توطئة
هذا الرحيل ليس غيابا، لكنه عثرة في الحضور حتما، هو رحيل وفق جدلية الحياة والموت، أما كشعلة متوهجة بألف طور وطور، فستبقى تنير لأجيال وأجيال دروب البحث والتفوق والجمال في الأدب والثقافة، عبر صورها المتجددة، وقراءة المتلقين لها إلى الأبد.
هو ليس غيابا، كسائر غيابات من نحبهم، لأن حضورك كان متجددا، ومؤثراتك كانت متشابهة ومتنوعة، وفاعليتك كانت ومازالت في حقول المعارف متوقدة دوما، لا غياب لأمثالك يا "أبا زيد"، لا رحيل ولا اختفاء ولا تغييب، فقد أقدم على تغييبك من أقدم من الطغاة قبل أكثر من عقدين، لكنه هو وأمثاله من غيبوا، بينما ظل حضورك أجمل.
أربعون يوما مر على وفاتك المفاجئة، بعد مسيرة عطاء لا تنضب، لا تتوقف، لا تجف سطورها المتلألئة كنوزا، أربعون يوما مرت حزينة، مدمعة النهارات والليالي، وهاهم أحبابك، ممن تركت في عقولهم قبسا من وهجك، وفي قلوبهم محبة وذكريات لا تنسى عن صبرك وعطائك وجديتك وعلمك وأبوتك وحنانك وتواضعك وقلمك وابتسامتك ووجهك الجميل.
ها هم أحبابك يكتبون عنك، عن وهجك الذي صار فنارا.
ــــــــــــ
المحرر
ببلوغرافيا.. الدكتور علي عباس علوان
ولد الدكتور علي عباس علوان في مدينة البصرة عام 1938.
تخرج من كلية الآداب في بغداد عام 1960.
نال درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1964.
كما نال شهادة الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في عام 1974.
أصدر العديد من الكتب والدراسات، منها: الرواية العربية ومشكلات الواقع والوحدة العربية في الشعر العربي الحديث وقراءة جديدة في النص التراثي وشعر الشباب وحركة التجديد.
تعرض الدكتور علي عباس علوان الى الفصل من جامعة بغداد ضمن حملة شملت أساتذة كبارا.
يعد من الرواد المؤسسين لنظرية النقد الأدبي في العراق، ودرست على يديه أجيال عديدة.
عرف بدراساته الرصينة المتميزة في نقد الشعر والرواية، ويعد الراحل من النقاد المتميزين في العراق والعالم العربي.
عمل لسنوات طويلة أستاذا للنقد العربي الحديث في جامعة بغداد.
شغل منصب رئيس جامعة البصرة بين سنتي 2005 و2009.
توفي بتاريخ 16/4/2013
علي عباس علوان.. شهادة في لقطات
تلقيت عصر يوم الثلاثاء 16 نيسان 2013 مكالمة هاتفيّة من صديقي الدكتور حيدر معاذ التدريسي في كليّة الهندسة في جامعة البصرة أعلمني فيها بنبأ انتقال أستاذي الدكتور عليّ عبّاس علوان إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أجريت له عملية جراحية في إحدى مستشفيات أربيل.. وأستاذي المرحوم الدكتور عليّ عباس علوان من مواليد البصرة العام 1938، وقد أكمل الدراسة الجامعيّة الأولى في آداب بغداد، وتخرج في قسم اللغة العربية العام 1960م، وحصل على الماجستير من جامعة القاهرة العام 1966م، كذلك حصل منها على الدكتوراه في العام 1974م، وقد درّس في أكثر من جامعة عراقيّة وعربية، وشغل مناصب إداريّة عديدة كان آخرها رئاسته لجامعة البصرة منذ: 2005 م، إلى العام 2009م، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية، وناقش بعضها الآخر، وأصدر: (الزهاوي الشاعر)، و(تطور الشعر الحديث في العراق اتجاهات الرؤي? وجماليات النسيج)، و (نقد الرواية العراقية)، وله أبحاث نقدية عديدة، كان أستاذي من أصحاب المواقف المشهودة، وقد تعرض إلى مضايقة كتاب التقارير من أزلام جمهورية الخوف، فآتت تلك التقارير اللئيمة أكلها بعد حين من الزمن، فجرى فصله من الجامعة لمدة خمس سنوات هو والدكتور عبد الواحد لؤلؤة، فضلا عن فصل الدكتور قحطان التميمي (معاون عميد كلية التربية آنذاك) من الجامعة ونقله إلى المتحف العراقي بسبب تقرير أستاذ سوري يعمل معه في الكلية نفسها، حين أردتُ نشر كتابي الموسوم بـ "الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون" في عام 2009م، هاتفته (وكان لما يزل رئيسا لجامعة البصرة) راجيا أن يقرأ نسخة الكتاب الرقمية، ويكتب كلمةً لغلافه الأخير إن وجده يستحق التعريف، وسرعان ما أجابني كاتبا: "سفر متميز بقلم ناقد حاذق موهوب،يقدم للقارئ الجاد عصارة تجارب ورؤى نقدية وفنية على مدى نصف قرن من الزمن تقريبا، عاشها الأستاذ الدكتور عبد الرضا علي معايشة حقيقية، فأنتجت - وجميل ما أنتجت - فصولا ممتعة ومثيرة وكشوفا في حياة أولئك الشعراء المبدعين، ممن أكلت القوافي ألسنتهم، عربا وعراقيين، نعم، هو الأكاديمي في التدقيق والرصد وغور الأحداث والنفوس، ولكنه الأكاديمي الذي طرح الجفاف والتزمت والتكرار، ليقدم تعليقاته الذكية، ولقطاته الموفقة مع شيء من التحليل وكثير من الإثارة، لقد قرأت هذا الكتاب في جلسة واحدة، ولذا، أدعوك - أيّها القارئ الجاد - أن تدخل عوالمه متمتعا بالجمال والفن والسيرة، ولن تخسر أبدا، فشكرته ممتنا، وتوجت بما كتب غلاف الكتاب، وحين أرادت كلية التربية في جامعة القادسية أن تحتفي بمنجزه النقدي صبيحة يوم الأربعاء 28/11/ 2012م، كتب إلي الأستاذ حسن مجاد التدريسي في جامعة القادسية رسالة كريمة على نافذتي في الفيسبوك طلب فيها مني ليلتها أن أكتب عن أستاذي شيئا، فكتبت هذه الشهادة العجلى بلقطاتها الأربع، فتكفّل بقراءتها نيابةً عني أخي الدكتور كريم المسعودي مشكورا، فكان وقعها (كما أخبرت) جميلا على شيخي ومعلمي وصديقي، لهذا كلّه وجدتها خير ما يشاركني في هذه الفجيعة رحم الله أستاذي، وشيخي، وصديقي الدكتور علي عباس علوان، وألهم أهله وأصدقاءه، وطلبته السلوان، وعزاؤنا في ما تركه من أثر نقدي حصيف، وما غرسه من وعي فكري مستنير، وما أشاعه من خلقٍ تربوي رصين.
