
يوميات نصيرة ( ح 3 و 4 ) / ابتسام حداد
الحلقة الثالثة
حب الحياة أقوى من الموت
في وادي كوماته كل شيء فيه شحيح؛ حتى الطعام، بسبب بعد المقرات عن قرى كردستان. التموين يأتي من قرى تركيا عن طريق قجقجية ( مهربين ) ويقتصر على الأشياء الضرورية من؛ برغل، دهن، فاصوليا، عدس وحمص. مثلا نأكل عدس ثلاث وجبات ويصبح لونه أحمر عند الغداء بإضافة كم ملعقة معجون طماطم عليه. أما الرز فلم أتذكر أني تناولت منه في كوماته، يمكن كان غالي. المهم تامين الغذاء يأتي عن طريق هؤلاء يعني من البطر أن نأكل بصل أو بيض لأن توفيرهما صعب.
عاشت النصيرات تلك الأجواء مع قلة المستلزمات الضرورية. لا يوجد حلّ حين تشعر نصيرة بالجوع عند منتصف الليل، فلا تقدر على سد جوعها. عليها أن تصبر إلى الصباح. فالالتزام بالوجبات الثلاث لا يناقش. لذلك على النصيرات أو الأنصار عموما اخفاء جوعهم. هذا من ناحية الأكل والتموين، أما قضيه الغسل والاستحمام فيعد من الأمور الصعبة أيضا. بنينا حمام، عبارة عن أربعة أعواد من الخشب وأربع بطانيات وقدر كبير للماء. نجلب الماء من روبار( نهر صغير ) يبعد مترين عن ما يسمى حمام، وننتظر إلى أن يسخن الماء لكي نستحم. وينبغي الاسراع لأن توجد نصيرة أخرى في انتظار الدور. "يعني تمشيط ماكو شامبو ماكو!... ("هي كلش زايده شامبو ) كنا نستحم بنفس الصابون الذي نغسل الأواني به. كل تلك الأمور لم تكن تعني شيئا قياسا بالهدف الذي تواجدنا من أجله وهو ( اسقاط السلطة ) أو كما كان يطلق عليه بأن النظام (آيل للسقوط) ! مطلب كبير جداً قياسا إلى امكانياتنا وقوة السلطة. مع ذالك كنا مقتنعين ومندفعين لتحقيق الهدف.
كانت النصيرة حالها حال النصير، يعني لا يوجد أي امتياز إنما العكس ربما. يعني لا أتذكر أن نصيرة قالت اني مريضة ولا أقدر على المساهمه بحملة جلب الحطب. اكيد تمرض وتتعب ولكن المكابرة, وبعض الاحيان المبالغة والخجل من أن تصرح النصيرة بذلك، حتى لا يتولد شعور انها ضعيفة أو غير قادرة. تلك المكابرة تخص الحالات الإنسانية؛ الجوع والخوف.. الإنسان يبكي ويتألم، يحزن، ويعطش ويخاف، إنها مشاعر إنسانية طبيعية ولا علاقة لها بالبطولة والنضال. إن الأبطال يبكون كما في كل أساطير التأريخ. يراود كل نصيرة أو على الأقل كانت تراودني تلك المشاعر ومن المؤكد، النصير أيضا. ( ربما انا متحيزة للنصيرات بعض الشيء)، ولكن هذا الواقع الذي كان بدون أي رتوش. في وادي كوماته تشكلت لجنة ثقافية وبدأت بإصدار مجلة دفترية بعنوان "النصير الثقافي". وكذلك نشرة أخبارية تطلعنا عن آخر الأحداث. .. أبو حسنه أبو طويلب مع مجموعة من الأنصار شكلوا فرقة غنائية( سميت الخشابة)، وأنا كنت من ضمن هذه الفرقة ( على اعتبار أن صوتي جميل "ترى مو صحيح، ها"! ) منح هؤلاء الأنصار الكثير من الألفة لليل كوماته