الحزب الشيوعي العراقي.. 5/ فيصل الفؤادي

يمكن تقسيم هذه الفترة (1934 – 1958) الى مرحلتين .

 

   المرحلة الاولى وتمتد منذ لحظة تأسيس الحزب الشيوعي في عام 1934 وحتى انعقاد الكونفرس الاول عام 1944.وبسبب حداثة التجربة وصعوبة الاوضاع وقلة الخبرة كانت فترة  التأسيس قد شهدت الكثير من الاشكالات تمثلت بخروج بعض الكوادر الحزبية وتشكيلها لمنظمات يسارية خاصة بها تحت يافطة شيوعية . اعتمدت هذه المرحلة من نشاط الحزب على نشر الفكر بين الناس وتشكيل أسس عملية للدعاية في الصحافة ونشر البيانات والاعلانات وغيرها .

واهم مايميز هذه المرحلة –

1-   ضعف الجانب الفكري والتنظيمي .

2-   قلة الخبرة في العمل التنظيمي والاعلامي والجانب السياسي .

3-   وجود أكثر من مركز حزبي , مما ولد تكتلات تنظيمية أخرى .

4-   الغياب المؤقت سكرتير الحزب (بسبب سفره الى موسكو للدراسة الحزبية ).

 

المرحلة الثانية

وتمتد من عام  1944 ولغاية اندلاع ثورة تموز الوطنية في عام 1958 و أتسمت بتطور الحزب أعلاميا وتنظيميا وجماهيريا. وفي هذه المرحلة تم تثبيت وترسيخ المبادئ الشيوعية في النظرية والتطبيق وفي التنظيم بشكل عام, ففي الجانب النظري جاء التمسك بالماركيسية – اللينينة وترسيخ الهوية الطبقية للحزب. أما في الجانب التطبيقي فسعى الحزب الى الدفاع عن مصالح الشعب العليا وخصوصا من العمال والكادحين وفقراء الريف والمدينة ,  وأنصب النضال في تقديم العرائض و الاضرابات والانتفاضات بل وصل أحيانا الى المجابهة مع السلطات الحاكمة. وابرز معالم هذه المرحلة:

 

1- تطور في العمل الحزبي بشكل جيد .

2- زيادة أعداد المنتمين للحزب وخاصة من الطلبة .

3- عقد المؤتمر الاول للحزب الذي صاغ منهاجا وبرنامجا للحزب ساعده  في تطوره اللاحق .

4- أعتماد الحزب على توسعه في الكليات وبعض المؤسسات الانتاجية , مما وضعه في موقع جيد .

5- الاعتماد على الجماهيرفي الاضرابات والتظاهرات وكذلك في الانتفاضات وتوج ذلك في انتفاضة 1952 ووثبة 1948، والعمل على المجابهة في بعض الاحيان.

6- أصدار الحزب لصحيفة (القاعدة) وهي لسان حاله وبشكل اسبوعي بعد أن كانت تصدر شهريا.

7- تأسيس التنظيم العسكري الخاص به ضمن حركة تنظيم الجنود والضباط .

8- نشوء وضع ثوري وشعبي في العراق والمنطقة والعالم.

 

وقد أشار مؤسس الحزب (فهد ) ,الذي كان له الدور الاساسي بعد رجوعه من الخارج ,لاشكال الكفاح السياسي وتهيئة الشعب لخوض غمار النضال بأشكاله البسيطة والعالية وأشار الى (تقديم العرائض الاحتجاجية والاجتماعات العامة والمظاهرات والانتفاضات الوطنية , وهذه الاشكال ترتبط بعضها ببعض  وتفعيل الاجتماعات والاضرابات وتنظيم الدفاع عن الجماهير ), كما اوضح السكرتير العام أفق العمل والنضال اللاحق من خلال مانص عليه ( الميثاق الوطني ) الذي صادق عليه الكونفرس الاول في شباط 1944 والذي جاء تحت شعار ( وطن حر وشعب سعيد ) وفيه كثير من الفقرات المهمة عن تاريخ العراق المعاصر . وورد في مؤلف السكرتير العام (كراس قضيتنا الوطنية ) والذي أصبح أساساً للنضال السياسي للفترة اللاحقة .

 

( الاستقلال والسيادة الوطنية , حكومة تعمل من مصلحة البلاد وجهازحكومة ديمقراطي , حل مشكلة التموين , تنمية أقتصادنا, رفع الانتاج الزراعي , أيقاف أستغلال الفلاحين والملاكين الصغار , والنضال من أجل الدفاع عن مصالح العمال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية , التعليم والمرأة وحقوق الشعب الكردي , والتعاون بين شعوب البلاد العربية والنضال ضد الاحتلال والاستعمار والامبريالية العالمية  ... الخ ) .