لقطة أولى - كان هو أستاذي في مادّة العروض في ستينيات القرن الماضي، واشهد أن الدرس كان صعبا للغاية في أيامه الأولى، لكوني جئت إلى قسم اللغة العربية من الفرع العلمي، لكن أستاذي علي عباس علوان، بذكائه الفطري، وطريقته الهادئة في تنظير مادة العروض وتطبيقِ التقطيع على اللوحة، وعلاقته الحميمة مع طلبته، سهلت الدرس، وما أن انتهى العام الجامعي إلا وكنا من المبرزين في هذه المادة، ولعل كتابي "موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه" يشير إلى أنني بعض غرس الأستاذ.
لقطة ثانية - حين قدت إضرابا (مع بقية زملائي طلبة المرحلة الثالثة) على أستاذنا (رحمة الله عليه) الدكتور محسن غياض، بسبب أسلوبه الخشن، وإهانته للطلاب على نحو دائم في درسي "الشعر، والنثر في العصر العباسي" واستمر هذا الإضراب أكثر من أسبوعين (على الرغم من كلّ محاولات قسم اللغة العربية متمثلا برئيسه الدكتور هادي الحمداني في ثنينا عن الإضراب) فوجئت بصوت علي عباس علوان يناديني في أحد الأيام، وبعد أن خرجنا إلى ساحة الكلية طلب مني إنهاء الإضراب قائلا: نعم، ربما خيل إليكم أن الرجل خشن، أو هو كذاك، لكن ما ذنب عائلته؟... أريد اليومَ إنهاء الإضراب، واللقاء بالدكتور، وكل الأمور ستحل بعد ذلك، وأنا الضمين بها، وهكذا أنهينا الإضراب نزولا عند رغبة من غرس فينا المحبة (وقد أصبحت من أصدقاء الدكتور محسن غياض بعد حين من الزمن).
لقطة ثالثة - توطدت علاقتي به بعد التخرج، فزرته في القاهرة(أيام دراسته للدكتوراه)، وكان يحثني على بذل الجهد في مرحلة تمهيدي الماجستير، وقد حضر شخصيا يوم توزيع النتائج، ليتأكد من أن بعض غرسه يجب أن يكون من المتفوّقين في دروس: سهير القلماوي، وحسين نصار، ويوسف خليف، ونبيلة ابراهيم، وغيرهم من الأساتذة الأعلام، وحين علمَ أن الدكتورة سهير القلماوي وافقت على الإشراف على رسالتي للماجستير، ورفضت الإشراف على رسالة عبد الإله أحمد للدكتوراه، هنأني، مذكرا إيايَ أن الدكتورة سهير القلماوي تحترم الزمن، وتريد أن ترى طلابها أسبوعيا، لتقف على ما ينجزون من محاور فصول رسائلهم، مشيرا إلى أنها هي التي أشرفت على رسالته للدكتوراه التي طبعت بعد حين بعنوان "تطور الشعر العربي في العراق اتجاهات الرؤية وجماليّات النسيج" ، فقلت له: أعرف ذلك يا سيّدي، فقد حضرتُ المناقشة، ورأيتُ كيفَ تجلّيتَ فيها، وقد قرأتُها قراءة دقيقة، واستشهدتُ ببعض ما جاء فيها، لاسيّما حين عرّف العقم بأنّه: "خلو الفن من الأصالة والإبداع والتوليد وإحداث الجديد، فهو لا يمتلك القدرة التامّة، ولا البذور الحيّة لتجاوز الموروث وتخطّيه، وحتّى الانقضاض عليه أحيانا" وهذا التعريف قد أغلق الباب على المصطلح، وجعله مستقرّاً منذ ما يقرب من أربعينَ عاماً كانت رسالته المخطوطة قبل الطبع تحمل العنوان الآتي "التطوّر في الشعر العراقي الحديث"، وقد نوقشت في العام 1974م، في المدرج الكبير في كليّة الآداب / جامعة القاهرة، وحضرها جمعٌ غفير من الأساتذة وطلبة الدراسات العليا.
