من تاريخ الكفاح المسلح لانصار الحزب الشيوعي العراقي الحلقة 33/ فيصل الفؤادي
الفصل الثامن عشر
18 – نهاية الكفاح المسلح
الهجوم وإنتكاسة الحركة وجريمة الأنفال اب عام 1988
بعد أن انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية على ضوء قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 598 الصادر في تموز 1987,حيث نص القرار على انسحاب قوات الطرفين إلى حدود ما قبل الحرب وتبادل الأسرى وتطبيق بنود القرار المذكور . تأخر التنفيذ بسبب التعنت والتسويف والبطء من قبل الطرفين في المفاوضات والتي امتدت إلى عام كامل تقريبًا.
توقفت الحرب العراقية الإيرانية في 8/8/1988 , وبموافقة إيران المفاجئة على وقف إطلاق النار, والتي وضعت بعض الأحزاب العراقية في موقف صعب التي كانت تعول على أن انتهاء الحرب هو بسقوط صدام حسين.
(.. ففي 8 آب 1988 وافق خميني على وقف إطلاق النار، وفي 20 آب دخل حيز التنفيذ، مما مهد للنظام البعثي إمكانية سحب المزيد من قواته من الجبهة الإيرانية، وزجها لإكمال عملية الأنفال في كردستان. وصل عدد القوات حوالي 200000 من أفراد الجيش المكون من الفيلق الأول والثاني والخامس والحرس الجمهوري والحرس الخاص وما يسمى بالجيش اللاشعبي بالإضافة إلى الأفواج الخفيفة واستخدم كافة أنواع الأسلحة ومنها السلاح الكيمياوي[1]).
بعد وقف اطلاق النار , وجهت الحكومة الدكتاتورية حربها على البيشمة ركة – الأنصار الذين يناضلون من أجل إسقاط هذا النظام البربري, اذ الهجوم كان متوقعًا من البعض ، لان السلطة تريد أن تصفي الحركة المسلحة لقوى المعارضة العراقية مرة والى الابد.
وبعد ان هدأت الأوضاع والقصف على الجبهة الشرقية ورجع كلا الجيشين إلى الحدود السابقة. قام النظام بتهيئة وتجهيز جيشه المتكون من ثلاثة فيالق والذي لم يأخذ القسط الكافي من الراحة حتى زجّ في حرب أخرى وبمشاركة قوات من الأفواج الخفيفة وجحوشه للقيام بعملية كبيرة ضد القوى المعارضة له.
شنت قوات السلطة العراقية الهجوم الهمجي على المناطق المحررة من كردستان العراق، وقدرت القوات المهاجمة من جيش والجحوش بحوالي 150 ألف مدعومين بطائرات الهليكوبتر والأجهزة الإستخبارية والأمنية والمخبرين.
كان النظام منزعجًا من قوى المعارضة الوطنية لانها تضعف من قواها، وهي بمثابة (سكين في خاصرة النظام)، لذا بذل جهودًا جبارة في سبيل إنهاء وضع هذه الأحزاب وقواتها من الأنصار والبيشمه مركة، ولهذا كانت تحضر لعملية شاملة حين تسنح لها الظروف الملائمة، خاصة بعد تعيين صدام حسين لإبن عمه علي حسن المجيد الملقب بعلي كيمياوي مسؤولا عن المنطقة.
في 25 أب 1988 بدأ هجوم النظام في حملة اطلق عليها اسم (الأنفال) وبعد هذه الإستعدادات الكبيرة، بدأت حملات الابادة السيئة الصيت، اذ بدأت عملياتها العسكرية الواسعة واجتاحت كل القرى التابعة لأقضية زاخو والعمادية (محافظة دهوك)، والشيخان وعقرة (محافظة الموصل) ومناطق واسعة من محافظتي السليمانية وأربيل، ودمرت كل مظاهر الحياة بنسفها وإحراقها للقرى والبساتين والينابيع وباستخدامها البشع للأسلحة الكيماوية المحرمة دوليًا.
