
لتجربة الأنصار الشيوعيّين مشكلاتها أيضا/ نصير عواد
إنّ من بين المشكلات المُستجدة التي صنعها العيش المشترك في تجربة الانصار الشيوعيّين بكردستان العراق كانت طبيعة العلاقة اليوميّة بين الأنصار وبين القائد السياسيّ، فقبلذاك كانت أرضاً حراماً ليس من السهل ولوجها والخوض فيها. صحيح أن قادة الحزب الشيوعيّ العراقيّ عاشوا تجربة الحياة المشتركة في سجون الوطن وخبروا ويلاتها، بيْد انها كانت تجربة محصورة بين أفراد وفي مكان محدّد وليست بين سرايا وأفواج وأمكنة متباعدة كما هو الحال في حرب الأنصار بكردستان العراق. الظروف الصعبة التي سبقت صعود الحزب للجبل كانت فيها صورة القائد السياسيّ قد تجمّدت في ذاكرة الحزبيّين وصيّرته قديسا ومثقفا وعنده كلّ الجواب، في حين أن ظهوره الدائم في الجبل مصحوبا بالكلام والطعام والاحتكاك اليومي كشف عن حقيقة أن الرجلَ بشرٌ من لحم ودم، يمرض ويخبئ كيس الجوز المخلوط بالسكر للأيام الصعبة، يخرج صوتا من فمه حين يأكل، وشخيره في اللّيل قد يصل موقع الحراسة البعيد. كثيرون لم يهضموا المعادلة الجديدة التي بدت في أحد جوانبها العلاقة، بين النصير وبين القائد السياسيّ، كنوع من كسر الحواجز وسقوط الوَهْم. صارت فيها مراقبة الأنصار لقادتهم أشبه بهاجسٍ يوميّ لا يستطيعون الفكاك منه؛ يتشمّمون أخبار القائد وسلوكه، ماذا قال؟ كيف يأكل؟ كيف يلف البشتين؟. أحيانا تظهر أسماء المسؤولين السياسيين في قصائد الأنصار وأغانيهم، وحوّل المدفأة غالبا ما يُزج باسم أحدهم، بمناسبة أو من دونها، حتى لو كان الحديث عن طبخة العدس المؤذية والمعرقلة للتفكير. والملفت أن هذا الذي يحدث ليس مبعثه خلافات بين النصير وبين القائد السياسيّ، فكل فرد له موقعه ومهمته، بقدر ما هو جزء من تداعيات الصراع الداخلي في الحزب، جزء من بحث الأنصار عن اجوبة للأسئلة التي تدوي برؤوسهم، لغرض تحميل القيادة مسؤولية ما جرى ويجري للحزب. في الجبل كنّا نحن الأنصار نتسبّب بالكثير من الاخطاء في عملنا وفي حراكنا اليوميّ، ومع ذلك لا نلوم أنفسنا، مفترضين ذلك من طبائع الامور. تارة نلقي باللّوم على قسوة الطبيعة وتارة أخرى على حداثة تجربتنا، وثالثة نذهب لتحميل المسؤول الإداري في السرية بعضا من تلك الاخطاء، في حين اعتاد الجالسون عند اقصى اليسار، من الذين ظنّوا أنفسهم آخر حراس الماركسيّة اللينينية، على استغلال أية ذريعة كي يحمّلوا الحزب وقادته أسباب ما يحصل، حتى لو كان ذلك نفاذ الطحين أو مرض نصير أو عدم وجود بغل في الموقع.
كانت أعوام الجبهة الوطنية، بحلّوها ومرّها، قد تكرّمت علينا بظهور بعض صوّر القادة الشيوعيّين على صفحات الجرائد وشاشة التلفزيون، وأحيانا على السجادة الحمراء لمن شغلوا بعض المناصب الوزارية. نحن في القاعدة الحزبيّة لم نلتقِ بهؤلاء الوزراء ولم نسمع أصواتهم ولم نعرف كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ولكن الذاكرة الشفاهية حفظت لنا حكاية أنهم دخلوا التاريخ كمناضلين لا كوزراء.