لقطة رابعة - حين بدأ العراق يفرغ كتابه، وأساتذة جامعاته،ومبدعيه في تسعينيات القرن الماضي استقر بي الحال في اليمن، واستقر الحال بأستاذي في الأردن، واستقر غيرنا في ليبيا، أو في سلطنة عُمان، لكنّنا كنّا نلتقي في العاصمة الأردنيّة في الإجازات الصيفيّة، وكنتُ أحرصُ على لقاء أستاذي وصديقي عليّ عباس علوان هناك، واشهدُ أنّ الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي كثيراً ما كان يجمعنا حوله، سواء أكان ذلك في (الهورس شو)، أو في (اتليه الفينيق)، أو في أماكنَ أخرى، وحين نزلتُ في صيف العام 1998م، إلى عمّان، رغبتُ في (اليوم نفسه) أن ألتقي البياتي في (أتليه الفينيق) لأقف على صحّته، وأستفسر منه عن أحوال بقيّة الأصدقاء، فقال باسما: حسنا وصلتَ اليوم، فغدا يكون الدكتور علي عباس علوان في مقهى السنترال في العاشرة صباحاً، لأنه بصدد الإشراف على الكتاب الموسوم بـ "فتوحات البياتي" الذي سيصدر بمبادرة من أصدقاء بلغ عددهم ثمانين شاعراً وكاتبا، فإن رغبت في المشاركة بشهادة، فينبغي كتابتها الليلة، وتسليمها غدا للدكتور عليّ عباس علوان، وسيكون بمعيتهِ هناك الدكتور سعيد جاسم الزبيدي بوصفه واحدا من المشرفين على الكتاب، والشاعر الشاب هادي الحسيني الذي سيعنى بإعداده وتحريره، فانتهزت الفرصة، وكتبت في تلك الليلة شهادتي التي كانت بعنوان "الرائي"، وحملتها صباحا لأبي زيد بعد أن عانقته مقبلا، واكتشفت أن أستاذي علي عباس علوان قد كتب مقدمة ولا أروع عن الكتاب، تناول فيها تحولات الرؤية عند البياتي ونتائجها، وتوصّل إلى "أن الفن عند البياتي لا يرتبط بالأيدلوجيا عن طريق ما يقوله، ولكن عن طريق مالا يقوله، فنحن لا نشعر بوجود الأيديولوجيا في دواوينه الأخيرة، وقصائده المتميزة... ولكننا نشعر بأيديولوجية الشاعر الكونيّة الخاصّة من خيال الجوانب الصامتة الدالة، وفي فجوات النصوص وأبعادها الغائبة، إن الشاعر لا يقول ولا يكشف عما يقال، وعلى المتلقي أن يعيد الكشف والتأويل والقول، وبديهي إن هذه النتيجة التي توصّل إليها علي عباس علوان لم تأتِ إلا بعد أن قرأ كلّ تجارب البياتي الشعريّة، ووقف عند منجزاته الفنيّة في توظيف الأسطورة، أو اجتهاداته الدراميّة في قصيدة القناع تحديداً، تحيّة لأستاذي وشيخي ومعلمي، وصديقي الدكتور عليّ عباس علوان، راجياً أن يعلمَ أنّ تلميذه الوفي الأستاذ حسن مجاد التدريسي في كلية التربية / جامعة القادسيّة قد طلب مني هذه الشهادة قبل ساعات، فحرصت أن أشارك بها قبل بزوغ الفجر، مثلما شاركت بشهادتي عن البياتي يوم أشرف أستاذي علوان على "فتوحات البياتي" وكأن القدر أراد لي ألا أحرم من تكريم الكبار، بعض غرسك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أ د. عبد الرضا علي
الدكتور علي عباس علوان: النقد يعيش ما هو أكبر من أزمة
يعد الدكتور الناقد علي عباس علوان من المؤسسين لنظرية النقد الأدبي في العراق، وهو من النقاد المتميزين في العراق والوطن العربي، وقد عرف بدراساته الرصينة المتميزة في نقد الشعر والرواية، إضافة إلى انه أستاذ النقد الادبي الحديث في جامعة بغداد لسنوات عدة، الدكتور علي عباس علوان من مواليد مدينة البصرة عام 1938، تخرج من كلية الآداب في بغداد عام 1960 ونال درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1964 عن (شعر جميل صدقي الزهاوي)، وفي عام 1974 نال شهادة الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الاولى برسالته التي مازالت تشغل الباحثين وهي (تطور الشعر العربي الحديث في العراق: اتجاهات الرؤيا وجمالات النسيج) وتناول فيها الشعر العراقي الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ومعروفة بوضوح العلاقة الحميمة للشعر العربي، ومعروف معها ان الشعر ما يزال يحتل مكانة خاصة في دائرة الثقافة والفن في العراق، ولذا فقد كان طبيعيا ان يحظى هذا الفن بالدراسة والنقد والمتابعة، وبالفعل تعددت الدراسات في ذلك وتنوعت مداخلها.. وقد طبعت تلك الرسالة في اكثر من طبعة، وتعتبر منهجا أساسيا يحتذى به في الوطن العربي، وبعد هذا الكتاب أصدر الدكتور علوان العديد من الكتب والدراسات نذكر منها (الرواية العربية ومشكلات الواقع) و (الوحدة العربية في الشعر العربي الحديث) و (قراءة جديدة في النص التراثي) و (شعر الشباب وحركة التجديد) وغيرها العديد من المؤلفات وقد حط رحاله أخيراً داخل العاصمة الأردنية عمان ليدرس النقد الادبي الحديث بإحدى جامعاتها، حيث السنوات الاخيرة تعرض الدكتور علي عباس علوان الى الفصل من جامعة بغداد ضمن حملة شملت اساتذة كبار... وفي عمان التقيت الدكتور علي عباس علوان وكان معه هذا الحوار حول مشكلات النقد الأدبي الحديث في الوطن العربي ومشكلات القصيدة الراهنة.
• بوصفكم واحدا من النقاد المعروفين في ساحة الأدب والنقد العربي وشاهدا واعيا لحركات التجديد، كيف ترسمون ملامح الصورة النقدية العربية المعاصرة، وما ابرز خطوطها وانجازاتها؟.