وخلال شهر تقريبًا من الهجوم إستطاعت القوات النظامية اخراج قوات المعارضة من المناطق المحررة بعد أن دمرت أكثر من أربعة آلاف قرية وقصبة، وسيطرت على المنطقة بعد ان أجبر الأهالي فيها تحت قوة السلاح وسكان المنطقة على السكن في معسكرات جماعية، وكان هناك الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى. وفي وسط همجية ووحشية النظام الفاشي لم يجد أكثر من مئة ألف مواطن ومن أجل الحفاظ على حياتهم سوى الإضطرار إلى ترك قراهم وممتلكاتهم، واللجوء إلى تركيا وإيران في ظروف عصيبة وقاسية. و(إستمرت حملة الإبادة أسابيع قليلة، شهد فيها الشعب الكوردي مأساة مروعة تضاف إلى سجل بطولات مارشال المارشالات المزيف، في حربه الشوفينية لإبادة الشعب الكوردي ولتصفية الحساب مع قوات البيشمه ركه، أسابيع شهد فيها كل مواطن كوردي مأساته الخاصة ومأساة شعبه، في صور وأحداث تبدو قريبة إلى أجواء الأساطير وخرافات ما قبل التاريخ فيما لو جمعت كلها وقدمت للرأي العام حملات الإبادة الجماعية السيئة الصيت، ولا أستطيع أن أصور هذه الأحداث[2]).
وضع النظام نصب عينه وكرس جهدة المادي والمعنوي على كيفية القضاء على قوى المعارضة العراقية المسلحة والقضاء على طموحات الشعب الكردي.
وكانت (جريمة الانفال هي سلسلة من العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الحكومية حيث تشير الوثائق إلى قيام الفيلق الأول ومقره كركوك والفيلق الخامس ومقره أربيل مع قوات الحرس الجمهوري وقوات مغاوير وقوات الأمن والطوارئ مع قوات أخرى بشن أعنف هجوم مضاد بلغ ذروته في الفترة الممتدة بين شباط 1988 و6 أيلول 1988 وتوزعت إلى 8 مراحل:
المرحلة الأولى: الهجوم على مناطق سركلو وبركلو.
المرحلة الثانية: الهجوم على قرداغ.
المرحلة الثالثة: الهجوم على كرميان (أعنف هجوم راح ضحيته عشرات الألوف من الضحايا).
المرحلة الرابعة: الهجوم على حوض الزاب.
المرحلة الخامسة والسادسة والسابعة: الهجوم على المناطق الجبلية المحيطة بأربيل.
المرحلة الثامنة: الهجوم على بهدينان بعد توقف الحرب العراقية الإيرانية)[3].
كانت هذه المراحل مخطط لها من قبل النظام الدكتاتوري بعد انتهاء حربه مع إيران ووفق مجموعة من الإجراءات التي تحدثنا عنها في تهجير القرى وتدميرها والحصار الاقتصادي والإعدامات للناشطين من قوى المعارضة والقتل الجماعي والإرهاب والتهجير.
لقد بلغ عدد ضحايا الأنفال 182 ألف إنسان كردي ومئات الآلاف استطاعوا الهرب إلى دول الجوار إيران وتركيا.
وجرى انسحاب قوات المعارضة بشكل غير منظم وعشوائي لأنها لم تنظم قواتها بشكل كافٍ، إضافة إلى الدعاية التي مارسها النظام في دعوته إلى إصدار عفو عام، أربك وضع الجماهير بشكل عام وتردد عند بعض قوات المعارضة. (لقد انتكست الحركة المسلحة في كردستان العراق وانسحبت الوحدات الأنصارية وسائر قوات ب. م. – البيشمه مركة من سائر مناطق كردستان باستثناء خواكورك حيث مقر المكتب السياسي للحزب، وظلت الوحدات الأنصارية تخوض معارك ضارية في خواكورك إلى جانب قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني وبفضل الوجود الكبير لها، ضد الحشود الضخمة للقوات المسلحة للنظام ولأكثر من خمسين يومًا وكان آخرها معارك (قبر ظاهر). وانسحبت وحداتنا الأنصارية بعد ذلك في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد إلى الشريط الحدودي في دوله كوكا ونوكان وناوزنك[4] ).
قاومت فصائل الانصار في بيربنان وارموش تقدم قوات الحكومة من جيش وجحوش , وبقيت هذه الفترة الطويلة وهي بظروف غاية في الصعوبة من نقص في التموين وصعوبة نقل المياه ,و قلة السلاح ونوعيته.