الطويل. بالمناسبة، في ﮔﻠﻲ كوماته الأول الارسال ضعيف جداً للراديو، فلم يكن بمقدورنا سماع أغاني أو أخبار وبرامج. كان وادياً عصياً بكل شي حتى الشمس ما كانت تصل إليه، فكنا نعبر إلى الجانب التركي حتى نحظى بها. لا أدري من الذي اختاره؟! وادٍ، يمكن حتى السلطة ما تعرف أنه يوجد هكذا واد. كان الحزب يعطينا راتب، خمسة دنانير في ذلك الوقت، ( بعدين صارت زيادة ). الخمسة دنانير لا ندري ماذا نعمل بها! لا يوجد دكان ولا أحد ممكن أن نوصيه ليشتري لنا شيء. المتوفر، تبغ وسجاير يجلبها المهربون. لذلك النصيرة غير المدخنة تتبرع براتبها إلى نصير آخر مدخن. راتبي كان أبو نصار مستفيد منه. ( لكن بعد أن نزلنا مفرزة حيث توجد دكاكين في بعض القرى، تغير الوضع). سأكتب عن أول مرة شاهدنا دكان في احدى القرى وماذا اشترينا!
كان ﮔﻠﻲ كوماته محطة اساسية للانطلاق لمهام أكبر وهي المشاركة بمفارز واثبات وجودنا أكثر.الحلقة القادمة اكتب عن أول مفرزة ساهمت بها النصيرة الشيوعية.
......................................................
الحلقة الرابعة
التوجه إلى القرى كردستان
بعد فتره من وصول الرفيق أبو جميل إلى وادي كوماته في أواخر صيف 1981، تقرر تشكيل مفرزة للتجول في المناطق الواقعة بين جبلي متين وﮔﺎره، تم ابلاغ كل النصيرات للمساهمة بالمفرزة وكان الغرض منها إعلاميا، وفي جانب منها، تعريف المنطقة بوجود نصيرات بشمركة كجزء من حركة أنصار الحزب الشيوعي العراقي.
تشكلت المفرزة من الرفاق: أبو جميل أبو يعقوب أبو مشتاق الشهيد أبو هديل , أبو انيس، الشهيد أبو جهاد، الشهيد أبو لينا فصيل، أبو نادر ،الشهيد أبو ايمان ,الشهيد ناهل, أبو سامر المصور , احمد قلاو والنصيرات ,أم عصام ,أم امجد , تانيا ,عشتار .سلوى , ليلى ,الشهيدة فاتن ,أم هيفاء , دروك , أم نصار.
منذ الصباح الباكر لبسنا ملابس البشمركة النظامية مع كامل القيافة العسكرية وتحركنا صوب سلسلة جبلية لنعبر من خلالها إلى المنطقة المحرمة التي هجرت السلطة قراها ومنعت الناس من التحرك ضمنها، بإقامة عدد من المواقع العسكرية والربايا. كان توجه المفرزة الوصول إلى قرى منطقة البرواري. تعتبر قرى برواري باله من القرى المنسيه بمعنى لم تصلها مظاهر الحياة الحضارية، يعني يعيشون كل يوم بيومه.. لا توجد فيها كهرباء.
من الطرائف التي تعرضت لها كل نصيرة، أن نساء تلك القرى غير مستوعبات أن أمامهم امرأة. لذلك من أجل التأكد، لجأ البعض منهن إلى تحسس أجسادنا ليتاكدن من صحة ادعائنا، رغم أشكالنا وأصواتنا النسائية. شاعت بالمنطقة أن الشيوعيين معهم نساء بشمركة حاملات سلاح. راحت الأخبار تنتشر بسرعة. لذلك، كل قرية ندخلها تأتي نساء القرية لمشاهدتنا والتأكد من الخبر. مرات عدة يطرحن أسئلة محرجة من مثل؛ كيف تنامون متزوجات أم لا، إضافة لأسئلة اخرى.