صورة النقد الأدبي العربي مضطربة مهزوزة، ربما هي، في كثير من مراحل الحياة العربية، لكن هذا الاضطراب يكاد يكون على أشده في السنوات الأخيرة بسبب قضية (الحداثة) في الإبداع وبالتالي انعكاسها في النقد واخطر ما في هذه الصورة ما تعلق بمركزها وبؤرتها الأساس، واعني بذلك قضية (الهوية) فلقد تنبه النقاد الى أن مناهج الحداثة: بنيوية، أسلوبية، علم العلامات ، تفكيكية، نظرية التلقي، الخ كلها مناهج غربية جاءت بعد خلفيات فلسفية وفكرية وعقائدية استمرت ثلاثة قرون ابتداء من القرن السابع عشر وصولا الى القرن العشرين، ولم يكن للنقد العربي ولا للناقد العربي أي اضافة تذكر فهو تابع منبهر، متلق، في أحسن الأحوال ومردد محاكي في أسوأ الأحوال، ومن هنا جاء السؤال الخطير عن الهوية، هوية الناقد العربي اين مكانه من هذا الذي يحدث في العالم: موجة أثر موجة وتيار أثر تيار وموضة أثر أخرى، ثم جاءت الكارثة الأخيرة للعالم كله واعني بها قضية (العولمة) التي بدأت عواصفها تهب على الفكر الانساني كله، وتزداد معها قضية النقد العربي تعقيدا ًواضطرابا لا بسبب، ان المثقف العربي يقف اليوم مكشوفاً عارياً من كل إضافة معرفية حقيقية فحسب، بل يضاف إلى ذلك ان الزمن ليس في صالحه من حيث إعادة ترتيب الأولويات ومن حيث مدى قدرته على الأخذ والتفاعل، ثم العطاء، ان الصورة ستبدو اكثر قتامة إذا نظرنا بعين الجد والفحص لهذا التيار القوي الذي يمثله الشباب المبهورين بالمناهج الجديدة والذين يزعمون لأنفسهم وللآخرين بأنهم وحدهم طلائل التقدم والتحديث، وأن الآخرين ليسوا سوى رجعيين متخلفين عن روح العصر ومقتضيات التجديد.
• إذن كيف تفسرون الحالة الراهنة لحياة النقد العربي المعاصر، وهل هو في أزمة منهجية حقا؟.
تأسيسا على ما ذكرت فأن الحال أكبر من الأزمة، ذلك أن الأزمات ترتبط بمرحلة زمنية سرعان ما تتهيأ ظروف وقوى ومتغيرات تساعد على حل الأزمة، لكن الذي يعيشه النقد العربي أكبر من أزمة، أنها حال من عدم التوازن المريع، لم يستطع الحداثيون تقديم المقنع والبديل ولم يستطع التقليديون كذلك تقديم الثبات المتميز الأصيل، حال اللاتوازن هذه لا تبشر بخير لأنها تضع كل الاشياء على خط أفقي من الرداءة والجودة، والقوة، والضعف، ولأنها حال تفتقد (الثوابت)، ولأن موجات التحديث وموضات التجريب مستمرة في مجتمعات الغرب التي فقدت كل الثواب? من (الروح) الى (العقيدة) ومن (الله) الى (الانسان) ومن (المعقول) الى (اللامعقول) ومن (العقل) الى (الذات) ومن (سجن العقل) الى (الميتالغة)، فأن (الأزمة – الحال) في كلا الأمرين: الإبداع والنقد معا، فغدا الشاعر المعاصر قد نفض يديه من القصيدة التراثية ثم قصيدة التفعلية، وأتجه بكليته الى قصيدة النثر مع أزدراء كبير لكل منجزات الناقد العربي القديم والحديث ابتداء من الخليل الفراهيدي وانتهاء بقصيدة السياب والبياتي، فأن الناقد الأدبي لم يجد أمامه غير الاعتراف الكامل بهذه الحال وحتى لا يتهم هو الآخر بعدم الفهم والتخوف عن روح الحداثة، فأن ترك نفسه لحال الغرق الكامل في الموجة، محاولا اللحاق بأخر أسماء التفكيكيين وما قاله دريدا بعد ان تحول جاك دريدا نفسه عن البنيوية الى التفكيك، وبعد أن مات المؤلف ثم مات النص وأتجه الجميع الى القاريء الذي سيأتي يوم موته في قادم الايام.
• هذه الصورة التي ترسمون ملامحها، هل هي دلالة صحة أم (مرض)، لا سيما وان حياتنا الثقافية تتسع لاستقبال الجديد دون فحص، ثم ما دور المثقف والمبدع في مثل هذه الحال؟.
في تقديري ليست المسألة قضية (مرض) أو (صحة) بقدر ما هي متعلقة بقدرة المثقف العربي، مبدعا وناقدا على رؤية العالم وموقعه من هذه الرؤية ومن هذا العالم، اذا كانت الأمة العربية بكل تراثها لا تستطيع أن تمنح مثقفيها موطئ قدم ثابت في هذا العالم المضطرب وان لم يكن المثقف قد فك ارتباطه بكل ذلك التراث الوجداني والأصيل منه ولم يستطع أن يلقح روحه بأجمل ما في الأمة من تراث وترك لأعاجيب التكنولوجيا وقوى الظلام الهائلة أن تمسخه وتوجه ذائقته وبالتالي ذائقة الأمة، فتلك هي المأساة الحقيقية التي تنتظر الثقافة العربية والمثقف العربي مبدعا وناقدا، أنني في الواقع اتساءل مع نفسي دائما، لماذا نجد المثقف العربي وباستمرار يصر على مراجعة مراحل حياته الفكرية والفنية بين عصر وعصر، وبين فترة وفترة ويمتلك من الحرية واحترام النفس ما يجعله يرفض الفكرة المهيمنة والموجة الفنية تحل محل فكرة جديدة وموجة فنية جديدة، لقد هيمن النقد الجديد على الفكر الأوربي والغربي سنوات الثلاثينيات حتى الخمسينيات ثم سرعان ما جاءت موجة البنيوية حتى إذا ما جاءت سنوات السبعينيات انتهت البنيوية وأسقطت مقولاتها الكبرى لتحل محلها موجة التفكيك ولم تستقر طويلا جاءت موجة نظريات الاستقبال والتلقي ثم سرعان ما عادت الدورة من جديد لتعود الى اتجاهات النقد التاريخي الفني مرة اخرى اذا كان الامر كذلك عند مبدعي المناهج المتجددة في الغرب فلماذا يصر الناقد العربي على ان يكون أحادي الجانب لا يرى في الصورة إلا اللونين الأسود والأبيض ويحرص ان يكون مدافعا عن الموجة الجديدة.