بدأ الهجوم مباشرة بعد توقف الحرب كما ذكرنا ، ولكن في فترات مختلفة على مناطق السليمانية وأربيل ودهوك، فقد بدأ في النصف الأول من شهر آب 1988 حيث (كنت في لولان منذ بدايته آب حتى 16 منه- راجع كتابنا مذكرات نصير والكثير من التوضيحات). وكان الهجوم كبيرًا على منطقة المثلث حيث كان القصف المدفعي على أغلب القرى الحدودية، مما تسبب في هجرة عوائل كثيرة إلى داخل إيران وتركيا، أما قوات الأحزاب من الأنصار والبيشمه مركة فقد جهزت نفسها إلى عملية كبيرة كانت تعرف أن النظام مصمم على أبادة هذه القوات وجماهيرها التي كانت تدعم البيشمه مركة معنويًا. لقد حدثت معارك كبيرة في خواكورك والتي أعاقت هجوم النظام البري المدعوم بالطائرات، وقد قاومت قوات الأنصار والبيشمه مركة في هذه المناطق بالسلاح المتوفر بعد أن صعدت إلى الجبل مجموعة مقاتلة وكان قتالاً ضاريًا، كأنها جبهة قتال، وردت قوات النظام بقصف مستمر وكثيف أدى إلى استشهاد أحد الأنصار وهو (مام علي من حزب سازمان الإيراني وهو أستاذ لمادة الفيزياء) وهو من الضيوف على الحزب الشيوعي.
أما في مناطق السليمانية فقــد بدات معارك ضارية في وقت مبكر وقد قاومتها قوات البيشمه مركة وبالأخص قوات الإتحاد الوطني والقوات الشعبية المتواجدة في القرى والمنطقة لفترة طويلة، راح فيها العديد من القتلى من جميع الأطراف. أما أهالي القرى فبدأوا بالانسحاب منذ وقت مبكر حيث كان لديهم علم بمخططات النظام الهمجية، بعد أن تركوا كل ما يملكون وقد استباحتها قوات النظام بعد أن اجتاحت مناطقهم الآمنة.
أما في بهدينان حيث تتواجد قوات الأنصار والبيشمه مركة من الحزبين الشيوعي العراقي والديمقراطي الكردستاني في مناطق كلي سيدرة (سيانا)، وكذلك في مقر قاطع بهدينان في كلي ساطور وجزء من مقر المكتب السياسي في نيروة والفوج الثالث في كلي هسبة والمفارز المنتشرة في المنطقة عمادية وبامرني والقرى المحيطة والفوج الأول في كلي مرانه والمناطق المحيطة بجبل كارا والدشت (السهل) فقد انسحبت كل حسب ظروف وإمكانية الإبتعاد عن مناطق الخطر والحصار.
اما مقر القاطع كلي زيوه الذي سبق وتم أخلاءه منذ فترة ولم يبقى لنا في هذا المقر غير حضيرة مكونة من 7 الى 10 انصار لمتابعة زراعة البساتين ونقل المواد التموينية . فقد قصف يوم 24/8 بثمانين صاروخا انطلقت من راجمات على دفعتين من العمادية وديرلوك او من سرية سري زي ووقعت الصواريخ بالقرب من فصيل السجن حيث يتواجد فيه 7 انصار وهم (ابو نادية وعمـودي وابو وسن وابو جواد ومنذر وابو سعد وسلام مروكي ).وتبين ان هذه الصواريخ محملة بغاز الاعصاب والتي على اثرها استشهد الانصار ابو جواد وابو وسن حيث سقطوا على السفوح في مجرى الماء والغابة القريبة وعند الزاب استشهد النصير ابو سعد).
وانسحبت قواتنا (سرية المقر في كلي ساطور وقوة من المكتب السياسي) التي تجمعت خلف مقرنا في نيروه وسرية قاطع بهدينان وبدء الانسحاب في رحلة طويلة وسط القصف من قبل المدفعية والطيران .بعد ذلك تجمعت هذه القوات مع قوات اربيل والمفارز الاخرى قرب الحدود العراقية التركية . وقررت ان يدخل تركيا الانصار الغير قادرين على السير والمرضى وكبار السن والعوائل .وهكذا حسم الموقف بدخول بعض الانصار وجميع العوائل الى تركيا بعد ان تم تجريدهم من السلاح حيث دفنت في اماكن معلومة لبعض الانصار,اما القادرين على السير فيواصلون المسير الى الحدود الايرانية العراقية حيث تتواجد بعض قواتنا والقيادة من رفاق المكتب السياسي في ( خواكرك ) وهذه هي اصعب لحظات التسليم بالنسبة للنصير. اما قوات الفوج الثالث فقد انسحبوا مع العوائل ودخلوا الى تركيا ثم تم تجميعهم في مجمعات خاصة وسط حراسة من الجندرمة.
أما الفوج الأول فكانت قضيته أصعب نظرا كونه بعيدًا عن الحدود حيث تواجدت الكثير من عوائل الأنصار مما حملهم مسؤولية كبيرة تجاههم، وعاشوا أيامًا ثقيلة وصعبة للغاية في اتخاذ قرار ينقذ هذه العوائل. وفي مثل هذه الظروف فقدنا عوائل الأنصار من الاطفال والنساء وكبار السن بعد ان سلموا انفسهم الى السلطات الحكومية.
