الدليل، تجربة ومعاناة! 17 / مزهر بن مدلول

قبل الظهر، علمت بأنّ (أبي صابرين.. سمير) استشهد في (كاني ساوين) ، هذا الخبر كان مِحْنة وامتحان، حيث شعرت وكأني انقطعت من السلالة والارض والجذور، فسمير بالنسبة لي ليس فقط رفيقا وصديقا، وانما كان اكثر بكثير من ذلك، لقد عشت معه ظروفا صعبة وقاسية، حيث كنّا نقفزُ بين الظلّ والشمس والخوف، ونتقاسم الرغيف الحافي والملاذ المرّ، فكان طيبا وحميميا ولايهتفُ الاّ بالحبِّ، ولذلك فهو الى الان لايفارق الخاطر ولايغيب عن البال ولايبرح الوجدان.

 كنتُ انذاك معه في فصيل المدفعية، احد فصائل السرية في وادي (بشتاشان)، التي كان امرها العسكري الرفيق (ملازم قصي) ومستشارها السياسي الرفيق (ابو ايار)، وآمر  الفصيل هو الرفيق (ابو انصار)، هذا الفصيل سُمي بالمدفعية رغم ان لا احد فيه يعرف شيئا عنها.

ذهب (ابو صابرين) الى الجبهة الامامية اثناء الظلام، بينما طلب مني (امر السرية) في الصباح ان احمل المدفع الى المكان المخصص له وابدأ بالرماية، وكان معي في ذلك الحين النصير (ازاد بهديني)، يشاركني المهمة ويحمل ناظورا ويقف على تلة مرتفعة ليرصد الهجوم الغادر للعفاريت التي خرجت فجأة من القمقم!، ثم يحدّدُ لي الزوايا والاحداثيات، وكلما اطلقتُ قذيفة، يصرخُ ازاد (ده ست خوش).. عاشت ايدك.. اجت ابنصهم!.

في عصر ذلك اليوم، كان الموت يسخر من وجوهنا الحزينة، وكانت الاخبار تأتي قليلة ومتقطعة وفاجعة وغامضة، فتترك غصة في الحلق وقشعريرة بالنفس، وكان الرصاص الذي احتلّ فضاءا واسعا من الوادي وكاد يسدّ عين الشمس!، هو الوحيد الذي كشف الحقيقة التي اعطت معنى لعالم مرتبك ومختل، وهي: إنّ علينا ان ندفع ثمن حمامة السلام الوديعة التي تقف على فوهات بنادقنا.

في المساء وبعد ان تقدم المهاجمون واصبحوا قاب قوسين من المكان، جاء الرفيق (آمر السرية) وامرنا بالانسحاب، فأتخذت الطريق المؤدي الى مقر المكتب العسكري، وبعد ان قطعت مسافة قصيرة، التقيت وجها لوجه مع مجموعة من فصيل (الاعلام)، كانوا يسيرون بالاتجاه الذي يتقدم منه العدو دون ان يعرفوا بذلك!.

عندما عبرت النهر اسفل مقر (القيادة العسكرية)، وجدت مجموعة من الانصار يتوسطهم الرفيق الفقيد (ابو عامل)، وفي هذه الدقائق القليلة، كانت تصل الينا بعض رصاصات قناص من اعلى السفح وتستهدف الرفيق الفقيد بذاته، فدفعناه الى منخفض ضيق وانتشرنا في مواقع مختلفة حتى جرى انسحابنا من خلال الصعود على جبل قنديل.

لااتذكر كم من الساعات مشيت على جبل قنديل، لااتذكر كم مرة غاصت قدماي بالثلج، وكم مرة ارتطمت ركبتاي بالصخور، لااعرف من كان معي في رحلة الجوع والدماء تلك، كان السرب طويلا، وكان الجرح عميقا، وكانت النصيرة (ظافرة) متعبة، فحملتُ (عليجتها) على ظهري ومشيت.

رافقني وجهُ (سمير) طول المسافة التي استمرت حتى اليوم الثاني، ذلك الوجه لن انساه ابدا، لن انسى الستة عشر ليلة التي مشيناها سوية في مناطق وعرة وموحشة، لن انسى  احلامنا التي تبخرت تحت صرامة الواقع، لاانسى تلك الليلة التي واجهنا فيها اشرس (كمين) لعصابات متمرسة في سفك الدماء ومستعدة لقطع الرؤوس دون ان يطرف لها جفن، لاانسى ابدا تلك القفشات والحكايات والقهقهات التي كانت سماد بقاءنا وشهية طعامنا وشموع سهراتنا، ولاانسى الذكريات الوردية والحنين الى احضان الحبيبات! رغم انّنا كنّا في سباق محموم مع الموت.

سمير، الخجل الاحمر الذي يتدفق على الوجنات.. سمير، الأناقة والمواعيد الجميلة..  سمير، اللغة الدافئة والحروف الهامسة.. سمير، الذي تحت اجفانه حيرة عاشق، وجههُ يبوح بكلّ شيء رغم صمته.. سمير، ذهب دون (دليل)! فمات واقفا في (كاني ساوين).