
"مام خدر كاچيل" / نصير عواد
قاعدة "رووستي" لا تختلف كثيرا عن قواعد الانصار الأخرى، رغم خصوصيتها. تركتْ الكثير من العلامات المضيئة في تجربة الأنصار الشيوعيّين بكردستان العراق، وقدمت العديد من الأسماء في درب الشهادة. قد يكون قائدها وشهيدها (مام خدر كاچيل 1925_ 1983) هو الأبرز من بين تلك الاسماء.
"مام خدر" كرديّ جُبِلَ من البساطة والشجاعة والترفع على صغائر الأمور، سحنته تعطي الانطباع بأنه أت من قرية كردية. لم يكُ ضخم الجثة، بعد أن شارفت أعوامه على الستين، بيْد أن حضوره طاغيا وسط رفاقه الأنصار، على غرار المقاتلين الذين نقرأ عنهم في الروايات. وجهه الحليق دوما يحمل عاطفة أبوية عميقة. كنّا قد أعتدنا حضوره وغيابه الخاطفيّن في مقر السرية، يبقى واقفا أو يقرفص على قدميه وكأنّه في حالة انطلاق، وفي يده اليمنى غصن صغير ينقر به الأرض. نحن الأنصار كنّا نغطي رؤوسنا بجمداني "يشماغ" واحد لحمايتها من البرد في حين كان "مام خدر" يلبس ثلاثة، اثنان يلف بهما رأسه وواحد يتزنر به لربط المسدس، الأمر الذي زاد من هيبته بين الأنصار.
كان الشيخ يعرف مقاتليه كما يعرف بشتينه وسمسونه، وبنظرة خاطفة يدرك التغيّرات في مزاجهم وقدراتهم. فهو كنصير قديم يبحث عن صفات وسجايا أخرى في النصير الجديد، وكان يحب الذين يحاكونه بأفعاله. عنده المقاتل ليس فقط من يحمل السلاح ويثبت في القتال ويحسن بالكلام، بل كذلك من يتقن التحطيب ويجيد ربط البغل ويداريه ويطعمه قبل أن يطعم نفسه، فلطالما كانت القسوة والاهمال من أسباب عناد البغل وحِرانه. كان "مام خدر" يثني كثيرا على البغل، يصفه بالذكاء ويسير خلفه عندما تزداد كمية الثلوج المتساقطة. وكان يطيب له أن يضحك من شائعة انتحار البغل المتداولة بين الانصار القادمين من وسط وجنوب العراق، ففي ظنه أن البغل أكثر فطنة من ذلك وبأنه أخذ أفضل صفات الفرس والحمار، وأن حادثة أو اثنتين لا يمكن تعميمها على طبيعة البغل المعروفة بالصبر وبالقدرة على التحمّل. كان يضحك ويقول (أن انتشار حكاية انتحار البغل يقف خلفها بعض المسؤولين الاداريين لكي يزرعوا الخوف عند الآخرين وحتى لا يضْطروا إلى توفير بغل لكل مسؤول أو كسول أو متمارض لا يريد السير على قدميه).
أثناء خروجنا في المفارز كان "مام خدر" يتابعنا في لحظات الاستراحة ونحن نشعل النار ونصنع الشاي ونأكل ثمّ نلقي بالفتات والعلب الفارغة إلى النار، ثمّ يلقي بملاحظة أب لأبنائه، وهو يخط بالغصن على الأرض (لا تلقوا بالأشياء الزائدة إلى النار فهناك الكثير من الطيور والجرذان متواجدة حولكم وتنتظر رحيلكم لتأتي وتأكل ما تركتموه). كنّا نحن الشباب، الذين شُحنت أدمغتنا بنظريات فائض القيمة وتفاحة نيوتن المتعفنة، ننصت للشيخ ونتمثل كلّ كلمة يقولها، إنْ كان ذلك في حديث جانبي أو عند الخروج معه في مفرزة أو في استطلاع. كان يتحدث عن مواقع العدو، يحدد نقطة الضعف وكيفية الهجوم وطريق الانسحاب. يشتم القمر أحيانا بسبب ضوئه الفاضح. كان حديثه المتقطع في ساعات الاستراحة عن تجاربه في القتال أفضل من الكتب المترجمة التي كنّا نقرأها عن حرب الانصار في أوربا وآسيا، ومع ذلك لم يجرؤ أحدا منّا على القول ان نصائح وتوجيهات "مام خدر" أفادتنا في الجبل أكثر من كتابات " فلاديمير لينين" عن الصراع الطبقي.
