رسائل الانصار / نصير عواد                                            

في الجبل كان هبوب النسمات الأوْل لفصل الربيع يحرك بلورات الماء الذائبة توا ويعطي الاحساس بأن كل شيء جديد، وأن الحياة ستمنح الانصار فرصة أخرى للعيش، وأن عليهم أن يسرعوا في اكمال مّا توقفوا عنده الخريف الماضي، وأن يتفقدوا اوراقهم واقلامهم لكتابة الرسائل وإعادة الاتصال بالآخرين على الجهة الاخرى من الجبل.

الرسائل القليلة التي كانوا يتبادلونها، بعد انقطاع صقيعي ممل، كانت أشبه بعملية ترميم لذاكرة الأنصار الذين توزعوا على سفوح وقمم متباعدة بعد أن وجدوا أنفسهم متورطين بمحنة وطن تكالبت عليه الحروب والطعنات. هذه الرسائل، المليئة بالأشواق والاحزان والأفكار، كانت مصدر توثيق لحياة جيل من المقاتلين الذين تجرؤا على قول كلمة (لا) مدوية ثم عاشوا أعوام طوال بين شبح الموت وبين كابوس الديكتاتور. وهي، الرسائل، من جانب آخر كانت ملجأً دافئ وغير مكلف في عزلة الجبل، خصوصا وأن غياب الأهل والحبيبة وأصدقاء الطفولة يزيد من ضغط مشاعر النصير وعواطفه، قد يدفعه ذلك للبحث عن مسارات ومسالك لها. وحتى لا تذهب مخيلة القارئ بعيدا فنحن هنا نتحدّث عن الرسائل الشخصية التي يتبادلها الأنصار فيما بينهم، وليس عن تلك الرسائل الغامضة والرسمية التي تُكتب بعيدا عن ضوء الشمس، والّتي يحملها قائد المفرزة، أو مسؤولها السياسيّ، ولا يجري الحديث عنها لا في العلن ولا في غيره.

رغم الصفات الايجابية، الشجاعة والجلادة ونكران الذات ...، التي تحملها أرواحنا الطيبة بيْد أنّنا بالجبل كنّا بحاجة إلى كلمات بعضنا، تعيننا على ما نحن فيه بعد أن استوطنت العزلة عظامنا وذاكرتنا. وكانت حين تصل الرسالة نقرأها لأنفسنا ونُسمع فقرات منها لمن يجلس قريب منّا، نقرأها ثانية وثالثة، حافظين عن ظهر قلب بعض من مقاطعها. ثم نستمتع بكتابة رسالة جواب عنها، نرسمها بأي قلم يقع تحت أيدينا، تاركين في أسفل الورقة توقيعنا وتأريخ كتابتنا الرسالة، وكأننا نتقدم للبحث عن عمل في مؤسسة. نُغلّف الرسالة بورقة ثانية ونثبتها من كلّ الجهات بلاصق شفاف لا يسمح بوصول البلل إلى حبر الرسالة، وفي ذات الوقت إظهار أسم المرسل إليه فقط. لم نفكر في أن هذه الرسالة ستصل أم لا، ولم ننتظر بلهفة جوابا سريعا عنها، لأننا لا نعرف مّا يخبئه لنا الغد، ولا نعرف ظروف المرسل إليه، ولكن لابد من الكتابة.

كانت تدوي في رؤوس الأنصار أفكار عظيمة وطموحات كبيرة، ينظرون من خلالها إلى أبعد من ذواتهم ومصالحهم الشخصيّة، لا يتداولونها بمناسبة ودون مناسبة. أفكار وطموحات هذبتها العزلة والمعاناة والاحلام الكبيرة، انعكس ذلك على مزاجهم في كتابة رسائل عميقة الهموم قليلة الشكوى، مليئة بجديد المواقف والنكات والأخبار عن استشهاد رفيق وسفر آخر للعلاج، يجد المُرسل الكثير من الوقت لكتابتها واختيار كلماتها، وسط طبيعة خلابة.

كانت عملية إيصال الرسالة تشبه حياة الأنصار، بدائية ونقية، تمر بسلسلة من المغامرات والأنهر والأيادي، ولكنها في النهاية ستجد طريقها إلى أصحابها. أو هكذا كنا نظن، دون عتب أو لوم على التأخير. اللافت في هذه الرسائل أنه لا يوجد شكل موحد لها، فهي تارة تكون اسطوانية الشكل وتارة أخرى تكون مربعة أو مستطيلة وتارة ثالثة لا شكل لها، يلفّها صاحبها بشريط لاصق، بخبرة وحرص شديدين. المهم في هذه الرسائل هو موضوعها وتاريخ كتابتها وأسم المرسل إليه الواضح عبْر اللاصق الشفاف، أمّا عنوان المكان ورقم الشارع والبيت وتاريخ الوصول فهي أمور جرى اعفاء الانصار منها، مثلما جرى اعفاءهم من الطوابع البريدية والمغلفات التي تتواجد على رفوف محلات القرطاسيّة. رسائل الانصار الشيوعيين لا ساع بريد يحملها أو دمغة مكتب تحدد وجهتها، ولكن عملية دوران المفارز في الجبال هي التي تتبنى حملها وإيصالها، وأيْ حدث طارئ سينعكس قطعا على الرسالة. فلا أحد يستطيع التحكم بسرعة وصول الرسالة ويوم تسليمها، وغالبا ما يرتبط مصيرها بمصير حاملها. فهذا الأخير لم يحضر خصيصا من أجل أستلام وتسليم الرسالة، ولم يعرّض نفسه للخطر من أجل ذلك، ولم يأخذ أجرا، ولكنها واحدة من مفردات حياة الأنصار المليئة بالدفء والتضامن. ولذلك قد تبقى الرسالة في جيب، أو مزودة، حاملها تدور معه أيام وأسابيع طوال لحين الوصول أو حدوث صدفة اللقاء مع مفارز أخرى في الجبال ويتم تحويلها إلى نصير آخر ذاهب باتجاه المرسل إليه. ولذلك تكون المسافات والمصاعب التي ترافق وصول الرسالة سببا يزيد من دفئها وحضورها، وفي بقائها طويلا في جيب وذاكرة المرسل إليه. بعض الرسائل حملت رائحة أصحابها معها، ثوم أو بصل.