واشير الى ماكتبه النصير أبو نتاشا حول الموضوع حيث كان احد الانصار المنسحبين مع هذه القوات فيقول، (.. بدات بوادر تحشدات السلطة لقواتها ومرتزقتها في بهدينان بعد دخول وقف اطلاق النار بين العراق وإيران حيز التنفيذ في 20 آب 1988، وبدأ أنصار الفوج الأول المنتشرون في بعض قرى بهدينان التوافد على مقر الفوج لتقديم المعلومات المستوفاة من أهالي المنطقة ومواقفهم من الوضع الجديد. إن الأوضاع المستجدة لم تكن لتسمح بطرح خيارات ومناقشتها لأن الوقت يمر بسرعة، بسرعة تقدمت قوات النظام المغيرة مستهدفة مقرات قوات البيشمه مركة والقرى وسكانها، وكانت طائرات النظام قد أسقطت كميات كبيرة من الاصباغ بالقرب من مقراتنا ويظهر أن هذه العملية كان هدفها تحديد أماكن تواجد الأنصار وتحديد مناطق الخطر للقوات المتقدمة. لم يكن أمام أنصارنا سوى الحذو حذو سكان القرى القريبة الذين بدأوا بالنزوح قبل هذا الوقت للنجاة بحياتهم حاملين معهم الأطفال الصغار وما خف وزنه من طعام وفرش بهدف الوصول إلى الحدود التركية أو الإيرانية. كان الإتجاه هو بحث الموقف المتردي مع قيادة بيشمه مركة الحزب الديمقراطي الكردستاني في المنطقة لأننا حلفاء في جبهتين والتنسيق معهم ضرورية لطريقة الإنسحاب ومساعدة الأهالي الذين مازالوا باقين في قراهم، فوجئنا بأنهم قد انسحبوا بدون أن يعلمونا بذلك من مقرهم في كلي سيدره. فقررت محلية نينوى للحزب الشيوعي وكان سكرتيرها الرفيق أبو سالار وكيل وزير الخارجية حاليا ,في اجتماعها يوم 24/8 الإنسحاب صباح يوم 26/8 بعد تناول الفطور باتجاه مقر قاطع أربيل في كافيه على أن يتم إرسال عوائل الأنصار (32 عائلة – 200 فردًا) إلى مقر الفوج الثالث في كلي هسبه مساء يوم 25/8، واستعد أنصار الفوج لاستقبالهم على أن يتم إرسالهم بسرعة. تم اختيار مجموعة من أنصارنا لمرافقة العوائل لإيصالها إلى الفوج الثالث، لأنّ المهمة كانت حسّاسة وذات مسؤولية كبيرة. بدأت مسيرتهم أثناء الغروب يوم 25/8. إنتظرنا برقية من الفوج الثالث صباح اليوم التالي26/8 بوصول العوائل اليهم بسلام. رغم هدوء تلك الليلة لم يدخل النوم إلى أجفاننا، لأننا لا نعلم ماذا سيكون الوضع عليه بعد ساعة. وفي حوالي منتصف الليل قدم أحد الرفاق المرافقين للعوائل ليخبر قيادة الفوج بعدم تمكّنهم من عبور الشارع بين سرسنك ومدينة العمادية، حيث سيطرت عليه آليّات النظام الثقيلة (دبابات ومدرّعات ومدفعية وناقلات جنود)، وبعد قليل سمعنا صراخ ألأطفال وصياح النساء وهم في طريقهم إلى مقّر الفوج وانتابهم التعب والإرهاق لأسباب نفسية وجسدية، لقد تأخّرنا.
أما المحاولة الثانية فكانت عصر يوم 26/8 بعد أن أخذت العوائل قسطًا من الراحة ليتمّ إرسالها إلى مقّر قاطع أربيل لأنصارنا في قرية كافيا على أن ينسحبوا مع أنصار قاطع أربيل ثمّ بإتّجاه الزاب ثمّ ... سألت سكرتير المحلية لمأذا لا ننسحب سويّة مع العوائل، فردّ بأنّ العوائل تسير ببطء ونحن سننطلق صباح غد بعد الفطور ولو تأخّرنا يومًا واحدًا ونلحق بهم في الطريق. يا لها من نزهة! توجّهت العوائل إلى قاطع أربيل وأنصار الفوج الأول ينتظرون وجبة فطور اليوم التالي.