كانت المفرزة خطوة مهمة بالنسبة لنا رغم أنها لم تكن ذات مهام قتالية، بل استطلاعية إعلامية. كانت مساهمتنا مفيدة في القرى المسيحية أو في بعض البيوت التي يتكلم أهلها العربية وأم عصام تجيد اللغة الكردية وهي التي تشرح للقرويين والقرويات دورنا ومهامنا النضالية وسياسة الحزب في الكفاح المسلح ضد السلطة الصدّامية. وفي القرى المسيحية , كانت ام عصام ودروك وأم أمجد ينشطون بالحديث مع أهلها باللغة الآشورية. تعرفنا على طبيعة المنطقة وعلى أسلوب الحياة ولمسنا تعاطف البعض معنا. ولأول مرة يلتقي أهالي القرى الكردية بنصيرات يحملن الكلاشنكوف ويمضين جنبا إلى جنب مع الأنصار مما ترك ذلك ارتياحا كبيرا وواضحا على النسوة في تلك القرى المحافظة. هذا لا يعني لم تظهر نظرة سلبية بسبب قوة تأثير التقاليد المحافظة وخاصة حين بدأت النصيرة أم عصام تثقف عن حقوق المرأة وواجباتها ومساواتها مع الرجل. رجال القرى خافوا أن يحصل تمرد بين النساء القرويات. كنا نتوزع على بيوت القرية نصيرتين مع نصير مرات اكثر. بعد وجبه العشاء التي تقدمها العائلة الكردية نبدأ بتثقيفهم ضد السلطة وجرائم صدام. تخيلوا بلغتنا البسيطة نطرح موضوعات سياسية. كان رب الأسرة يهز رأسه يجاوب: "اري والله صدام بيسه"! يعني اي والله صدام وسخ! ربما لم يكن مقتنعا. المهم كانت مهمة صعبة جداً.
للعلم، هذه الأحداث تخص قاطع بهدينان فقط، القواطع الأخرى ربما لا توجد مشكلة في اللغة بسب أكثر الأنصار كانوا من أبناء المنطقة ويتكلمون اللغة الكردية.بعد بضعة أيام التقينا بالمفرزة التي كانت بقيادة أبو شروق (ملازم شاكر) عند أطلال قرية مهجرة، وصار تجوالنا مشتركاً. نسيت أن أذكر؛ سبقتنا النصيرة أم منار التي كانت وجهتها إلى الداخل بمعنى هي أول نصيرة نزلت مفرزة ...
أهم المشاكل التي صادفتنا؛ عدم مقدرة بعض النصيرات البدنية على المسير الطويل حينما يكون في أماكن وعرة أو ذات انحدار حاد، والأمر الثاني هو عدم معرفتنا للغة الكردية وثالثاً محدودية خبرتنا العسكرية والتثقيفية،رابعا طبيعه القرى الكردية ومدى تقبل نساء بشمركة حاملات سلاح وهن وسط الرجال. مرات نظرة فخر ومرات نظرة بها علامات استفهام؟ وأخيراً عدم توفر حمامات في معظم القرى، ولكننا كنا في بعض الأحيان نستعير قدراً أو صفيحة من القرى ونذهب إلى مكان بعيد للاستحمام وغسل الملابس، إضافة إلى إشكالات المرأة البيولوجية. ............ تعلمنا الكثير من تلك التجربة ...و تأثير هذه المفرزة كان كبير وخاصتنا كانت بقياده الرفيق ابو جميل (توما توماس الذي عاصر الحركة الكردية منذ نشوئها وشخصيه لها وزن ) اعطت للنصيرات دور اساسي وايجابي على جماهير المنطقة ورفع معنوياتها دام تجوالنا أكثر من شهر وعدنا إلى مقر ﮔﻠﻲ
كوماته. اثناء تواجدنا بالمفرزة سمعنا بوصول مجموعة أخرى من النصيرات.
نستكمل فيما بعد في الحلقة الخامسة