اقتصاد الشحة علّمنا استخدام أوراق الدفاتر كما ينبغي، نكتب على الجهتين، لا نلتزم بالسطور ولا نترك مساحات فارغة. في الحقيقة لم أطلعْ على رسائل الآخرين ولكن هكذا كنت أكتب رسائلي. في هذا الجانب لم يحدث أن تلصص نصيرا على مضمون الرسائل التي يحملها، ولم يحدث إن فتح أحدا رسالة رفيقه الغائب، ليس فقط لأن الأسرار قليلة في حياة الأنصار بل لأن طبيعة حياتهم وثقافتهم وتضحياتهم لا تسمح بذلك. في الجبال كانت اخبارنا قليلة وهمومنا مشتركة، نتحدّث بالحاضر والماضي القريب، قد يرسل أحد الأنصار بضعة دنانير لنصير مدخن أو يطلب منه أرسال فيلم معه للطباعة مع الذاهبين باتجاه إيران أو يطلب شراء حذاء "السمسون" من المناطق التركية المشهورة بذلك.

الانصار يتبادلون الرسائل فيما بينهم لكنهم لا يتراسلون مع الأهل، باستثناء الأنصار الذين تركوا زوجاتهم واطفالهم خارج حدود الوطن. بمعنى أن الرسائل التي يجري تبادلها من خارج الجبال كانت قليلة جدا، باستثناء النصير "أبو الصوف" الذي ترده رسائل من حبيبته التي تعيش في أوربا، حتى قيل يومها انها كانت أكثر من تلك الرسائل التي تصل المكتب السياسي للحزب. بعض الأنصار يتلقون الرسائل بفرح ولا يسمحون لأحد بالاطلاع على مضمونها، ومع ذلك لا يجيبون عليها. آخرون يجدون لذة في ملمس الورق والحبر الجاف وعملية كتابة وتغليف الرسالة، وهناك بعض الأنصار يحمّل الذاهبين إلى الجهة الأحرى من الجبل، شفهيا، سلامات وأشواق تفيض بالصدق، فلقد كان يكفي تذكّر وجوه ومواقف الاصدقاء. وسط هذا التنوّع يحدث أحيانا فبركة مقلب مضحك وكتابة رسالة وهْمية للنيل من نصير مهووس بالرسائل وبأخبار الآخرين، ليكون ذلك مادّة للسهر. كان (أبو سعيد) يكتب من قاطع بهدنان إلى قاعدة روستي رسائل بعدد الانصار المتواجدين بالسرية، عنده ذكريات طيبة معهم، إلى حد قلق عليه المقربون من أن يتحوّل إلى كاتب. وبالمقابل يتجمع الانصار في قاعدة روستي كلهم لكتابة رسالة واحدة له. وحين عاتبهم في أحد اللقاءات على عجزهم وخبثهم في كتابة الرسالة الجماعية أجابه "كاظم الانضباط" بطريقته المعهودة قائلا (ليش أنته ما سامع بأغنية أحبك وانته لابسني).

وصول رسالة مِمّن يبعدون عدة جبال كان مصدر فرح وأثارة، بغض النظر عن مضمونها. خصوصا وأن الرسالة تصل، مع المفارز المتنقلة، دون موعد أو أتفاق على تسلّمها. صار وصولها يكسر رتابة حياة النصير ويستفز ذاكرته، وينفض التراب عن العلاقات الاجتماعية التي ترهلت بسبب طول موسم الشتاء أو قسوة الظروف والصراعات والسياسية. ولا نبالغ بالقول ان كل الرسائل كانت مهمة ولم يحدث أن تبرم نصيرا مِن أو مزق رسالة وصلته، بل كان كانوا يحفظونها مع الصور والأوراق الشخصية، وما زال بعض الأنصار يحتفظون بتلك الرسائل بعد ربع قرن على كتابتها. الأنصار لم يخفوا مشاعرهم بوصول الأخبار والرسائل، وكان حامل الرسالة يحظى بالشكر وبقدح شاي أسود، يذكّرنا ذلك بالامتنان الذي كان يحظى به ساعي البريد في حياة نائية، وكيف كان يستريح ويشرب طاسة لبن، شنينه، عند عتبة الدار القليلة الظل.