ولهذا أصبح الحزب أحد القوى الرئيسية في البلاد وتعزز موقعه وقد سقطت أكثر من حكومة وشكلت أخرى ببسب نشاطه . وعلى ضوء هذا التطور الذي لم يرح السلطات الحاكمة , اقدمت على اعتقال قادة القوى الوطنية والديمقراطية وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي في عام1948 وأعدامهم في سنة 1949 , والذي لم يشفع لهم التضامن العالمي والعربي والعراقي.

   ان اعدام قادة الحزب وتواصل حملة الاعتقالات المتكررة للكوادر الحزبية أثر على الحزب مرة أخرى خاصة خلال فترة السنوات الخمس التي تلت اعدام قادة الحزب: فهد وحازم وصارم , والتي ظهر فيها أكثر من مركز تنظيمي وتشظي التنظيم ثم كان الانشقاق الذي حصل داخل السجن والذي أثر بدوره بشكل فعال على مجمل عمل التنظيم الحزبي داخل السجن وخارجه .

 

   ابرز عناصر سياسة الحزب في هاتين المرحلتين؟ من ابرزها ما يلي:

 

ترسيخ وتعزيز التنظيم الحزبي في مرافق الحياة المختلفة , برغم سرية التنظيم , والعمل على تطوير أعضاء الحزب نظريا وتعليمهم أسس المبادئ العامة للنظرية الماركيسية اللينينة , واعتماد المركزية الديمقراطية والقيادة الجماعية  .

1- توسيع عمل الحزب بين العمال والكادحين وكسبهم الى الحزب وتكريس النشاط  بين الطلبة والمثقفين الذين كان لهم  دورا متميزا في أغلب الانتفاضات والاضرابات .وكذلك توسيع العمل بين الفلاحين في القرى والارياف .

2- العمل على قيام وحدة وطنية والتعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية ضد الاحلاف والمعاهدات التي تضر بمصالح شعبنا العراقي .

3- تأسيس الجمعيات والنقابات والاتحادات والتي كان لها دورا مهما في تحريك الشارع العراقي في أغلب الفعاليات والنشاطات .

4- العمل على القيام بالاضرابات والتظاهرات في المؤسسات الكبيرة والاساسية  لكسب الشارع وزج الجماهير الشعبيه بالنضال للوقوف بوجهه الاحتلال البريطاني والتأثير على الحكومة الملكية في تشكيل حكومة وطنية  .

5- بناء حزب قوي موحد يعتمد على العمال والشغيلة والمثقفين, ونبذ كل أشكال الهيمنة والتكتل والانحراف .

6- بناء الحزب على اسس اممية يسعى الى مصالح الشعب بالدرجة الاولى بغض النظر عن الانتماء القومي والديني والمذهبي والموقع الاقتصادي... الخ , وتحقيق المواطنة كأساس للانسان العراقي , وتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع ,هذه هي أهداف الحزب التي جاء بعضها في البرنامج الذي أقره المؤتمر الاول للحزب 1945 .

7- أعتمد الحزب على النضال السلمي من خلال كتابة العرائض والاضرابات وتوج بعضها بالانتفاضات.

8- توسيع وتطوير قواعده في المؤسسة العسكرية وخاصة بين الضباط .

(برغم من كون المؤسسة العسكرية كانت لحماية الطبقة الحاكمة  فأنها جزء حيوي من فئات الشعب العراقي ولديهم أفكارهم الخاصة وطموحاتهم ) , وقد عمل الحزب على كسب بعض الجنود والمراتب منذ عام 1936 وهم كما يثقف الحزب , أداة للنضال وليس للقمع ويجب تعبئتهم من أجل التحرر والاستقلال , ولهذا عمل الرفيق فهد من أجل تقريب هذه الفئات والتي ممكن أن تلعب دورا حاسماً مع القوى الوطنية والقومية .

وقد أشار الدكتور عقيل الناصري في مؤلفه عبد الكريم قاسم عن ماهيات السيرة الذاتية ... (غرز الحزب الشيوعي أولى خلاياه التنظيمية في فوج المخابرة وفي القوة الجوية , بأعتبارهم من أكثر المراتب تعلماً وشعورا بالغبن ومن الساخطين على سياسة النظام , ولمبررات تنظيمية وأيديولوجية , دفعته الى زرع خلاياه في رحم المؤسسة وهو الوليد في مسيرته السياسية ولم تشتد بعد قواه بما فيه الكفاية , وذلك لآنه في تلك الفترة كان التفكير بالاستيلاء على السلطة يمثل مقياسا (لثورة ونقاء الحزب ) فضلا عن ( أن العمل في صفوف القوات المسلحة لكسبها وتجريد الطبقات الحاكمة من سلاحها شرط أساسي من شروط انتساب الاحزاب الشيوعية الى الاممية الثالثة ) , ويضيف الكاتب أن زكي خيري ويوسف متي وبدرجة أقل حسن عباس الدرباس الذين كانوا المشرفين المباشرين عن خلايا الجيش , وتم الكشف عن التنظيم عام 1937 , وكان الشرط الرابع من شروط الانتماء للاممية الثالثة , التي كان الحزب الشيوعي العراقي عضوا فيها , ومما جاء في الشرط " وفي الغالب الاعم يجد الشيوعيون أنفسهم على القيام بهذا العمل بصورة سرية . إذ أن رفض القيام بهذا العمل يماثل الخيانة للواجب الثوري ولا يتفق مع الانتساب للاممية الثالثة [1]". وبالتالي هي دعو للاحزاب الشيوعية للعمل بين أوساط القوات المسلحة .