في ظروف الكفاح المسلّح كان من الطبيعي توزيع القادة السياسيّين على قواعد الأنصار المبعثرة بين الجبال لضمان حياتهم، من جهة، ومن جهة أخرى لإدامة العلاقة بين القاعدة الحزبيّة وبين قيادتها. وكنّا غالبا ما نراهم يتمشون لوحدهم تحت ضوء الشمس، بوجوه وقورة وخطوط سود أسفل العينين. البعض رأى أن وجود القادة في المقرات الثابتة يمثل نوعا من الاستقرار للمقاتلين ويجيب عن بعضٍ من اسئلتهم العالقة، وأن وجودهم قد يساهم في حل المشاكل التي تصنعها الحياة اليومية، وفي ذات الوقت هو فرصة للتعرف عن قرب على مناضلي الحزب والغوص عميقا في تجاربهم النضالية التي تشكّل جزءً من تاريخ الحزب، فثقافة الشيوعيّين العراقيّين دأبت على تعظيم قادة الثورات وابراز الجانب المشرق والمشرّف في حياتهم. البعض الآخر، ولأسباب معلنة أو غير معلنة، يمقت المسؤول الحزبيّ وأحيانا يتعامل معه كخصم، قد يكون سبب ذلك ما حصل للحزب من اخفاقات أو بسبب مواقف سياسية أو أسباب شخصية تخص النصير نفسه، الامر الذي جعل من القائد السياسيّ عند هؤلاء أما انتهازي أو يميني، يتمنون التخلص منه في أقرب مؤتمر أو فرصة. مع أن القائد السياسيّ، وفي منحدر العمر، لا يوجد عنده ما يُحسد عليه. لا بيت ولا عائلة ولا فراش نظيف، ولا حتى صحة جيدة تساعده في مجاراة حياة الأنصار الصعبة.
الحياة المشتركة وظروف القتال صيّرت شخصية القائد السياسيّ جزء من مفردات الصراع الداخلي، تجلّى في مبالغة البعض في أحاديثهم التي تقلل من شأن القائد السياسيّ، ومن الجهة الأخرى احتفظ البعض بمساحة الاحترام بينهم وبين القائد السياسي ووقفوا ضد التجاوزات الصبيانية بحقه، في حين تَرك آخرون الموضوع على أساس أنه لا جدوى من الكلام وأن الصفة الحزبية لعنة لا عمر لها، لا تُبلى ولا تتبدل. أما الملتحقون الجدد فكانوا شبه غائبين عن تلك المناوشات، لا يعرفون دور الرجل الذي يتمشى وحده بين المطبخ وموقع الحراسة، وجهه مليء بالوقار والغموض. لا يطبخ! ولا يحطّب! ولا يغسل الصحون! ولا يقف عند موقع الحراسة!. وحتى لو تجرأ أحد من الملتحقين تواً وسأل عن دور الرجل فسوف لن يجد من يجيبه على سؤاله.
لو نظرنا عن بُعد للصراع الفكريّ في الحزب يومذاك سنجده حالة طبيعية افرزتها إشكالات الكفاح المسلّح بالجبل وظروف الحزب المعقدة في الداخل، وسنجد أن الأجيال الجديدة دائما ما تبحث عن مساحات تثبت فيها حضورها، الأمر الذي يصوّر الأجيال القديمة المتكئة إلى الخبرة والتاريخ عامل إعاقة لهم. ولكننا لو نظرنا من قرب للصراعات المتجسدة في الندوات والحوارات اليومية الاجتماعات الحزبية سنجد أن التراكمات قد رسمت صورة بالأبيض والأسود للقائد السياسيّ، بدا فيها الرجل القادم من التنظيمات السْرية وكأنّه يعيش في غير مكانه، وأنه يعاني من فقر ثقافيّ وعدم القدرة على التواصل والاقناع، وإنْ تحدث فهو يتحدّث فقط عن كلاسيكيك الفكر الماركسيّ، عن سجن الحلّة ونگرة السلمان واضرابات كاورباغي، ويروي أحداث عفا عليها الزمن وليس لها أدنى علاقة بما يجري في الجبل وبين المقاتلين.
