(أوراق من ذلك الزمن)  كتاب أنصاري جديد!! / نصيـر عـواد

في استهلاله للحديث عن كتاب النصير علي محمد\ أبو سعد اعلام، المعنون بـ(أوراق من ذلك الزمن) أشار الكاتب داوود أمين إلى أهمية الكتاب واصفا اياه بالــ(اضافة نوعية ومتقدمة، للجهد الذي بذله من سبقه من الانصار) في حين أن المقالة التي تجاوزت آلاف ثلاث نحت منحى أخرا ليس له علاقة بالاستهلال، لم يشرْ فيها الكاتب إلى إضافةٍ واحدةٍ أو إيجابيّة واحدة تساعد على قراءة وانتشار الكتاب. فهو لم يتناول الكتاب كـ(نصّ) ولم يتوقفْ عند مضمونه وأسلوب كتابته ومناخه العام، ولم يعرجْ حتّى على التفاصيل والشذرات المنثورة بين السطور، وتوقف فقط عند حوادث هو جزء منها، فيها مواقف وبطولات ومعاناة. وهذا العبور المباشر صوب الاغراض استدعى أسلوبا انتقائيا في تناول الكتاب، التقط فيها الكاتب حفنة حوادث من بين مئات الصفحات، وهو ما أدى إلى انتهاك سياق الحادثة في النصّ.

إنّ توقف الكاتب داوود أمين\أبو نهران عند الحادثة، كحادثة مكتملة الحدود على الارض، شيء مهم وضروريّ لبنية الحادثة، إلاّ أن التقاط حادثة واحدة من بين صاحباتها بهدف تسليط ضوء أكثر على مجرياتها، سيقطع لا محالة سياقها الطبيعيّ، وقد يجعلها غير مفهومة للجالسين على الضفة الاخرى من النهر. صحيح أن الحادثة تقع منفردة ولكن هذا لا يعني امكانية فصلها عن صاحباتها، من دون أن يترك ذلك تأثيره على بنيتها. فالحادثة إذا كانت قوية الحضور، أو ضعيفة، سينعكس ذلك بالضرورة على جاراتها من الحوادث وسيكشف عن العلاقات الداخليّة بينها. ولذلك فإنّ محاولة خلق العلاقات السببيّة بين الحوادث المنتقاة، والمتباعدات في الزمان والمكان، لرسم صورة أو تشكيل موقف معين سيسبب الاذى للحادثة وللنصّ على حدٍّ سواء. لأن تجميع الحوادث المنتقاة وجعلها هي الموضوع الاساس لا يعني بالضرورة تشابها بينها أو انسجاما بين عناصرها الداخليّة في المكان والزمان والافراد، بقدر ما يهدف ذلك للوصول إلى نتائج وأغراض في ذهن الكاتب، ترسم علامات استفهام وعتب شخصيّ على مؤلف الكتاب لا الكتاب نفسه، وهو ما لمسناه في الجمل الجاهزة الّتي صاغها الكاتب في نهاية الحوادث المنتقاة من مثل( هو ينسى أو يتناسى، المفروض أن تكون عادلا ومنصفا، اتق الله فيما تقول، ليس من الامانة والمنطق أن تتجاوز على الحقيقة بهذه الخفة، الحقيقة التي يغيبها أبو سعد، إن فكرة الغائي قد استحكمت في رأس الرفيق أبو سعد...) إلى جانب جمل ساخرة استُخدمت للوصول إلى الأغراض، جرى فيها استحضار الحُسيّن بن علي والعباس أبو فاضل وعبد الله الحوثي...

إنّ حركة الانصار الشّيوعيين بكردستان العراق ليس حوادثا فقط، بل هي مثل أية تجربة حيّة فيها الكثير من التفاصيل الصغيرة المليئة بالإنساني والجميل والمؤلم. حركة غَرفت من مياه متشعبة في السّياسة والدين والجغرافيّة، فتحت حدودها على الثّقافة والتّاريخ وصارت ملكا للشعب العراقيّ، دفعت بالمعنيين في الربع الاخير من القرن الفائت إلى التوقف عندها والاستشهاد بوقائعها. إنّ تحويل تجربة الانصار الشّيوعيين إلى أحداث يرويها، فقط، أصحاب الذاكرات النشطة ومن هم قادرين على ذلك(الحزب، المسؤول، المثقف) قد يكون من بين أسوء ما يصيبها، ويصيب الاعوام المتبقية من حياة الانصار بالملل وضياع الوجهة. فالمعروف عن الحادثة أنها تقع لكي تُروى، وسيقف خلف ذلك ثقافة الراوي وأمانته، وليس لنا سوى الاستمتاع والمقارنة وعرض روايتنا "المضادة" في السياق العام للأحداث. أما من يظن أن روايته هي الاكثر مصداقية وأنه هو وحده القادر على تحديد المهم والصحيح فيها فهو واهم، إلاّ في حالة أن يكون هو بطلها وصانعها الوحيد. وبالتالي فإن صيّحة أبو نهران(ما أعرفه ويفترض أن يعرفه الرفيق(أبو سعد) وكل أنصار بهدينان، هو ما أوردته من حقائق، وليس ما ورد في كتاب الرفيق أبو سعد) قد لا تصب في صالح الكتابة الانصارية الّتي ندعوا إليها جميعا، والّتي توقف عندها أبو نهران في بداية مقالته واشاد بـ(الذين بادروا، وهم قلة، للخوض في هذا الميدان الهام من حياتنا الحزبية والانصارية).