كانت ليلة 26/27 هادئة والحراسات مستمرّة كالعادة وأغلب الأنصار نائمين فوق سطوح القاعات، ولكن لا أعتقد بأنّ أحدًا منهم يستطيع النوم بسبب الظروف الخطيرة. في حوالي الساعة الثانية ليلاً شقّ الهدوء صوت قذيفة قريبة من المقر. أسرعنا نحو نقطة الحراسة وتمّ الإتصال بربيئة مقر القاطع من قبل الرفيق توفيق وأكدّ رفاق الربيئة بأنّ القصف باتجاه مقرّنا. إضطرينا في تلك الليلة بعد فطور سريع ترك مقر الفوج باتجاه قاطع أربيل، وكلف بمهمة قيادة المجموعة (حوالي 100 نصير) أحد الرفاق الذي اعتذر عن ذلك. بدأنا السير في حوالي الساعة الرابعة صباحًا مرورًا بقرية آطوش. كانت آطوش قرية حاضنة لعدد من عوائل الأنصار، كانت تدخل الفرحة في قلوبنا عندما كنّا نقصدها، حيث صيحات الأطفال وضحكاتهم وبكاءهم وأصوات الكبار وبساتينها وأزهارها الجميلة ودعوات العوائل لنا بالجلوس لشرب الشاي وتناول أطراف الحديث عما يجري في بلدنا المثقل بكابوس البعث. أما في هذه المرّة كانت القرية حزينة وكأنّها تعاتب أهلها الذين غادروها مجبرين منتظرة أجلها المحتوم على أيدي أيتام هتلر لتلتحق بآلاف القرى الكردستانية التي أزيلت من الوجود. كنّا آخر مجموعة تسلك ذات الطريق الذي سلكه ألآلاف من أهالي القرى والمحفوف بمخاطر لا يمكن التنبؤ بها. بعد أن تعدينا آطوش وعند أحد فروع نهر الزاب كانت هناك بعض العوائل مع الأطفال مفترشين الأرض لنيل قسط من الراحة، وعندما سألهم رفاقنا عن وجهتهم، كان الجواب: لا ندري ربما الحدود التركية مع الآلاف التي أمامنا. ونحن نسير بالتّجاه كافيا أخذ عدد الناس بالإزدياد، وقسم منهم يسير بعكس الإتجاه .ثمّ جاءنا الخبر الأكيد من رفاقنا بأنّ عوائلنا لم تستطع الوصول إلى هناك لأنّ الجيش والجحوش إحتلّوا مقر قاطع أربيل، وكان الأنصار قد أخلوا القاطع قبل وصول قوّات النظام بساعات. لقد تأخرنا مرة أخرى)[5].
كان وضع قيادة الأنصار في فوج مرانه مع العوائل صعبًا جدًا، فقد انقطعوا عن العالم ولا يعرفون ماذا يقررون وما هو مصيرهم ومصير عوائلهم وليس أمامهم خيارات كثيرة .
إذ(في ليلة 6/7 أيلول مرورًا بقرية باني وحصولنا على الخبز اليابس منها، أخذنا قسطًا من النوم والراحة في مكان "أمين" بعيدا عن القرية، وبعد الظهر في طريقنا إلى أنصار الفوج الأول لم نرَ أحدًا من ذلك الجمع الهائل من الناس، وكان رفاقنا قد انتقلوا إلى مكان قريب من مقرّ الفوج. وعند الإستفسار عن الأوضاع ومصير عوائل رفاقنا كان الأمر واضحا بالإستسلام لـ "قرار العفو" الذي أصدره المجرم رئيس النظام. سألت الرفيق أبو سربست عن سبب إيعاز عوائلنا بالتسيلم للسلطات، فردّ: بعد نقاش طويل في اللجنة المحلية حول الأوضاع، وبشكل خاص وضع العوائل وجدنا أفضل طريق هو أن يسلمّوا أنفسهم وربما يسجنون لفترة، ولكنّه أفضل من المصير المجهول. كان ردّي فقط: "لقد سلّمتم الخروف للذئب"، فأجابني: "لو كنت هنا لوافقت على ذلك". وعندما تحدّثت مع الرفيق أبو عمشة، تحدث بعصبية وقال: كنت الوحيد الذي لم يوافق على هذا القرار، ولكن لا يمكن أن أتصرّف لوحدي وليست عائلتي أفضل من بقية عوائل رفاقنا[6]).
