نون النسوة /  النصيرة بدور- نوال الصالح

 

تشرين الثاني 2013

تمر الايام بانتظار شروق الشمس لتنشر الضوء في المكان الكبير من حولي،  فتختفي كل الزواحف التي تعيش معنا العقارب والأفاعي. خفاش الليل يرجع إلى بيته في سقف الكهف المحفور باحدى جبال  سلسلة هورمان في السليمانية. مجاميع كبيرة منها تتعلق بطريقة مرعبة لا اعرف كيف، لأنني لم اكن أطيل النظر إليها خوفا او على الأكثر قرفا من منظرها فهي تشكل كتلة سوداء هائلة في إحدى سقوف الغرف المتداخلة فيما بينها. "هزار ستون" هكذا اسمه باللغة الكردية ومعناه الف عامود، هكذا كان يبدو الكهف الذي كنا نعيش فيه، مكان كبير جدا سقوفه مبسوطة على أعمدة حجرية كبيرة، وبسبب كثرة عددها اطلقوا عليها تلك التسمية . كنا نشغل الأجزاء الأولى من ذلك الكهف وليس الأجزاء الداخلية، حيث لا احد يجرؤ على الدخول في أعماق هذا العملاق الصامد عبر السنين. ولا احد يريد أن يعد هذه الأعمدة ، لأن عدها يعني  الدخول في مجهولية هذا الكهف. أحببت الساحة الواسعة أمام الكهف كأنها عتبة دار لبيت أغنياء او قصر كبير لاحد النبلاء من العصر القديم. وكان على طرفي الساحة حجران كبيران كأنهما إلهان يحرسان المكان.                                                                                

 في وقت العصر كنا نجتمع عند  الصخرة التي تقع في الجانب الأيسر، نقص قصصا ونكات وذكريات من الحياة المدنية، نعيد ونكرر ذات الحكايات، كأننا نريد ان يطول النهار او نحاول تاخير هبو ط الليل وظلامه علينا  حيث لا كهرباء ولا اضواء، فقط  التمشي بالساحة او التمدد بالفراش وتأمل النجمات التي ترسل بكل قوتها بريقا لامعا لمواساتنا.                                  

 في الصباح الباكر وبعد الفطور نتقاسم الخدمة الرفاقية في جمع الحطب او تكسيره و اعداد الخبز والطعام، وكذلك الحراسات حيث لكل رفيق ساعتان حراسة, وبعض الاحيان ساعة واحدة.

 في صباح احد الايام دعونا الى اجتماع عاجل. ذهبت هناك وقد سبقني إلى المكان النصير ابو سيف والنصيرة تانيا والنصيرة هدى. نفس المجموعة التي تجلس تتسامر على  تلك الصخرة  المعهودة، اكيد سيقولون هذا التجمع غير مرغوب به او انه يؤثر غلى رفاق آخرين او أنتن رفيقات لا تضحكن بصوت عال وان الأنظار تقع عليكن فيجب أن تأخذن التوخي والحذر... كم كنت اكره نون النسوة هذه في درس قواعد اللغة العربية وكرهتها هنا أكثر لما فيها من تمييز ومسؤولية اضافية. حدسي لم يكن في محله هذه المرة. بعد أن حضر الجميع قال الرفيق المسؤول بصوت واثق وقوي: حضروا أنفسكم وكونوا مستعدين غداً سنقوم بعملية عسكرية مشتركة مع الحزب الاشتراكي الكردي والحزب الديمقراطي الكردستاني. قال انهم استطلعوا المكان بشكل جيد وتخطيط العملية  مبني على معلومات استخبارية، والتفاصيل الأخرى ستعرفونها لاحقا. فرحنا كثيرا وأخيرا سننفذ عملية عسكرية طال انتظارنا لها. لنرى تأثيرها على الناس هنا. المهم ذكره هنا  ان هذه العملية ايضا مشتركة بين التنظيم المدني وفوج قرداغ او الفوج التاسع التابع لقاطع مدينة السليمانية .النصير الرائع( كمال هورامي)  والذي رحل عنا مبكرا قبل ايام من كتابة هذه السطور اثر مرض عضال كان هو اداري الفوج وهو المسؤول عن مجموعتنا .                                                                 