• إذن كيف ترون (الإبداع) الحقيقي؟ وكيف يرتبط إبداع الشعر والفن بالنقد؟.
يرتبط (الإبداع) بروح الانسان ووجدانه واتساع رؤيته للعالم، صحيح ان الفن بشكل عام يقدم للإنسان المتعة والفائدة، ولكن الاكثر من لك فأن الإبداع الفني يقوم بعملية اكبر من حيث تربية ذوق هذا الإنسان وتحضره وتحقيق أعلى درجات إنسانيته، اما الشعر فقد قال عنه هيجل انه (فن الفنون) او هو أرقى أنواع الفنون، وكان يظن قبل هذا ان الموسيقى هي اعلى مراتب الفن الانساني، لكن هيجل غير المعادلة، في أية حال يرتبط النقد بالأدب والشعر، والنقد يأتي بعد الإبداع فينظر ويستخلص القوانين ومنذ القديم كان أرسطو قد وضع قوانين الشعر الدارمي والملحمي بعد ان قرأ هوميروس واسخيلوس وارستوفانيس وكابر شعراء اليونان وفي ساحة الإبداع العربي المعاصر فأن كما هائلا من الإنتاج الشعري إلا انه انتاج غير مؤثر، بل هو يفتقد الى الأصالة والقوة والشاعرية.
• قصيدة النثر هذه الموجة الصاخبة، كيف تلخصون الموقف النقدي منها؟ وهل هي في طريق الحداثة الوحيد كما يصر على ذلك كثيرون، ومنهم أسماء نقدية معروفة؟.
لقد ضاع الشاعر والمتلقي والناقد في خضم هذه الموجة الهائلة من التجريب في عالم القصيدة وطغت قصيدة النثر طغيانا غير منطقي مع أنها واحدة من نماذج القصيدة في الغرب، بل هي في الواقع ليست النموذج المتقدم عندهم ولا سيما عند الفرنسيين الذين تخلوا عنها ولم يعد يكتبها كبار شعرائهم، ومع ذلك فأنك تجد معظم شعراء العربية والشباب خصوصا لا يحسنون إلا هذا النموذج وليتهم يحسنون كتابتها متصورين أن مجرد التخلص من الموسيقى والإيقاع والوزن والقافية كفيل بأن يجعلهم أحرارا في قضية الإبداع، ولعلهم يجهلون أن كتابة قصيدة النثر عالية صعبة بل شاقة ذلك أنها تتطلب عمقا في الثقافة وتمرسا دقيقا في استخدام المفردة اللغوية وكثافة صورية متميزة، وبناء هندسيا دقيقا ومعمارية عالية تجمع بين إيقاعات وموسيقى داخلية في تراكيب ومفردات محسوبة بدقة وصولا الى القصيدة المؤثرة، وتلك أمور يجهل معظم الشباب أسرارها، ولذلك كله لم يستطع النقد ولا أكثرية النقاد تعاطفا مع قصيدة النثر (أدونيس وأبو ديب)، اكتشاف أو الوصول الى قوانين القصيدة أو الوصول الى حال من الوضوح والاتفاق على اسس وثوابت فنية وجمالية وكل الذي انتهوا إليه إن هذه القصيدة تظل مفتوحة الأفق على التجربة وأنها لم تأخذ مداها الزمني لتكون ذائقة قرائها كما أخذت مداها قصيدة الشعر الحر، متأسين أن السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري كانوا قد قلبوا موازين الذائقة والنقد خلال سنوات قليلة وما أن حلت سنوات الخمسينات حتى كانت قصيدة التفعيلة قد قدمت أعظم انجازاتها وصارت شغل الشعراء والنقاد والقراء وكتب من خلالها كبار شعراء العربية الذين أبتدأوا حياتهم بقصيدة التراث، لكن قصيدة النثر وقد ابتدأت في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات انطلاقا من مجلة شعر اللبنانية وحتى اليوم تصعد وتهبط وتتوقف وتسرع ولكنها لم تستطع الوصول الى ما وصلت غليه قصيدة التفعيلة وما قام به بعض الشعراء أحيانا كأدونيس وسعدي يوسف من كتابة بعض نماذجها ليس إلا مغامرة لم تكن في مستوى إبداعاتهم السابقة، وفي كل حال يظل النقد يرصد هذه الظاهرة ويؤشر سلبياتها ويدعو الى عدم اعتمادها النموذج الأوحد لكتابة القصيدة وان كان بعض نقاد الحداثة قد راهنوا على انها الجواد الرابح، وأظن رهانهم لم يكن دقيقاً ولن يكون رابحا.
• هل لهذه القصيدة انجازات كبرى، وكيف تنظرون الى شعرائها المعروفين؟.
