الشيوعيون في الأهوار ....  صفحات مضيئة في .. / علي عبد الكريم حسون

قيضّ لي أن أعمل مدرسا في ناحية الفهود / محافظة ذي قار للأعوام  1968 ولغاية 1970 , ونواحي الفهود والأصلاح والحمار هي مداخل هور الحمار الذي يلاصق رديفه هور الحويزة في ميسان ليكونا قاعدة مثلت  يصل رأسه الى  المدينة والقرنة في محافظة البصرة . والهور لغة هو البياض وليس المستنقع , وهو محوّر من الآرامية أو السريانية , لكن عربيا يفسر الهور من الأنهيار , أي انهيار الجرف مثلا , وفي الدولة الأسلامية , الأهوار تسمى البطائح  (رشيد الخيون في موقع أخبار ) .

ربما لتأريخ الثورات والثوار الذين خرجوا على ظلم  الدولتين الأموية والعباسية , ولطبيعة البيئة المائية وسواتر البردي والقصب , كانا سببا في لجوء الثوار لهذه البقعة المائية . ولم يكن الشيوعيين العراقيين غافلين عن ذلك , فشهدت أعوام الخمسينات من القرن الماضي , وتحديد العام 1954 وما تلاه , انتفاضات فلاحي الشامية في محافظة الديوانية وآل أزيرج في محافظة ميسان .

وفي الستينات أيضا , كانت الأهوار ملجأ للشيوعيين الفارين من قطعان الحرس اللاقومي بعد شباط 1963 , وبعدها أتخذوها  مأوى وقاعدة لأنطلاق انتفاضاتهم , وخاصة بعد العام 1967. فكانت أهوار الجبايش منطلقا لأ نتفاضة , لم يقيض لها النجاح , تبعتها انتفاضة هور الغموكة .

بعد خمسة  وأربعين عاما ...  تواجد الشيوعيين في موقع الحدث

`قائمقام الدواية في محافظة ذي قار وهو يتحدث لنا عن تأريخ المدينة , التي يبعد عنها هور الغموكة مسافة أحد عشر كلم , حيث شهدت المنطقة معركة غير متكافئة بين  أثني عشر مناضلا , وبين قوة من الشرطة السيارة وقوات من الجيش تسندها طائرة  هليكوبتر .  حمل اثتي عشر كوكبا حلمهم الثوري مطبقين اياه في أرض يمتد تأريخها للعصر السومري , الذي أفتخر القائمقام , وهو على حق , به . حيث أشار لعاصمة السومريين " لكش " التي تقع في المنطقة نفسها , وعن بدايات الكتابة السومرية , وتلال الفخاريات التي شهدت انبثاق أولى الحضارات الأنسانية .

 

 ماحدث في هور الغموكة

العملية تمت في نهاية  آيار 1968 , وبالتحديد  ليلة الثامن والعشرين على التاسع والعشرين منه , أي قبل ستة أسابيع من انقلاب 17 – 30 تموز 1968 الذي  شكلّ العودة الثانية للبعث . وفي الثالث من حزيران 1968 دارت المعركة الغير متكافئة , بين الثوار وقوة تفوقهم عدة وعددا .  وحسب مايورده حنا بطاطو في سفره الخالد ( الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ج3 ) , انهم هاجموا " مخفرا للشرطة في هور الغموكة في قضاء الشطرة من لواء الناصرية وأستولوا على خمسين قطعة من الأسلحة النارية , لكنهم  ظلّوا طريقهم في المستنقعات وتخلوا عن زوارقهم في لحظة سهو , وتغلبت عليهم في النهاية قوة تفوقهم عددا من اللواء الخامس عشر المؤلل , أما الحكومة فقالت أن ستة رجال قتلوا وسقطت طائرة هليكوبتر " .

كان قرار المجموعة بعد أن استقروا وسط بردي وقصب هور الغموكة , هو الهجوم على مخافر الشرطة في عمق الهور . أرتدوا زي الشرطة وبرتب متنوعة , تمّ لهم ماأرادوا بالأستيلاء على أسلحة الشرطة جميعا بعد أن جمعوهم داخل غرفة المركز , حيث ألقى عليهم قائد المجموعة الشهيد خالد محاضرة عن أهدافهم , هتف بعدها بأسم الشعب وبسقوط الرجعية .