 بدأنا المسير في صباح اليوم الثاني وبعد ساعتين وصلنا قاعدة أخرى لرفاقنا اسمها( باني شار) وذلك لقربها من  قرية مهجرة قسرا من قبل النظام الصدامي اسمها (باني شار)  وهي قريبة من شلالات احمد آوى السياحية الواقعة في الشمال الشرقي من مدينة السليمانية، وهي ايضا منطقة حدودية بين العراق وايران. والقاعدة تقع على قمة جبل قاس وحجري وبجانب مسقط الشلال ذو الصوت المدوي الهائل. وليس بعيدا عن المكان كانت هناك عين الماء الصافي، اعتقد اسمها العين السحرية. بعد الاستراحة هناك، بدأنا ننزل في اتجاه القرية على طريق ترابي صلب مجاور للنهر الممتد من  مسقط الشلال وصولا إلى القرية، وعلى جانبي الطريق ارتفعت أشجار فواكه الرمان والتين والعنب والجوز التي التقت وتشابكت فوق النهر. اوراق الاشجارترقص على موسيقى المياه الباردة وتحكي أخبار ناس مروا من هنا في وقت مضى. سرنا مذهولين من جمال الطبيعة وخصوبة الأشجار المملؤة بالفواكه كأنها مملكة من الف ليلة وليلة غادرها أهلها من بطش الملك الظالم  . تلاصقت الاوراق والتفت الأغصان من الجانبين فشكلت غطاء اخضر كأنه السقف، فحجبت ضوء الشمس من الدخول لهذا الوادي إلا القليل من الإشعاعات المرحة والتي أبت إلا أن تدخل المكان وتجوب أركانه وتزيد من روعته. ياالهي ماهذا الجمال الأخاذ ماهذا السحر. سيطر الصمت علينا، تحسسنا هذا الجمال بأيدينا و بدأنا نتذوق هذه الفواكه اللذيذة كأننا في الجنة التي لم نكن فيها يوما.                                                                                             

 وصلنا القرية بعد الظهر ذهب مسؤول المفرزة ليسأل عن البيشمركة من الحزب الاشتراكي والديمقراطي، وبعد انتظار طويل عاد ومعه رجال ضخام القامة وكانت شواربهم ملفتة للنظر لحجمها الكبير. سلمنا عليهم بود، ردوا علينا بتحية رسمية خجولة مترددة فيها قليل من الامتعاض  والكثير من التساؤل، وأخذوا مسؤول مفرزتنا على انفراد وبعيدا عنا، كنا نرى تلويح الأيادي وحركة شواربهم حين يتحدثون فهي تتحرك حسب ثقل الكلمات. مابهم ؟وماذا يقولون؟ رجع رفيقنا ليخبرنا أنهم يرفضون العملية معنا وأنها ليست حسب الشروط التي اتفقوا معنا عليها. اعتراضهم على وجود نون النسوة. اعتراضهم على وجود النصيرات. هم يقولون أن الانسحاب سيكون فيه جري سريع واكثر من نصف ساعة وان وجود النصيرات سيعرقل الانسحاب. ساد الصمت بيننا، وتوقعت أن يقول مسؤولنا  سيكون من الافضل بقائكن بالقرية  لحين عودتنا. لكنه لم يقل شيئا، بقي صامتا ومتلفتا صوبهم. سألته ماذا قلت انت لهم؟.. أكدت لهم على قدرتكن على الجري السريع والمناورة واستخدام السلاح و بدونكن  لا اشتراك بالعملية. ارتفع إحساسي بنفسي من آخر جملة قالها. استقويت بقوته وتصميمه. رائع هذا النصير فهو لم يختبئ تحت عناوين المهم والاهم او الظرف الاجتماعي والتقاليد او بحجة الخوف على العنصر النسائي والخ من مسميات الأعذار.

 نادوه مرة أخرى وتعالت الأصوات وأصر على رأيه واستمرت المحادثات.. قاربت الشمس على المغيب العملية لا تحتمل التأجيل ولا التأخير. يجب اتخاذ القرار الجميع متوتر وعلى أعصابه، وأخيرا قرروا إجراء العملية المشتركة بشرط أن مسؤولية أمان النصيرات وسلامتهن وتبعيات العملية وسمعتها يتحملها النصير المسؤول من الحزب الشيوعي العراقي.             

 خيم الظلام وقسمنا على مجاميع مشتركة من الأحزاب الثلاثة. وعرفنا تفاصيل العملية او مهمة المجموعة التي انا من ضمنها وهي اعتقال احد( الجحوش ) الكبار، والجحوش هم رجال صدام والحكومة العراقية من الاكراد وهم الادلاء للجيش العراقي وبنفس الوقت هم مخبرون عن تواجد الانصار وقواعدهم  . هذا الجحش كان يقوم بزيارة لعائلته في هذا اليوم  وقد تسبب  باستشهاد مجموعة من رفاقنا ومن الأحزاب الأخرى. كانت هناك مهمات أخرى لمجموعات أخرى  من بينها جمع تبرعات وبطانيات للانصار. وكانت مهام اخرى كذلك لا اتذكر تفاصيلها.