هذا الكلام أقوله على النماذج العالية من هذه القصائد التي كتبها محمد الماغوط وادونيس وتوفيق صائغ وفاضل العزاوي وسركون بولص وسعدي يوسف، أما الآخرون فلم يكونوا إلا هاربين من صنعة الفن المطلوبة واقتدار الشعراء وامتلاك أدوات الفن الشعري وبمعنى آخر أنهم شعراء ضعفاء يحجبون هذا الضعف وذاك الهبوط وقلة الموهبة بالاندفاع الشديد لكتابة قصيدة النثر والادعاء بسقوط كل النماذج الاخرى من انجازات القصيدة العربية.
أما علاقة هذه القصيدة بمفهوم الحداثة، فأن القضية ليست بهذا التبسيط، ذلك أن الحداثة رؤية للعالم وينبني على هذه الرؤية موقف وانجاز، والواقع أن النقد يتحمل مسؤولية كبرى عن تبسيط قصية الحداثة والوصول بها الى حال من الإسفاف والهبوط، نحن نتحدث عن الحداثة والمجتمعات العربية وعلى كل الأصعدة نشهد حالات التمزق والتشرذم والتراجع في الوقت الذي تعنيه الحداثة أنها الوجه الآخر من التجاوز والتخطي والتقدم لما هو ماض ورث.
• ما الرد الحضاري وبالتالي الموقف النقدي من موجات الحداثة والتجريب في الأدب والنقد؟.
نحن نواجه تيارات من التغريب والعولمة والاستحواذ سياسيا وفكريا وحضاريا ولكننا ننادي بالحداثة في الفن والأدب كيف يمكن للفنان أن يعيد صياغة العالم والوجود صياغات جديدة قوية ونشطة وجديدة وهو يعيش كل حالات الإحباط والتراجع والتخلف والإرهاب والظلامية.
أن حركات التجديد والتحديث التي مرت بالشعر العربي ابتداء من امرئ القيس مرورا بأبي تمام والمتنبي وأبي نواس كانت نتيجة حتمية لحالات الحضارة المزدهرة التي مرت بها المجتمعات العربية وليس من المعقول أن تنطلق الحداثة في عصور التخلف والتراجع لذلك أرى ان ندعو الى عصر جديد من التنوير الثاني تجديدا لعصر التنوير الأول الذي ابتدأ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وشهد كل الانجازات التي تحققت للأمة العربية خلال القرن العشرين.
• ما الانجازات الاخيرة للدكتور علي عباس علوان عدا كتاب (نقد الرواية – محاولة في تحديث المنهج) وما شواغله الادبية؟.
أنا الآن بصدد استكمال فصول كتابي الذي أعده عن جماليات استقبال القصيدة العربية في نماذج تراثية وحديثة كذلك أضع اللمسات الأخيرة للفصل الخاص بالمختارات التي أعددتها في خمسين قصيدة من شعر عبد الوهاب البياتي، والمشروع الثالث الذي آمل انجازه خلال هذا العام عن ثلاثة روائيين عرب هم عبد الرحمن منيف وفؤاد التكرلي وإبراهيم الكوني تحت عنوان (مصابيح الرؤية) دراسة في ثلاثة نماذج روائية، وهناك مشاركة وتديم لكتاب ضخم تحت عنوان (فتوحات البياتي) وهذا الكتاب مهم في تقديري لأسباب منها ان اكبر الكتاب والنقاد والشعراء في العالم والعالم العربي سيشتركون في تحرير هذا الكتاب مع بلوغ البياتي الثالثة والسبعين، كما ان هذا الانجاز سيكون احد الشواهد الفنية والفكرية العربية في نهايات القرن العشرين وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين.
القرن الذي سيشهد فتوحات جديدة لأكبر شعراء العربية في هذا القرن، كذلك ما يشغلني واعد له حاليا مشروع مهم جدا حول التنوير الثاني للثقافة العربية واظنني سابد بنشر فصوله في الأشهر المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــ
هادي الحسيني
علي عباس علوان.. بعيدا عن التأبين
-1-
ما يواجهنا في أول المطبوع، هو آخر ما ينتجه النص، قبل الذهاب إلى المطبعة.. ومقدمة أي كتاب، هي مسك ختام الإنتاج المعرفي، وهي الخريطة التي يثبتها لنا المنتج، خريطة تجعل الطريق سالكة لنا نحن القراء، بالنسبة للمنتج، هي خطة عمله التي لم يبح بها لنا إلا بعد تمكنه من منتوجه المعرفي وحان الوقت، انتقالها (الخريطة/ الخطة) من الكمون الى العلن، او جوانية المؤلف الى برانية النشر.
-2-
منذ السطر الأول، تفضح المقدمة تلك الكذبة الرومانسية وترد عليها بالكتابة.. أما الكذبة، فهي نبوءة ناقد العصر الفيكتوري (ماثيو أرنولد).. الذي تصور ان القرن العشرين هو قرن سيادة الشعر المطلقة حيث سيكون الشعر الحقيقة الكاملة وهو البديل عن اتصالية العلم /الدين، (لا شك أن نبوءة ماثيو أرنولد، ناقد العصر الفيكتوري، لم تتحقق خلال القرن العشرين،عندما أعتقد بمستقبلية الشعر وسيادته على كل الأنواع الأدبية، بل وكل اهتمامات الفكر الإنساني باعتباره سوف يكون البديل الحقيقي عن (الدين ) و (العلم) وبأنه سوف يعبر عن (الحقيقة) كاملة، ويقدمها للإنسانية التي طال ترددها بين هذين القطبين /ص5).