لقد انتقلت الحركة ( الانصار ) ككل من الأراضي العراقية بسلاحهم الخفيف والمتوسط إلى أناس عاديين بدون سلاح (مدنيين) في دول الجوار حيث دخل عشرات الالاف من الأنصار والبيشمه مركة والعوائل من أغلب القرى الحدودية إلى تركيا وإيران وسوريا، والذي بقي كان مصيره مجهولاً حيث أعدموا جميعًا، إنها جريمة الأنفال التي راح ضحيتها حوالي 180 ألف مواطن، والتي اكتشفت مقابر بعضها بعد سقوط النظام الفاشي. (يبدو لأول وهله أن الحركة الأنصارية أخفقت في النهوض بدورها في الإطاحة بالنظام الدكتاتوري بسبب توقف الحرب العراقية الإيرانية واستخدام الأسلحة الكيمياوية. ولكن الحقيقة هي أنه لم يكن بمقدور الحركة الأنصارية في كردستان العراق ولا الكفاح المسلح فيها ككل، الإطاحة بالنظام دون كفاح الشعب العراقي كله وممارسته لأساليب الكفاح الممكنة الأخرى. فالحركة الأنصارية رغم أهميتها ليست إلا جبهة من جبهات النضال، تصب جهودها الكفاحية في مجرى الكفاح التأريخي العام للشعب بمختلف الأشكال والأساليب في سبيل الإطاحة بالنظام عاجلاً أم اجلاً. لقد قامت الحركة الأنصارية وبدأ الكفاح المسلح في كردستان قبل أن تنشب الحرب، ولم تكن الحركة تستند إلى هذه الحرب في ظهورها وتطورها، كما أنها ظلت تتواصل في نشاط مستمر ومحسوس لأكثر من عام رغم استخدام الأسلحة الكيمياوية في أكثر من موقع وبنطاق واسع نسبيًا[7]).
توزع الأنصار والمهجرون كما ذكرنا إلى دول الجوار في مجمعات محاطة بالأسلاك خاصة في تركيا في ديار بكر وصلوبيا. وكان النظام يتابع هؤلاء اللاجئين حتى في هذه الدول، حيث أرسلت سموم إلى معسكر ماردين مع الخبز وذلك حسب التقارير الواردة من مصادر المستشفى في مدينة ماردين، وفي زيارة خاصة لوفد حكومي عراقي للمعسكر في 16 أيار 1989 حاول الوفد إقناع اللاجئين بالعودة إلى العراق وإلى مناطقهم وحاول اللاجئون ان يهاجموا الوفد لولا تدخل السلطات التركية وعندما لم يفلح في إقناعهم توعدهم بمصير آخر, حيث بعث لهم بسموم كادت أن تقتل العديد منهم، (ويعتقد شهود عيان أن دوائر الأمن العراقية تقف وراء ذلك، إذ كان نائب وزير الداخلية والسفير العراقي في أنقرة ومسؤولون اخرون بينهم محافظ نينوى ورئيس المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي، قد قاموا بزياة إلى المعسكر قبل ثلاث أسابيع من هذا الحدث، وذلك لإقناع اللاجئين بالعودة. إلا أنهم رفضوا ذلك تمامًا من خلال الإحتجاجات والتظاهرات المتنوعة، وعليه يعتبر الكرد أن التسمم جاء كوسيلة لانتقام النظام منهم.[8]).
وقد أدانت أغلب الأحزاب في العراق والمنطقة والدول الاخرى تصرفات الوفد وأدانت حالات التسميم (مع المواد الغذائية والطحين) التي قام بها النظام الفاشي. من جانب آخر أدانت الجبهة الكردستانية العراقية في الوقت الذي تتمنى الشفاء العاجل للمصابين ودعت إلى (أن تسمح الحكومة التركية بالتحقيق في هذا المصاب. إن يسمح بزيارة الصحفيين والأطباء ممن يرغبون من مختلف أنحاء العالم. وشمول كافة اللاجئين الأكراد بالرعاية المباشرة من قبل المنظمات الإنسانية وهيئات الأمم المتحدة [9]).
لقد قامت القوات الحكومية والجحوش الموالية للنظام من أبناء الشعب الكردي بقتل عشرات الألوف منهم ودفنهم جماعيًا وهم احياء في حفر كبيرة معدة مسبقًا وتسوية الارض (وهذا ماتم معرفته بعد سقوط النظام)، في حين تم نقل النساء والأطفال إلى أماكن أخرى ومعسكرات لاستيعابهم. وتم سلب حاجياتهم الثمينة من الذهب وغيره وتم تصفيتهم فيما بعد وأصبحت القبور الجماعية موزعة في الصحراءالجنوبية الغربية للعراق والمناطق البعيدة (النائية).