 غطت الظلمة قرى كردستان وجبالها . وتلالات أضواء البيوت في المجمعات والقرى القريبة من  مناطق كريميان. عندما نكون في أعالي الجبال ونرى هذه الأضواء نشعر أن الحياة هناك بكل مافيها من فرح وبهجة, والموت في نواحينا. الوعي والإيمان بقضيتنا العادلة هو الحد الفاصل بين الحياة والموت. أن نبقى في الجبال المظلمة  والقاسية ونقاوم إغراءات المدن واضواءها. سرنا سريعا باتجاه المجمع كان اسمه خورمال على مااعتقد غير متاكدة, المحاط بربايا الجيش وافواجه. الأفواج والثكنات العسكرية الممتلئة بالعتاد والسلاح او هكذا كنا نتصور.. يتقدمنا دليل من أهالي المنطقة يأخذ اجرا لقاء ذلك ولكنه متعاطف معنا.  وصلنا المكان وبدأنا نطرق الابواب ونجمع  البطانيات وحملناها في سيارة( بيك اب ) كانت تنتظرنا هناك  في المجمع السكني. كثير من الاهالي الذين استجابوا  لحاجاتنا  ومنهم من رفض تقديم المساعدة . وصلنا البيت الأخير وطرقنا الباب بقوة وبنادقنا موجهة على الباب لا ندري من سيفتح.. كل شئ مجهول لا وقت للتفكير او التخمين. فتحت الباب امرأة وذهلت لسماعها صوتا نسائيا يرتدي بدلة بيشمركة وتحمل الكلاشنكوف. قلنا لها بصوت آمر.. نادي على زوجك. ظهر الجحش سريعا من وراء زوجته ولم يبد اية مقاومة وخرج مسرعا معنا بعد تفتيشه، بدأنا بالانسحاب وسط همسات متبادلة. يالله بالعجل. اركضو سريع. اسرع. اسرع. اسرع. الخوف يجعلنا نركض اسرع. الخوف من الجيش.. من الظلام.. من الفشل.. نعم الخوف من الفشل سيقولون فشلوا لان معهم نساء. ركضنا اكثر من عشرين دقيقة في منطقة زراعية مفتوحة (دشت) سهل, لايوجد بها ساتر او ضخرة كبيرة نختبئ وراءها في حال حدوث مواجهة او كمين. كنت اركض سريعا ومع كل الخطورة التي ترهبنا بهذه اللحظات لم امنع نفسي بالتفكير بالزرع الذي ادوسه تحت اقدامي ويموت. ماذا سيقول عني الفلاح اشعر بالتعاطف معه او بالتعاطف مع نفسي في ذات الوقت . فهذه الارض تذكرني ببستاني في كربلاء وبتوصيات ابي بعدم المشي بالارض المزروعة والمسقية حديثا. فقت من شرودي على صوت كمال هورامي يقول وصلنا الى منطقة اقل خطورة..  قللنا من سرعة خطواتنا لنلتقط انفاسنا بدون كلام، فقط صوت خطواتنا المتسارعة صوب الامان . وصلنا القرية وصلنا للمكان الأمين البعيد عن الجيش والظلمة والفشل. ما أجمل الفوز والنجاح. نجحت العملية وبدون خسائر وكسبنا التحدي. حلفاؤنا بالعملية صافحونا بحرارة وعيونهم تنظر لنا بكل حب واحترام، تبدوا شواربهم أجمل الآن. قال مسؤول الحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وعلى مااعتقد كان اسمه نصير هورامي :أنحني لكن احتراما يا نصيرات الحزب الشيوعي انتن بطلات وفخر للحركة الوطنية. لم ينصحونا بالمبيت بالقرية خوفا من الإخبارية فقررنا التوجه صوب القاعدة. مشينا مسافة قصيرة والزهو والفخر يملأ القلوب. ولكن التعب والإرهاق غلب علينا فقررنا المبيت في الكازينو السياحي( احمد اوا) المهجور الموجود في اسفل الوادي، كان خاليا وباردا، نمنا على البلاط ارتجفت اوصالنا من البرد ولم نشتك ولم نناقش لان الجميع كان يريد رؤية الوادي الجميل والمملوء بالفواكه والسير به في النهار.