صحيح أن الشجاعة لا يمكن قياسها فقط بقوة العضلات وحدّة القتال إلا أنها في الجبل صارت كذلك، صارت الصفة الأعلى شأنا، حتى أنها سبقت صفات أخرى كالكرم والطيبة والثقافة ونكران الذات، وأنها غفرت لأصحابها بعض من هناتهم وسقطاتهم. السياسيون كعادتهم يحاولون ربط كل شجاعة بالحزب، بالثقافة والوعي والالتزام، ويبحثون في ركام الأخبار عن بطولات تنسجم مع مبادئ الحزب وطموحاته، في حين أن الأحداث على الارض تروي عكس ذلك، فهناك الكثير من الصفات الإنسانية، خصوصا الوراثية، ليس لها علاقة مباشرة بالثقافة والالتزام الحزبيّين، وليس مصادفة أن نجد الكثير من الشجعان في حركة الأنصار هم من البسطاء وعامة الناس، أميون وفلاحون، من بينهم "مام خدر" الذي تتلمذ على يديه الكثير من الانصار.
الشجاعة ليست هي البطولة. إنها أكثر وزنا. ومثلما هي غطت على بعض الصفات الإنسانية، المار ذكرها، حجبت عنّا كذلك الكثير من البطولات الصغيرة. فأن ينام النصير أعواما طويلة بملابسه الّتي يعمل ويتنقّل بها يُعدُّ بطولة. وان يصمد النصير أعواما طويلة في الجبل من دون دعم أو ثناء أو حتى أمل قريب بالنصر، هو الآخر بطولة. عدم ممارسة الجنس أعوام جبلية، وترك الاعضاء الجنسية مسرحا للقمل، يُعدُّ أكثر من بطولة.
إن بساطة حياة الأنصار، في تقاسم رغيف الخبز أو في السهر جنب المدفأة أو عند النزول مع المفارز، لا يمكن فهما دون أفعال يومية ومعاناة حقيقية قد تقلب المتعارف عليه من البديهيات والحكايات والأمثال الشعبية التي حملناها معنا من مدننا عن الشجاعة والصبر وسعة البال، حيث صار بعضها أشبه بإطار قديم لصورة مقلوبة. ففي الجبل عرفنا أن المعارك وحدها لا تصنع الشجاعة بقدر ما تؤدي إلى تراكم الخبرة عند المقاتل. بعض المقاتلين ساهموا بمعارك كثيرة ولكنهم يتواجدون أحيانا في مؤخرة المهاجمين، ويبحثون عن عذرٍ للانسحاب، فالخوف خصيصة إنسانية تجد طريقها إلى قلوب تحب الحياة. كان من النادر في الجبل أن يجتمعا الشجاعة والبساطة معا كما اجتمعا عند "مام خدر". كان لا يعرف الخوف والكسل، وكان يعجب من سهولة وقوعنا ضحية امراض البرد ويتهكم من بحثنا الدائم عن الثوم البري كمضاد طبيعي، فمن أمنياته التي يرددها بيننا هي ان لا يمرض أو يموت بالفراش. أحيانا يروي بتلقائية رحلة ربع قرن من القتال في الجبال دون أن ينسب لنفسه مأثرة أو موقف بطولي مع أن الجميع يلقبونه بـ" مقتحم الربايا".