وبالنسبة لأنصار الحزب الشيوعي العراقي من الفوج الثالث فقد وضعوا في مجمعات (معسكرات) تركية واستطاعوا الخروج منها والوصول إلى
سوريا وعبر (مهربين). اما الأنصار الذين انسحبوا من مقرات المكتب السياسي أي في مناطق(ارموش وسفين وبيربنان وجورجيان وقبر ظاهر) انسحبوا إلى كولي كوكا على الحدود العراقية الإيرانية بعد أن دخلوا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني, الأراضي الإيرانية بالسيارات ليدخلوا هذه المقرات في الاراضي العراقية، وكذلك بعض القوات من السليمانية وأربيل. ولتبدأ مرحلة أخرى هي تأمين إخراج العديد من الأنصار إلى الخارج عن طريق إيران وأفغانستان ليرسلوا الى الإتحاد السوفيتي السابق وبجهود جبارة من منظمة الحزب في طهران وكابول. أما الأنصار الذين دخلوا تركيا من منطقة قضاء چلي والمناطق المحيطة به في بهدينان، فقد دخلوا إيران وتركزوا في قرى زيوه واشنوية والرضائية وراژان، والتحقت بهم المجموعة المحاصرة من الفوج الأول من قاطع بهدينان وعدد من الأنصار من قوات أربيل وتم تجميعهم في مجمعات (معسكرات) لفترة حوالي سنة تقريبًا، ومن ثم ساعدهم الحزب بالخروج إلى الطريق آلانف الذكر.
إن طبيعة النظام وعدوانيته جسدها في الإرهاب والنهج الشوفيني ضد الشعب الكردي، وكان التحضير له مسبقًا في زرع ربايا على طول المنطقة وتهيئة الموالين لها في بث الدعاية بين الناس لهذا الهجوم. لقد خططت السلطة بهجوماتها التي كانت على مراحل وبشكل يضمن تجزئتها وبعثرتها، باشرت السلطة هجومها على محور السليمانية وأربيل ثم خواركورك وبعدها مناطق بهدينان، فقد قصفت طائرات النظام في أيار 1988 بالأسلحة الكيمياوية العشرات من القرى في أرياف كركوك والسليمانية وأربيل مما أدى إلى سقوط المئات من الضحايا وإصابة آخرين بجروح وسجلت حالات تسمم خطيرة, كما شردت آلاف العوائل من ديارها في ظروف بالغة الصعوبة جراء حملة المطاردة الواسعة التي بدأتها قوات السلطة لتهجير سكان القرى قسرًا.
وبدأت السلطة بالهجوم بمختلف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وبالقصف الكثيف بالمدفعية وقصف طائرات الهيكوبتر لمقرات الأحزاب وعلى القرى القريبة لها والمزارع والوديان مما ولد ذعرًا كبيرًا بين الأهالي، وعلى ضوء فوضى الإنسحاب لجميع مفارز الأحزاب التي لم تحضر نفسها بشكل كافٍ لهذا الحدث ولم تتخذ قيادة بعض الأحزاب القرارات الملائمة لصد هذا الهجوم، وكان الاهالي ينسحبون إلى الجبل باتجاه المناطق القريبة من تركيا.