لا نختلف حوّل الرأي القائل بأن شهادة الانصار، صنّاع الحادثة وأبطالها وضحاياها، تُعد أساسيّة في عملية توثيق الحركة، وهي أكثر مصداقية من تلك الروايات والدراسات الّتي تُكتب عن بُعد، رغم أهميتها. ولذلك نرى أن تدوين "أبو نهران" ليوميّات الانصار وايراد الوحدات الزمانيّة والتخطيطات المكانيّة وأسماء الافراد، واحتفاظه بتلك المدونة على مدى أعوام من التهديد والنفي، هو شيء كبير ومفرح ويُحسد عليه. ولكن هذا ليس مبررا لكي تُستخدم تلك اليوميّات كهراوة لإسكات الآخرين، أو التشكيك بروايتهم للحوادث. عند اطلاعنا على بعضٍ من رسائل ومدوّنات الانصار وجدنا أنها خامة لا يمكن عبورها عند تناول حركة الانصار، كانت فيها قسوة التجربة الانصاريّة يومذاك قد ألقت بظلها على رواية الاحداث، وصيّرتها وثيقة من لحم ودم ومعاناة. أصحاب تلك اليوميات لا يخفون حاجتهم إلى تنوّع أساليب السرد والتوصيل والاقناع، فبعد أعوام من الهدوء والاسترخاء وتوفر المعلومات صارت هذه اليوميّات بحاجة إلى صور وذاكرات وشهادات أخرى تساهم في اكمال وترميم الحادثة، ولكن من دون أن يسرق ذلك "يومياتهم".

المعروف عن تجربة الانصار الشّيوعيين بكردستان العراق، حيث العزلة والثلج، هو قلّة الحوادث وكثرة الروايات. ولذلك فإن تواجد النخب المتعلمة والناشطة لم يضعْ حداً لأسلوب النقل الشّفاهي للأحداث بالجبل، الذي بقيّ راسبا ثقافيّا نشطاً في عتمة الواجهات الخلفية للفلاحين والانصار على حد سواء. ولو فكرنا، على سبيل المثال لا الحصر، بجمع الروايات المتناثرة عن حادثة سقوط "أبو سرور" وبغلته في الوادي سنُفاجأ لكثرتها ولقدرة الذاكرة الشّفهيّة على إعادة إنتاج الحادثة، وسنحزن لمصير يوميّات "أبو نهران" الّتي وثقت ذلك بلغة(تحمل صدق لحظتها). ولو زاد فضولنا أكثر وخاطرنا بسؤال آمر سرية "أبو نهران، وأبو سعد" عن التفاصيل الّتي أورداها، واختلفا فيها، فأننا سنجد في صندوق ذاكرته حقائق وتفاصيل أخرى غير تلك الّتي ذهبا إليها.

كان الانصار في الجبل يعيشون على شكل مجموعات، صغيرة أو كبيرة، وغالبا ما تكون الاحداث والمصاعب الّتي تواجههم معروفة للجميع، وأن كثير منهم ساهم في صنعها ومواجهتها، ومن النادر وقوع أحداث فرديّة يكون بطلها واحد وراويها واحد. أردنا القول أن الحادثة الانصاريّة عانت لحظة وقوعها من عزلة مركّبة، جغرافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، أدت إلى انحسارها بمكان محدّد واقتصارها على مجموعة معيّنة. هذه العزلة لا تعني خللا في بنيتها أو ضعفا في عناصرها الداخليّة في الزمان والمكان والابطال، بقدر ما تعني عزلة فُرضت عليها من الخارج أدّت أحيانا، وعن حسن نيّة، إلى تدخلات في تلك العناصر. وما زلنا نتذكّر كيف كان الانصار حوّل المدفأة يروون احداث وقعت في قاطعهم أو في قواطع أخرى، يعيدون روايتها أكثر من مرّة وبغير أسلوب، يضفون فيها أهمية على التفاصيل المحببة لقلوبهم الطيبة، ثمّ وبسبب نمط من النسيان، تصنعه الرّتابة والعزلة، ينسبون لأنفسهم حكايات هي ليست لهم. هذه التدخلات في بنية الحادثة كانت تحصل وهم في قلب الصراع، قريبون من الاحدث، فكيف حال من يبادر إلى روايتها بعد أكثر من ربع قرن على وقوعها. ألا يُرتب علينا ذلك البحث عن أكثر من عذر للهنات الّتي ستصاحب تلك الروايات؟.

قبل أشهر قليلة، وعلى موقع الينابيع، تابعنا مناكفة مرهقة بين نصيريّن حول تفاصيل رواية الحوادث الانصاريّة في ثمانينيّات القرن الفائت. كان الصراع الداخليّ لكل منهما والضغط الخارجيّ للأنصار المتسمّرين أمام شاشات الكومبيوتر قد أوصلهما إلى الحذر وتراجع المخيّلة والبحث عن أسلم الطرق لأنهاء الموضوع. بالنسبة لنا، القراء وأصحاب الذاكرات الممسوحة، لم ندخل طرفا في المناكفة والاختلاف في روايتيهما، وأحسسنا بأنهما معا ينشدان أعلاء حركة الانصار الشّيوعيين والمحافظة على تاريخها، بل ووجدنا أن تنوّع أساليب الروي بينهما يُغني أكثر مما يُلغي بعضه الآخر. بسبب قناعتنا بأن الحادثة تقع على الارض وتنتهي، ثمّ تستمر على ألسنة الرُواة، وكُلّ راوٍ يرويها من موقعه وزاويته وطبيعة ثقافته. ولكي لا نكرر كلامنا، نختم ونقول أن الحادثة على الارض ليست كما هي في الرأس، وهي في الرأس ليست كما هي على الورق، وهي على الورق ليست كما هي عند القارئ، في دورة لا تنتهي من الصّقل والتلميع وإعادة الإنتاج.