ثم يزيح الدكتور علي عباس علوان، ضباب الرومانسية، عن نبوءة أرنولد التي لم تحسب السرعة الضوئية.. (بحيث لم تضع في اعتبارها القوانين الموضوعية لحركة المجتمع الانساني المرتبطة بتقدم الحركة الصناعية والسرعة الهائلة لانتشار الآلة وآثارها الضخمة في حياة الإنسان/ص5) إذن ارنولد لم يمسك إتصالية التقني/ الاجتماعي، بل تشرنقت رؤيته بتبئير ذاتوي.. لكن أرنولد، يبدو انه كان على صواب بطريقة معكوسة، فقد أندس الشعر في القصة والرواية والمسرح والمقال، وصيرها سرودا مشعرنة، فالتقنية ليست أذكى من الانسان، إلا بالنسبة للذين لجماها بين فيهم.. (ومن هنا فأن قضية الشعر ظلت مطروحة في حياتهم الجديدة وستظل، على الرغم من كل الاستحداثات والموجات الأدبية والفنية التي غمرت ساحات الثقافة والفكر العربية، بسبب الانعطافة الحادة في قضايا المجتمع المعاصر وهو يدخل عصر التكنولوجيا ويتأثر تأثرا شديدا بالمتغيرات النوعية الهائلة للآلة/ص5).. كلام الدكتور علي عباس علوان.. المثبت في المقدمة المنشورة ضمن كتابه المنشور في 1975، أي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، يومها كانت مؤثرات التقنية خالية من الرابط الاتصالي بمشتقاته خالية من الموبايل بتنويعاته، يومها أثبتت مهرجانات المربد، سيادة الشعر العربي، وكثافة جمهوره، واستقبال المطابع لعشرات بل مئات الدواوين الشعرية، التي كانت تتوالى أعادت طبعها.. لكن الباحث وهو يتحدث عن أزدهار الشعر يعزوه إلى (ضعف الحركة المسرحية، ولعدم رسوخ تقاليد القصة والرواية).. شخصيا وبتوقيت صدور كتاب الباحث ومع بدايات سبعينيات القرن الماضي،حتى 1977 ازدهرت الحركة المسرحية العراقية بشكل لافت للنظر، من خلال فرق المسرح العراقية في بغداد والمحافظات، وكان هناك أيضا أسبوع المسرح العراقي.. ومهرجانات ثقافية تشارك فيها الفرق المسرحية، منها فرقة(14 تموز) و مسرحيات لا يمكن نسيانها مثل (الدبخانة) بطولة وجيه عبد الغني وقاسم الملاك.. وهناك المسرح الذي يقوده الفنان الكبير العاني قيادة جماعية مع خليل شوقي وفاروق الفياض وزينب وناهد الرماح.. وروناك شوقي.
المسرح الذي أنتج النخلة والجيران و مسرحية (الخرابة) و(الشريعة) وغيرهما من مسرحيات يوسف العاني كما ان القصة القصيرة العراقية، بلغت مكانة عليا من خلال(المملكة السوداء ) للقاص محمد خضير، و(زليخا البعد يقترب) للقاص جليل القيسي الذي أتحفنا قبلها بمجموعته المذهلة(صهيل المارة حول العالم) وكذلك فاضل العزاوي الشاعر والقاص والروائي الذي اصدر في أواخر الستينيات روايته ( مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة)، كما أصدر القاص محمد عبد المجيد، روايته (عراة في المتاهة) والروائي زهدي الداودي (رجل في كل مكان)، ورواية (اللعبة) للشاعر والفنان التشكيلي يوسف الصائغ ورواية ( يوم شديد القيظ،يوم شديد المطر) للروائي عادل عبد الجبار، وفي منتصف الستينيات ظهرت رواية عراقية حاولت الاستفادة من تيار الوعي لدي جيمس جويس للروائي العراقي المحذوف من النقد العراقي وهو الروائي ياسين حسين الذي اصدر ثلاثية روائية مميزة (الطريق المسدود) و (الصمت والحقيقة) و (كما يموت الآخرون) ولعبت مجلة الكلمة منذ عدد ها الاول في احتضان الشعر والقصة والمقالة النقدية والحوار الثقافي وصناعة الملفات القصصية والشعرية في إعدادها وهي اي الكلمة مجلة تصدر كل شهرين، (صاحبها ومديرها المسؤول حميد المطبعي ورئيس التحرير موسى كريدي) وكانت تصدر من النجف الاشرف صدر العدد الاول منها في أيلول/ 1968.
وبرهان الخطيب (الشارع الجديد/قصص) ويومها كانت قد صدرت للروائي الكبير غائب طعمة فرمان: (النخلة والجيران/1966)، (خمسة أصوات/1967)، (المخاض /1974)، (القربان /1975).. وهذه الروايات شغلت الوسط الثقافي والفني حيث تحولت النخلة والجيران الى مسرحية مدوية من خلال عمالقة الفن المسرحي العراقي: خليل شوقي/ زينب/ ناهد الرماح/ عبد الجبار عباس/فاضل خليل ، في حين تحولت رواية خمسة أصوات الى فيلم عنوانه..(المنعطف).
-3-
يتوقف الباحث، عند جهود سواه المبذولة في تقيم ما أطلق عليه (القصيدة الجديدة) وستكون وقفته وجيزة، وحسب قوله..(اتجهت معظم الجهود الفنية،في ساحة الشعر العربي الى تقييم القصيدة الجديدة، والاهتمام بها)، ثم يسلط الباحث الضوء على القصور في هذا الصدد.. (دون سبر خلفياتها ومشاكلها التاريخية المعقدة، أو رصد التحولات التي طرأت على القصيدة التقليدية).
رؤية ونسيجا.. حتى وصلت إلى صورتها المعاصرة).. الباحث هنا لا يذكر عنوانات معينة ولا أسماء باحثين في هذا المضمار.. لكني كقارئ منتج.