 

ومن خلال العرض المكثف السابق، وارتباطا بموضوع بحثنا يمكن القول أن الحزب الشيوعي العراقي لم يجابه خلال هذه الفترة السلطة الحاكمة بقوة السلاح، أي اعتماد نهج الكفاح المسلح أو الانتفاضة المسلحة ضدها، بقدر ما أن السلطة الحاكمة هي التي أستعملت القوة ضد أعضاءه. وهذا ماحدث فعلا أثر مقتل شاؤول طويق 1946في أضرابات كي فور(k4 ) او اضراب عمال كاورباغي 3 تموز 1946 والتي راح ضحيتها 16 شهيداً و27 جريحا، وما حدث في عام 48 وعام 1956 في أنتفاضة الحي الباسلة حيث اقدم النظام الملكي على اعدام  اثنين من كوادر الحزب هما عطا الدباس وعلى الشيخ حمود.

لم يلجأ الحزب الى الكفاح المسلح أطلاقا ولا يوجد في أدبيات الحزب أو في وثائق الكونفرس الاول1944 ولا المؤتمر الاول 1945.

   ورغم الملاحظة السابقة فانه لا بد من الاشارة الى أن كثير من الفلاحين في الارياف كانت بحوزتهم أسلحة تتألف من بنادق مختلفة الصنع، وكان بعض هؤلاء أعضاء في الحزب خاصة في ريف العمارة والكوت وفي أرياف المدن الاخرى و لهم بعض الاشكالات مع الشرطة والامن ولكن لم تصل الى مستوى المجابهة الحقيقية بقدر ما كانت محاولات فردية وعشائرية بحتة.

  ونستطيع أن نعزو ذلك ان الظروف الذاتية والموضوعية التي كانت غير مهيئة من جميع الجوانب .حيث ( كان نشاط الحزب الشيوعي التعبوي والتحريضي المتواصل بين العمال يجد صداه   في تنامي استعدادهم للتحرك الاضرابي والنقابي [2].. ).

ولم تشير وثائق الكونفرس الاول  1944 للكفاح المسلح  , حيث أفتتح الرفيق الخالد فهد( يوسف سلمان يوسف )  الكونفرس بتقرير عن الوضع السياسي ( قضيتنا الوطنية ) ومما ذكر فيه (أن الشعوب في العالم لم تعد ترضى لنفسها الاستمرار على العيش وفق النسق القديم ) . او وثائق المؤتمر الاول للحزب 1945 والتي قادها الرفيق الخالد ذاته على الوقوف بوجهة السلطة من قبل الحزب بقوة السلاح ولم يشرهذين الاجتماعيين الى ما يوحي لذلك كما لم يشر الرفيق فهد في  ( حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية او في مستلزمات كفاحنا الوطني) مايستدعي الى ذلك ( أن النضال ضد الاستعمار يستلزم أن تكون لدى المنظمات المجاهدة نظرية وطنية علمية واضحة , نظرية لا تنفصل عنها) .

 لقد عاش الحزب ظرفا صعبا منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي فقد مر الحزب بأكثر من أنشقاق أو تكتل ولاسباب مختلفة لامجال للحديث عنها , أضافة الى ضعف الكادر الحزبي فكريا وسياسيا , ومع هذا فقد أصبح الحزب في فترة قياسية حزبا جماهيريا ذو تأثير في الساحة السياسية العراقية , ووضع أفق العمل والمنهج المستقبلي للنضال ضد المحتل ومن أجل رفعة وكرامة الشعب بعيدا عن الاتفاقات والمعاهدات المذلة التي سعى النظام الملكي لعقدها مع الاحتلال البريطاني .

   فقد جاء في برنامج حزب التحرر الوطني والذي أسسه عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي (محمد حسين الشبيبي ) كحزب ظل وأصبح سكرتيراً للهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني بين عام (1946 و 1947 ) وقد جاء(في باب الاستقلال والسيادة الوطنية) ما يلي: ( يثمن حزبنا , ويضع في مقدمة كل شيئ وفوق كل شيئ  استقلال الوطن العراقي والسيادة الوطنية ويعمل حزبنا من أجل تعديل جميع المعاهدات والاتفاقات المعقودة بيننا وبين بريطانيا .... ). وقد أجيزحزب التحرر الوطني قانونياً و أستغل ذلك من خلال ربط نضاله السري بالنضال العلني الوطني والطبقي .

 

 



[1]  ماهيات السيرة الذاتية, د. عقيل الناصري ص 395 .

[2] عزيز سباهي / عقود من تأريخ الحزب الشيوعي العراقي ص 252