إنّ المواقف المتسرعة والنوايا المسبقة، إضافة إلى اللغة القاسية، غالبا ما تنتج علاقات من طبيعة نسيجها. صار بسببها بعض الانصار يسمعون القائد ولا يأخذون بكلامه، يرافقونه لا يتبعونه، حتى أن بعضهم بالغ بالأمر ولم يجلس إليه حول صحن واحد "سي سي" ظاناً ذلك من بين مواقفه اليسارية. وإذا أردنا قول كلمة حق، على الأقل بالنسبة ليّ كنصير، فإن أغلب من رأيت من القادة لم اسمعهم يوما يتحدثون بلغة نحن/ وأنتم، ولم يتحدثوا قط بأسلوب يوحي بأنهم الأفضل، ولم أشعر بأنهم بالغوا كثيرا في مسك عصا الأوامر والعقوبات. ولكننا لم ندرك ذلك يومها، وكنّا بحاجة إلى أن تجري مياه كثيرة في النهر حتى نتعرف على الحقائق الصغيرة واللامعة في حياة المناضلين القدامى. عندما التقينا آخر مرّة بـ"عزيز محمد" السكرتير السابق للجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ العراقيّ، بحضور مجموعة من الأنصار، اكتشفت أني أكن له في داخلي الكثير من المودة والاحترام، رغم كلّ خلافاتي واحتجاجاتي السابقة، حتى أني بقيت مستمعا طوال اللقاء ومبهورا بقدرته على التعبير عن رأيه بجملة واحدة فقط.
كان من المؤسف أننا في الجبل لم نتوفق كثيرا في تقييم بعضنا ولم ننتهز فرصة وجود المناضلين القدامى للنهل من تجاربهم. كثيرٌ منّا لم يعتَد على قول رأيه بتواضع واحترام، في حضور المسؤول، وذهب البعض إلى المواجهة وتسمية الأشياء بأسمائها حتى لو حملت في طياتها مقدار من العنف اللفظي. اسباب عدم التوفيق كثيرة وغائرة في عمق التاريخ السياسيّ، ذكرنا بعضها وسنذكر غيرها، ولكن على العموم فإن المباشر منها يعود إلى ظروف الحياة الصعبة بالجبل، وغير المباشر يعود إلى تنوّع التجارب السياسيّة والمستويات الفكريّة للمقاتلين. ولكن المشكلة أنه حين تعتاد العقول على المواجهة، وتعتاد الأيدي على مسك السلاح، فإن أيّة فكرة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة معروضة للحوار ستعاني كثيرا للتخلص من الأحكام الجاهزة والمواقف المسبقة، قبل جر الفكرة نفسها إلى مستويات سطحية في الحوار. وللأسف جرى ربط تفاصيل الحياة اليوميّة، في الأكل واللّبس وشرب الشاي، بالمواقف الفكريّة والوطنيّة للقائد السياسيّ، أنتج ذلك الكثير من سوء الفهم وأدى إلى تجاهل الحياة الشخصيةّ للمرء ونسيان التّاريخ المشرّف لـ(أبو يوسف وأبو جبار) على سبيل المثال لا الحصر، والتوقف فقط عند عدد البيضات في فطورهما الصباحي.
التواضع القديم الذي اكتسبه القائد السياسيّ من تجاربه في المعتقلات والتنظيمات السْرية لم يخدمه كثيرا في الجبل حتى بدا الرجل وكأنه الاكثر وحدة بين الآخرين، ثم وبمرور الايام صار لديه هو الآخر ما يخفيه. وكان كلّما تحصن القائد بالصمت وبالتعالي على اليوميّ والشخصيّ، زادت فيها الهوّة التي تفصله عن الآخرين، انتهى الامر إلى أن تحدّدت علاقاته بمن حوله وبمن ينفذون الاوامر ويوصلون التوجيهات. صحيح أن هذا التعامل، بين القاعدة وبين القيادة، فيه الكثير من الوجع ويحمل في طياته شكلا من أشكال الصراع داخل التنظيم الحزبيّ، وقد يكون له ما يبرره في ظروف الكفاح المسلّح المعقدة، ولكنه من الجهة الأخرى كان اختبارا حقيقيا ومؤلما للقائد السياسيّ الذي حاول، أوّل مرّة في حياته الحزبيّة، التواجد بشكل يوميّ بين رفاقه وأبنائه الانصار على هذا النحو.
هذا موجود في المقرات المركزية التي تشهد حضورا كثيفا للقادة، وهو أكثر وضوحا في المقرات البعيدة عن المركز