهم ونبلهم وجرحهم ويلبسونه لمن يريدون بروح من ثلج وضمير منطفئ.

  • هل فزنا بشيئ؟

بغداد

25/7/2013