أنتقلوا بعدها الى الهدف التالي , ربيئة أخرى , حيث حصل فيها ماحصل في الربيئة الأولى , بالأستيلاء على السلاح والعتاد وتجميعهم في غرفة واحدة بعد  تعريفهم بمباديء وأهداف الحزب الشيوعي العراقي , والتوضيح لهم بأن الشيوعيين ليسوا بقطاع طرق

في طريق العودة ظّلت المجموعة طريقها , فوصلوا الى هور عوينة الذي لايبعد سوى القليل عن هور الغموكة متوجهين  نحو هور الحمار . وفي وسط الطريق وبالقرب من مرقد " فوادة "  , تعرضوا لأطلاق نار كثيف من قوة الشرطة الآلية التي كانت تروم قطع طريق العودة عليهم لغرض تطويقهم ومحاصرتهم . بعدها قرروا العودة لمواجهة الشرطة بدلا من الأنسحاب . أثناء ذلك أصيب الرفيق منعثر سوادي بنيران رفيقه حسين ياسين خطأ , والذي كان ضعيف البصر , ظنا منه أنه أحد أفراد الشرطة .

مواقف مشرّفة لفلاحي الهور

واصلت المجموعة مسيرها طوال الليل مغيرين اتجاههم للوصول الى هور الغموكة , وأتفقوا على دخول احدى القرى القريبة للحصول على الطعام . ذهب حسين ياسين لمقايضة بندقية ومسدس بالطعام والماء . المفاجأة كانت أن الرعاة بعد أن عرفوا هوية المجموعة بكونهم شيوعيين , قدموا لهم الخبز والتمر بلا مقابل . كذلك أن شكوكهم كانت غير صحيحة بأحد الفلاحين الذي حياهم من على صهوة جواده دون أن يهتم بأمرهم , فلقد عاد ثانية بصحبة رجل آخر هو خاله حاملين اللبن والطعام والسجائر . كذلك حضر اليهم فلاح آخر مع ابن أخيه حاملين الطعام والسجائر أيضا .

اتفق الجميع على تقديم المساعدة لأيصال الرفاق الى أهوار العمارة , لابل عرضوا عليهم استضافتهم في أحد بيوتاتهم , الأمر الذي رد عليه قائد المجموعة الشهيد خالد بالشكر والأمتنان بعدئذ ذهبوا مع حسين ياسين الذي يبدو أنه كان يجيد التعامل معهم , فهو ابن المنطقة وأهله وزوجته في ناحية الفهود المطلة على هور الحمار . وحسبما يورد عقيل حبش  في كتابه الموسوم  " من أوراق انتفاضة اهوار : شهادة حية من لهيب المعركة " : أنه بعد سنين أوضح له الرفيق المرحوم علي عويش أبو احسان , بأن حسين ياسين وصل المنطقة فعلا والتقى مع أحد الرفاق " جاسم الكندور " طالبا مساعدته بأرسال مشاحيف ومؤونة للرفاق , الا أن ذلك لم يتم , لخوفه من شيوخ آل نايف وهم شيوخ بني سعد . أرتحل الرفاق بعدها مغادرين المكان مع رفيقهم الجريح منعثر سوادي .

صبي العاشرة من العمر يطّل على المجموعة

أثار هذا الصبي دهشتهم وهو ينزل اليهم بسرعة معاتبا اياهم : " انتم وين وآنه أدّور عليكم وأمي سمعت عنكم جوعانين وزعت الكم هذا الخبز والكيمر وتكول أمي أنتم معزومين عدنه الليله " .

شكره الرفاق وأوصوه بأن يكتم سرهم ولا يخبر أحدا عنهم ... كان رد الصبي رائعا بقوله : كيف أخبر عنكم وآنه أحبكم وأمي تحبكم مثلي .

المجابهة المحتومة

أحاطت سيارات الشرطة بالقرية لتفتيشها , فقررت المجموعة الأنتقال لموضع آخر في مجرى النهر استعدادا للمعركة راصدين تحركات وتجمعات الشرطة والمساندين لهم من أتباع الأقطاعيين . وفي الحادية عشرة والنصف صباحا بدأت المعركة , بعد تطويق كامل من قبل الشرطة مطالبين الرفاق بالأستسلام من خلال مكبرات الصوت , ردّ عليها الرفاق بالهتاف بحياة الحزب والشعب وجبهة الكفاح المسلح وبسقوط الرجعية والصهيونية .

