أنصار 1979 (1) / علي بداي
1.بيروت
بعد هروبنا المثير من حدود بعث العراق الى بعث سوريا ،لم نبق في دمشق سوى بضعة أيام .عرفنا أن مقرنا الأكثر إستقراراً سيكون لبنان، لتكون بيروت المحطة الأولى خارج حدود العراق، النزهة الإجبارية الأولى بإتجاه بلاد لاسلطة لصدام عليها وكان ذلك بحد ذاته كافياً وقتذاك لكي يشعر المرء بسعادة من نوع ما. من مخيم "اليرموك" حشرنا أنفسنا، ابو فيروز، ابو عراق الدفاعي، مازن ورافد وأنا وبضعة آخرين غرباء، في جوف سيارة جيب عسكري ، لتلقينا بعد ساعة على الحدود ومن هناك طولبنا بإستعراض خبرتنا بالمشي عبر مرتفعات وتلال. أوصانا دليلنا أن ندعي ،في حالة التعرض لتفتيش دورية الحدود، أننا من فصائل المقاتلين الفلسطينيين ننوي العودة الى قاعدتنا في العرقوب وكنت أنا أحمل هوية فلسطينية ،يوصف لون شعري فيها بالخرنوبي و بإسم غير إسمي، مسجل فيها أنني من مواليد "طولكرم"..
بعد ساعة قيل لنا أننا دخلنا حدود لبنان وانتظرنا سيارة جيب اخرى لتبدء رحلة الجمال والسحر. عندما كانت الجيب تتسلق طرق "عالية" و"بحمدون" الملتوية، كنت كمن يرى فيلماً ، طبيعة مبهرة، من حولنا الجبل وبيوته القرميدية تطل علينا بشرفاتها الصيفية المزهرة بالنحل والموسيقى، وتحتنا الوديان الخضر ،قلت لمن معي أن الحرب في هذه البلاد جريمة مهما كان سبب نشوبها. كان جدري الحرب المخيف قد خرّم المباني الحجرية لكنه لم يتمكن من تقبيح وجه "عالية" الجميل الذي كان يشع رغم كل شيئ .
شدتني بيروت ولبنان كلها اليها بكل قوة، "الآن أدركت من أين تأتي فيروز ورحابنتها بكل هذا الشدو الرائع"، كل شيئ كان جديداً لم أره من قبل، الطبيعة بجبالها، وتلالها وبحرها ، وهوائها، وضوع أشجارالصنوبر، أشجار الخرنوب واللون الخرنوبي الذي أسمع به لأول مرة، الناعمة حيث إطلالة الجبل المغطى بالغابات الساحرة على إندياح البحر الفسيح، تكٌسر الصنوبر الجاف وهو يرتطم بالأرض ويتدحرج على التلال ليصل أقدام المارة ، النحل المتطاير بدل الذباب ، مفردات الحياة البيروتية : ربطة الخبز الأبيض،"قرقورك يابديعة أكل كل الزريعة.." اللهجة التي لاترهق اللسان وتترك له حرية التجوال " يسلمو دياتك " ، عالية وبحمدون والقرى التي تتسلق الجبال بقرميدها الأحمر، الشوف وأحراش عرمون الغافية على قهقهة طيور الحجل، ميناء جونية الذي يلوح من بعيد ، البحر ومدفعية سعد حداد، قاعة جمال ، بناية رحمة، الفاكهاني، جسر الكولا، الرملة البيضا، البربير، الملعب، الروشة، مطعم أم نبيل، الدامور ،شتورا و ظهر البيدر، ياسر عرفات يعدل عقاله فتصف الجماهير. وصلت بيروت صيفاً فاستمتعت بالنسيم العليل في أيام إحتراق العراق تحت أشعة شمس لاتعرف الشفقة ،وعشت الخريف الأكثر إبهاراً فرأيت ولادة الأنهر الموسمية التي تبدأ فجأة بعد مطر تشريني غزير ثم دلف الشتاء بموعده فهطل الثلج الذي رأيته أول مرة مساء أحد الأيام أثناء حراستي في موقع " عين العرب" في "البقاع الغربي" ثم ودعتها في نهاية الربيع !
أكثر من أي شيئ آخر، مثل طائر تحرر من قفص، دهشت من الحرية التي تمنحها بيروت رغم بقايا الحرب الأهلية، الحرية في أن تطيل شعرك أو تقصره، أن تختار الإسم الذي تريد ، حرية أن تذهب للزيتونة على مسؤوليتك الخاصة مع إحتمال أن يصطادك قناص الكتائب، أن تعرج على سينما "بافيون" فتشاهد أفلاماً لم تكن تحلم حتى بوجودها، أو أن تتسكع كما في الأفلام على شواطي الروشة، كانت الأيام الأولى حرة غير مقيدة. لأيام قلائل فقط، بعدها وعينا اننا لسنا سواحاً فإنتظمنا في صفوف التدريب العسكري المكثف في تلال بلدة "الناعمة" . ..
تحت خيام "الناعمة" ، كان "مارسيل خليفة" يغني لنا عن خبز أمه، وكنا مبتهجين بقراءة الكتب على ضوء مصابيح البطاريات فكان "صادق جلال العظم" ونقده للفكر الديني ، والنزعات المادية لحسين مروة، وكتب مهدي عامل تنتقل من يد لأخرى.
كان هذا هو تماسي الأول الواسع مع العرب من غير العراقيين، تيقنت خلاله حجم معاناة الفلسطينيين المتأتية أصلاً من لعنة فقدان الوطن وهو مركب شديد الخصوصية سينعكس لاحقاً على مجمل سلوك المرء. ولعل التأثير النفسي لفقدان الوطن يفوق بآثاره تأثير فقدان الأب أو الأم في مرحلة مبكرة من العمر في حين كان جرحنا الأساس هو بحثنا عن الكرامة التي أُهدرت في وطننا الذي لم يكن قد ضاع بعد ، لهذا كان الفلسطيني يصطدم بالحساسية العالية للعراقي التي لم يكن يستوعب موجباتها. حين تقدمنا لاحقاً في رحلتنا بإتجاه فقدان الوطن إقتربنا خطوات من "سايكولوجيا الغجر" وهم الذين ضيعوا قبل الفلسطينيين وقبلنا وطناً حتى أنهم نسوا مكانه .
في بيروت ..سمعنا خبر إزاحة "صدام" ابيه القائد "أحمد حسن البكر" كما كان يسمى وتنصيب نفسه دكتاتوراً أبدياً على البلاد..ها هو "صدام" الآن قد وصل القمة التي أراد بلوغها منذ أن بدأ ممارسة عبثة الدموي في الخمسينات.القمة التي كان معظم العراقيين قد تحدثوا عنها في نهاية الستينات .كيف وصل ؟ ماهي مهامه اللاحقة؟ ماالذي سيفعله بالعراقيين؟ بعد أيام ذبح صدام نصف قيادته الحزبية بتهمة لم تكن بحاجة الى من يصدقها: "المؤامرة على الحزب والثورة"...