الأكياس البيضاء* / علي جاسم شبيب
إتجهت العيون دفعة واحدة صوب زاوية الغرفة، الأيادي ترفع الأكياس وتفتح مضايق أفواهها بشفرات الحراب الحادة.. قلت أفرغوا كل كيس وضعوا حاجياته على جلده الأبيض.. كانت الكتب والنشرات الحزبية ومجلات الثقافة الجديدة متوزعة على أغلب الأكياس.. خفق قلبي لمرأى الكتب والمجلات.. لكن لا بد من تخفيف الثقل.
الليل يهبط سريعاً وقطرات مسموعة من المطر تسقط على السقف، وسمعنا صوت ريح يهدر يدفع بأقدام يقترب صريرها على الحصى من باب الديوان.. الرفاق إنتشروا في زوايا الغرفة وبقيت الأكياس مفتوحة عليها مواد بطنها.. أطل الدليل وأخذ بيدي خارج الديوان.. وفي إحدى الغرف رجلاً عرفته من صوته.. هو الذي سلمنا الأتراك الثوريين الجميلين، قال دون مقدمات: لقد إرتكبتم خطئا جسيماً وهذه مخالفة للضبط الحزبي.. أنتم معروفون بهذا الانضباط والتقيد بالأوامر الحزبية.. قلت بعد أن رش وجهي بحمم من نار الكلمات.. من أنت يا رجل.. هدأ ثم مد يداً ليصافحني، عندما كررت عليه السؤال، فتح نقاب وجهه وأسدل الكوفية الحمراء على كتفيه: أنا مبعوث من الرفاق في "ديرك" ويقولون عليكم الليلة المغادرة لأن هناك إخبارية والأدلاء لا يمكنهم الانتظار أكثر..
الوقت مؤاتٍ وأنتم لا تعرفون القضية.. ثقوا بنا وما هي إلا ساعتين وتصلون دجلة.. هدأت ثورة غضبي وفكرت بتنفيذ القرار، إذ كنت ملسوعاً بهذه الخطيئة كل مرة.. قلت وما هو المطلوب؟ قال: بعد نصف ساعة عليكم أن تتجهزوا.. فأخبرته بما نقلناه بالأكياس.. قال هذا شأنكم إستدرك.. لكن الحاجات العسكرية، مثل الحشوات و،خذوها معكم. قال.. سأهيء لكم الطريق..
لم يتحدث أي رفيق عندما علموا بالخبر وسارعوا بتجهيز ما إتفقنا عليه نهارا.. كل مجموعة لها مسؤول ولها حاجياتها ونوع أسلحتها وكان الشباب الأتراك أفضل الأصدقاء ووقفوا عند الباب الكبير..
إصطف الرفاق بموازاة سياج البيت العالي ،وكان الجو ظلاماً والمطر ينزل، متفرق القطرات، لكنها ثقيلة، تحملها الريح القوية فتصفع الوجوه كأنها حصباء.. عندما إستقر طابور المفرزة توزع الأدلاء في المقدمة والمؤخرة وكان أحدهم يسير بمحاذاة المفرزة كي يستقيم سيرها.. كنا تسعة عشر رفيقاً وثلاثة رفاق من الأتراك الثوريين..
الريح تسفع ظهورنا فتجعل من إنضباط الطابور خيطا مهتزا مثل حبل مشدودة طرفاه ويتأرجح وسطه باهتزاز غير موزون.
عند تجاوزنا سور البيت الكبير، إنفتحت علينا فوهة الريح المسعورة، كانها سياط تجلد دابة المطر الذي إزداد هطولاً.. ومشينا والمطر يغسل حبل الطابور الذي بدأ يتمايل مثل السكران.
وعاد خط الحدود يتراءى أمامنا.. ولاح النهر الصغير مرة أخرى.. نهر بدت أمواجه تعربد في جو المطر والريح.. النهر قطعت جوانبه ووسطه بكتل من الحجارة الثقيلة، عليك أن تقفز عليها وتصل إلى الجانب التركي، وبدأت الأقدام تصطدم بعضها ببعض وتتلوى الأجساد من عدم الثبات. فعندما توقف الطابور رأينا الحجارة الثقيلة قد غطى بعضها الماء تماماً، ولما أشعل الأدلاء مصابيحهم رأينا أجساد الصخور متقاربة بين موجات من الماء يرتفع قليلاً عنها. وبدأ العبور، كل مجموعة تمسك بيد الأخرى وإنزلق الدليل الأول وهوى في الماء أعقبه رفيقاه في المقدمة.. كانت مصارعة المياه الجارية أصعب من التشبث على سطح الصخور الزلقة. وإنفرطت حبات مسبحة الطابور وكأن الخيط الوهمي قد تبلل وإنقطع وهوينا الواحد بعد الآخر في هذا اليم الصغير.. يتناوشنا بأمواجه الصاخبة والكون قد إدلهم من حولنا.. لا نعرف سوى ومضات متقطعة من عيون المصابيح التي يعلوها رشاش الماء والمطر..
وصلنا إلى ضفة النهر الأخرى كنا كالخراف المذعورة، قد التممنا كي نحمي بعضنا البعض.
إقترب الدليل الأول.. هل تستطيعون العبور بهذا الجو..؟ أنار ضياء مصباحه.. والأرض القادمة محروثة.. سعنبر أرضاً محروثة، أضاء مصباحه بوجهي، ثم أداره على الجمع.. الكل مبللون ولا أعتقد أن هؤلاء الشباب رخيصون.. أقصد حياتهم رخيصة..
لم أجب وفكرت بالانضباط وتنفيذ الأوامر الحزبية أو العسكرية لأننا أصبحنا بذمة العسكر.. الحزبي الذي تحول إلى عسكري فظ ولا مبال إلا بتنفيذ الأمر مهما كانت الظروف التي تحيط به.
قلت بعد أن غالبت هواجسي: وماذا ترى أنت؟
قال بسرعة غير متوقعة: الرجوع إلى البيت، أنزل شعاع مصباحه.. المطر سيزداد والأرض التي سنعبر عليها محروثة.. يعني أكثر من ساعتين، وكل واحد سيحمل أكثر من كيلويين من الطين وأحمالكم كثيرة وثقيلة، تنهد بصوت مسموع.. والسلاح أين سيكون وهو.. الأغلى..
قلت: ليس الأمر بيدي.. نأخذ آراء الرفاق..
عندما وقف الرفاق حولي، شاهدت الوجوه المبللة بالمطر وكان شعاع ضوء مصباح الدليل يركٌز على كل وجه أسأله بصوتي المتهدج، صوت مشروخ من هجوم هذا المطر بغتة ودون إنذار..
كان صمت الرفاق عميماً، فعرفت الجواب من الصمت العارم والصارخ.. الصمت الذي أجاب بوضوح.. عكسنا إتجاه أجسادنا وعدنا إلى البيت الكبير وكانت غرفة الديوان رحبة وجوفها الدافئ صار مثل حضن الأمهات العظيمات.
* جزء من (كتاب الوجوه) الذي ينتظر الطبع