طلبت الشرطة من المجموعة الأستسلام بدون قيد أو شرط , وفي الخامسة والنصف عصرا , وصلت المكان طائرة  مروحية مطلقة النار عليهم , ترافق ذلك مع رمي رمانة يدوية  على مواضعهم , التقطها الرفيق هادي بنية رميها  ثانية على مواضع الشرطة , الا أنها انفجرت بيده فبترتها ... عندئذ تصدى الرفاق للهليكوبتر فأسقطوها وقتلوا طيارها .

ومن خسة المهاجمين أنهم لم يقبلوا استسلام الرفيق هادي الذي بترت يده بأنفجار الرمانة اليدوية , فأمطروه بالرصاص , فعاد مسرعا  لمجموعته مصابا بجروح جديدة , خدعوه ثانية بقبول استسلامه فسحلوه الى   الخلف ليحققوا معه على الفور وهو جريح .

لم تتمكن الشرطة من اقتحام موضع المجموعة الا بعد أن نفذت ذخيرتهم , فأستشهد منهم ثلاثة هم : خالد أحمد زكي ومحسن حواس  ومنعثر سوادي . والأخير كان جريحا في صدره بأطلاق النار عليه خطأ من قبل رفيقه حسين ياسين , والذي قاومهم وهو جريح فأستشهد . كانت حصيلة  قتلى المهاجمين هي مقتل النقيب  طيار  الهليكوبتر وأربعة من رجال الشرطة وجرح خمسة منهم .

وليمة لأعشاب البحر

هي رواية السوري حيدر حيدر , والذي كتبها عندما كان يعمل مدرسا في الجزائر . بنى حبكتها الروائية على معلومات أمده بها أحد المساهمين في انتفاضة الأهوار تداولناها بطبعتها المستنسخة عبر تواجدنا في شارع المتنبي زمن  تسعينيات القرن الماضي . زاد من شهرتها أن الأزهر حرمها بطبعتها العاشرة

مظفر النواب وأرتباط شعره بالأهوار والفلاحين

كان شاعرا بالفصحى وعازفا على العود وعاشقا للموسيقى . ولد وتربى في المدينة , ولكن عام 1956 , كان عاما فاصلا في  حياته , فلقد قدّر لسفرة قام بها الى أهوار العمارة بدعوة من صديق ,  أن يستمع لأول مرة في سهرة على نهر الكحلاء , لمغني الهور المشهور " كرير " ولآخرين : جويسم وسيد فالح , والذي شبه صوت أولهم بصوت المغني الأمريكي اليساري المشهور بول روبنسن .

بعد ذلك وتحديدا فترة 1968 – 1969 , تنقل مظفر بين منطقة وأخرى في الأهوار . وهي الفترة ذاتها التي شهدت حراكا مسلحا للشيوعيين في أهوار  الغموكة في قضاء الشطرة , وأهوار قضاء الجبايش , وهور أبو زرك في ناحية الأصلاح . وقبلها كان لقصيدة " صويحب من يموت المنجل يداعي " أثرها المدوي , ردا على مقتل صاحب ملا خصاف , المتمرد على القرار الحكومي عام 1959 القاضي بأرجاع بعض الأقطاعيين الى حيث كانوا قبل الثورة .

بعدها قال النواب في هور الغموكة :

ليل الغموكة حزام 

صاح النوب صاح الهور كل الهور

صاح وياه ياهور الغموكة وكام

خالد أحمد زكي ... جيفارا عراقي

تحت هذا العنوان , نعى الشيوعيين الشهيد خالد , بمناسبة الذكرى الأربعين لأستشهاده , فقارنوا فعله , بما قام به جيفارا في ستينات القرن الماضي , حيث هجر كرسي الوزارة وتوجه الى غابات القارة الأمريكية الجنوبية ..... ترك خالد أحمد زكي عام 1967 لندن بكل أغراءاتها وعاد سرا الى العراق , ونزل في مطار بغداد متنكرا , ليطلق شرارة الثورة .  خاض مع رفاقه الأثني عشر معر كة غير متكافئة , فحوصروا وهم يقاومون , ولكن بعد أن نفذ عتادهم ولم ينجدهم أحد , تبين لهم , أنهم لم يعدوا العدة جيدا للمعركة , وأن الظروف المحيطة ( الموضوعية ) غير  ناضجة ولا مؤاتية لأشعال الثورة وتأمين انتصارها .

في الثالث من حزيران عام 1968 استشهد خالد واثنان من رفاقه , فيما أصيب ثلاثة آخرون , وأسر خمسة غيرهم , حكموا بالأعدام , ولكن سخط الداخل وتضامن الخارج حالا دون تنفيذ الأحكام , فتم تحويلهم لقصر النهاية .