البساطة عنصر غامض، بسبب العمق والتلقائية والخبرة الكامنة في تلافيفها. فنحن الأنصار القادمين من وسط وجنوب العراق عانينا كثيرا حتى تعوّدنا على طبيعة الحياة في الجبل، وتأخرنا في معرفة بديهة كنّا نعيشها كل يوم تُشير إلى دور حذاء (السمسون) في حياة الأنصار. أما العجوز "خدر كاچيل" فكان يختصر علينا الكلام، متحدثا ببساطة عن حماية وإراحة القدم، متوقفا عند أهمية امتلاك حذاء آخر، احتياط، للتخفيف من قلق النصير على قدميه. ثم يعود ليسخر من الحكومة، ويرى فيها أنها غبية ومنشغلة بتجييش الجيوش وسد الثغرات التي تدخل منها الأسلحة والمقاتلين، في حين أنها تستطيع شلّ نصف حركة الأنصار لو انها سحبت أحذية السمسون من الأسواق وأغلقت الحدود ومنعت وصولها. ثم يعقب ضاحكا أنه (لو لجأت الحكومة لذلك سأشتغل بتجارة "السمسون" مثلما بعت الخبز على المواطنين الخائفين من الخروج للشارع في صبيحة يوم 14 تموز عام 1958).
كان الشيخ فخورا بتجربة الأنصار الشّيوعيين التي جرت تفاصيلها في ستينات القرن العشرين، ويرى فيها اختلافا عن تجربة الثمانينيات منه، وذلك بسبب اختلاف القوة العسكرية والاقتصادية لسلطة الدولة في منتصف القرن الماضي، وكذلك اختلاف تركيبة الأنصار الشّيوعيين الاجتماعيّة والسياسيّة. فبعد أن كان البيشمه ركَه، في الستينات، من الفلاحين القادرين على هضم حياة الجبل صار أغلبهم في الثمانينيات من الطلاب والمثقفين والكوادر العلمية. في جلسات الظهيرة عندما كنّا نتحلق (سي سي) حول صحن الفاصوليا كانت ترشح من حكاياته احداث جسام وبطولات عند سفوح هندرين وأخطاء صاحبت الحركة الأنصارية، وأحيانا يروي "كاچيل" تفاصيل فقدانه مزودة ظهر أو قطعة سلاح أو أنه أضاع بغلا بين القرى ولكن لم يحدث له أن تحدث عن فقدان حذاء "السمسون"، بسبب الترابط الدائم بينهما. فمن وجهة نظره إن ترْك الحذاء في ساحة المعركة دليل الهروب والتخاذل. كانت أحاديثه تكشف عن حقيقة أن العلاقة بين حذاء "السمسون" وبين الثوار قوية وقديمة، وقد تكون سبقت حروب الجبال وعناوينها، تجلّت في رفقة حميمة وحاجة دائمة تمنح أقدام الانصار في كلّ مغامرة دفئ وحياة.
إن التجارب الدامية والنقية والمعزولة غالبا ما تبقى تفاصيلها في الظل، محاطة بالقداسة والاسرار، لا يُسمح بانتقادها وكشف نواقصها حتى لمن هم جزء منها، صنّاعها وأبطالها. وان تجربة الانصار الشيوعيين، المليئة بالشهداء والاسماء والمواقف النبيلة، ليست استثناءً عن ذلك. ففي الجبل كلّنا مناضلون، وإن بدرجات متفاوتة. بعضنا مؤمنون حتى النهاية بوطنٍ حرٍ وشعب سعيد، وبعضنا افتراضيون اضطرتهم للصعود ظروف الصراع المزمن بالعراق، وبعضنا متبجحون وكسالى لا أمل فيهم، وبعضنا صاروا مناضلين بفضل ديكتاتورية "صدام حسين" وليس بفضل نبلهم وشجاعتهم. وثمة آخرون صنعتهم تجربة الأنصار الشّيوعيين، من بينهم كاتب السطور. وهناك من هو بطبيعته يحمل جينات المناضل القادر على الاسهام في صنع التجربة والتاريخ كما هو حال "مام خدر كاچيل" الذي بقي أسمه خالدا في ذاكرة رفاقه ومحبيه، بل وحتى في ذاكرة قاتليه الذين أطلقوا الرصاص عليه من الخلف.