كما فرضت السلطة حصارًا كبيرًا على قوات المعارضة العراقية والتي استعملت كل وسائل القتل والدمار، حيث حشدت قوات عسكرية ضخمة وأسلحة فتاكة في أغلب الوديان والممرات والتي ممكن الإنسحاب منها عازمةً على قتل من يقف مع المعارضة من الناس الأبرياء وسكان المناطق المدنيين وقد ارتكبت السلطة فعلاً البشاعات بحق النساء والشيوخ والاطفال، مما ولد وضعًا صعبًا للبيشمه مركة والأنصار الحريصين على من دعمهم وساعدهم من الاهالي.وتشير احدى النصيرات التي كانت من ضمن المنسحبين والتي عانت من وضع انسحاب الاهالي من كبار السن والاطفال والظروف المهينة للانسان بكل تجلياتها والتي تنفذها ادوات منحطة لا تشعر بقيمة الانسان فتكتب :
(كان حجم القوات الحكومية كبيرًا يصعب على قواتنا مواجهته منفردة في أجواء استخدام السلطة للسلاح الكيمياوي والعنقودي ضد عدد من القرى قبل أيام من تقدمها، بدأنا المسير حوالي الساعة الثالثة صباحًا، ومعنا زاد قليل على ظهورنا، وبعد 6 ساعات من السير الحثيث توقفنا قليلاً لتناول الطعام وهناك تواردت أنباء عن تقدم قوات السلطة باتجاهنا، واحتمال قيامها بقطع الطريق، أي احتلال منفذ (وادي كافيا) الذي نستطيع بعد عبوره, التوجه إلى منطقة برزان – أربيل لذا توجب علينا الإسراع في المسير قبل وصول قوات السلطة. بلغنا مدخل الوادي عصرًا وكان هناك عشرات الآلاف من أهالي القرى، بصحبة عدد من الأنصار البيشمه مركة مع مؤن محملة على ظهور الحيوانات، وملابس وأغطية، في حالة من الفوضى، كأنما هو الكابوس بعينه متجسدًا في أخرة النهار. لقد ضاق الوادي بهؤلاء القوم، لم تبقَ فسحة لعبور شخصين، فكيف بحيوانين؟ إنها صورة من صور متعددة لمأساة واحدة، هي أن هذا الحشد كله يريد النجاة بحياته فحسب فكلهم خلفوا وراءهم، بيوتا، أموالا، مزارع وحيوانات، وخلفوا تاريخهم، أرضهم وحقولهم وجهد عمرهم وكذلك قبور موتاهم. كل ذلك وأكثر من أجل الخلاص بحياتهم وصيانة شرف نسائهم، فقد شاع ما تحدث به أحد رموز السلطة الصدامية بأن نساء الأكراد مباحات للجنود.
كنا نرى قوافل المهاجرين وهي تخب على طريق جبلي طويل، امرأة عجوز حملت طفلاً على ظهرها، وآخر بيد، وفي يدها الأخرى حبل الحيوان الذي ظهرت عليه علامات التعب من وطأة حمله الثقيل. فتيات صغيرات يتناوبن على حمل إخوانهم الصغار، أطفال يافعون يسيرون مرهقين وهم يحملون مطاراة الماء الذي لا يعادله ثمن آنذالك. شيخ يسحب هو الآخر حيوانه ويبحث عن أهله الذي سيعودون أو لا يعودون، أربعة أطفال ربطوا على ظهر حيوان كما يربط الحطب، وآخرون عبئوا في صناديق الفاكهة وهي تتدلى على جانبي الحيوان، فتاة ترمي بطانيات وملابس من على ظهر الحيوان ليخف حمله ويصبح قادرًا على حمل أمها العجوز، أم تبكي وتسأل: هل رأيتم دلبرين إبني لم يتجاوز عمره العشرة سنوات ذهب ليبحث عن حمارنا لكنه لم يعد!
لقد تأكد خبر وصول قوات السلطة إلى قرية كافيا واحتلالها نقطة عبورنا، كما احتلت السفح الخلفي لجبل برمان المعسكرين فيه وأحرقت قراه. أي اننا وقعنا في كماشة، أما المقاومة وإعطاء الخسائر بين الأهالي والنساء والأطفال، والإحتمال الأخير تحول إلى قرار يقضي بانسحاب الأنصار البيشمه مركة وترك الأهالي ليسلموا أنفسهم للسلطة وكان هذا القرار هو ذاته سبب الهلع الذي اجتاح الناس. الرجال ينسحبون بأسلحتهم باتجاه جبل كاره الشامخ والنساء يولولن مفجوعات بالمصير القادم، فاللحاق بأزواجهن يعني مواجهة الموت بالسلاح الكيمياوي أو القصف العشوائي والتسليم للسلطة يعني استباحة دمائهن وشرفهن ...)[10] .
[1] مقال للنصير أبو نتاشا في الذكرى العشرين لجريمة الانفال المنشورة في ينابيع العراق.
[2] مقال للنصير يوسف أبو الفوز في الموقع ينابيع العراق الالكتروني
[3] من كراس وثائق لا تموت- صفحات سوداء من تاريخ حزب البعث، إصدار مؤسسة الشهداء2009 /بغداد تأليف عبد الهادي الركابي ص 72.
[4] وثيقة تقيم حركة الأنصار الصادر عن المؤتمر الوطني السادس تموز 1997 للحزب ص 97.
[5] أبو نتاشا مقال منشور في موقع ينابيع العراق
[6] نفس المصدر السابق
[7] تقيم الحركة الانصارية ص 96مصدر سابق
[8] رسالة العراق عدد 100 اب 1989
[9] طريق الشعب عدد ايار – حزيران 1989
[10] مقال في رسالة العراق العدد 100 في آب 1989 النصيرة أم أمجد