سأتذكر تلك الدراسة الرصينة التي كانت رسالة ماجستير للشاعر والروائي والتشكيلي (يوسف الصائغ) والتي أشاد بها الناقد الدكتور علي جواد الطاهر.. ونلاحظ أيضا أن الباحث.. يكتفي بتوصيفها بـ (القصيدة الجديدة) وشخصيا أرى، ان هذا التوصيف يعني أن القصيدة جديدة من الناحية الزمنية، أي جديدة في بيان الولادة فقط.. وإشكالية ماسمي بالشعر الحر، هي ليست إشكالية عراقية، بل هي إشكالية عربية.
مرتبطة بالبنية الاجتماعية بتراتبها الثلاثي أعني راتوب الاقتصاد وراتوب السياسة وراتوب الفكر.. وحسب قول يوسف الخال.. (المذاهب الأدبية عندنا لم تنشأ تلبية لحاجة إنسانية في وضع اجتماعي معين /ص37/ خالدة سعيد).
لهذا الأمر لم يحدث قطع معرفي بين المراحل الأدبية.. لذا مع نهوض فرسان الشعر الحر في العراق.. بقي (الناس مشغولون بالجواهري المتألق في الأربعينيات والخمسينيات، يسد على تطلعات الجيل الجديد بقصيدته المصفاة المؤثرة آفاق الشعر ومنافذ الاهتمام بتجارب الشعراء الجدد وتطويع القصيدة لتقاليد جديدة تتناسب مع روح العصر وظروف الفترة المحتشدة بالإحداث والتطورات/ص549/علي عباس علوان)... وسبب هذا التداخل أو هذا الخليط الشعري في الحراك الثقافي، هو ذلك التناقض بين القوانين الموضوعية لحركة المجتمع العربي وبين القوانين الخاصة الدقيقة.
والخفية لحركة الفن عامة والشعر خاصة – حسب ما جاء في نهاية المقدمة.
ـــــــــــــــــــــ
مقداد مسعود
د. علي عباس علوان كان شيخا بقلب طفل
أول لقاء لي معه.. كان يتجول فوق ورقة بخفة فراشة كان يتجول.. يخاف أن يكسر غصنا.. أن توجع أنامله زهرة حية تحاول أن تفتح نافذة برعمها، لتبتهج بالشمس والنسيم، هل كان هذا الذي يسير فوق قماشة تلك الورقة ظلا، هواء أثيريا.. شعاعا أفلت من رداء غيمة..؟ في صالة "المنصور ميليا" كان هناك عند زاوية مضاءة، لم أكن قد رأيته منذ أن غادرت حقل ورقته لكن صورته لم تشحب أبداً في ذاكرتي، عندما اقتربت منه، ترك سيجارته مرخاة على كتف المنفضة، نهض فاتحا ذراعيه كذراعي أب التقى ابناً غائبا، العام 1978، الشتاء يلملم آخر حقائبه، مرة اخرى ألتقيه، لم يكن لقاء عابرا هذه المرة.. المكان "دار الجماهير للصحافة" القسم الثقافي لمجلة "الف باء" حيث انضممت إلى فريق العمل فيه، وكما قابلته في حقول أوراقه.
وزاوية "المنصور ميليا" المضاءة.. استقبلتني ذراعاه الأبويتان، كنا شبابا، وكان شيخا في إهاب طفل.. في ليل بغداد البهي.. كان يصحبنا رحلتنا.. كنا نقطع شارع الرشيد.. مرورا بساحة التحرير.. نتناول معا خمرتنا الصوفية.. نفترش أرض حدائق "أبو نواس".. برودة العشب الصيفي المبتل بالندى.. قمر ليل بغداد.. نسأمها الناعم.. ثرثرة أمواج دجلتها.. كل هؤلاء أصدقاء سهرتنا.
في بعض الأحايين.. نكون ثقلاء.. وبصبر الأب.. يربت على مشاكساتنا الثقيلة.. يشاركنا مرحنا.. لايريد أن يشعرنا أننا بعيدون عنه.. ومتى نبكي المجهول الذي ينتظرنا.. تمتد أصابعه المباركة لتقطف براعم دموعنا.
وتغيبني عنه "قلعة التسفيرات".. نزلت بضيافتها شهرا.. كنت متهما بنشر "ديانة المحبة".. عندما غادرتها امتد الشهر إلى سنوات من العزلة.
ظل يبحث عني.. ويقوده قلبه الأبوي إلي.. كان حضوره مطرا.. دموع فرحه بالعثور علي قنديلا.. ومرة أخرى تجمعنا "مجلة أسفار".. لتضيئنا ابتسامته التي لاتنطفئ.
وتطبق العتمة على آخر ضوء شاحب يدلنا على الطريق.. ويتفرق سرب طيور المحبة.. وفوق تلال وطرقات "عمان" العصية على الأرتقاء.. وبدلا أن نكون عكازه.. صار عكازنا.
أيها الشيخ الذي يحمل ابتسامة طفل.. أبانا الذي نحب.. من سيجفف دموعنا في منافينا القطبية.. بعد أن غادرتنا لتقيم في أبديتك الأنيقة؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عيسى حسن الياسري
أبا زيد وداعا
أبا زيد رحلت وكان في الليل متسع وفي العمر بقية رحلتَ بآلامك صامتا بعيدا عن وطنك الذي أحببته حد الثمالة حين امتزجت دموعك وآلامك معا, نعم ترجع بي الذاكرة أكثر من ثلاثين سنة حيث كنت تلميذا لك في نهاية السبعينيات في كلية التربية جامعة بغداد استمع إلى النقد الحديث وأنت تدرسه بطريقة النقّاد المحترفين في زمن كان لا يليق بك حيث كان البعثيون يحاصرونك فيما تكتب يريدون منك خلع مبادئك الجميلة ولبس خرافاتهم القذرة لكنّك كنت أبيا تراوح بين الجامعة وجريدة الجمهورية تلهم طلابك العلم ممزوجا بالوفاء تغضب بعد الأحيان لكنك تكتم ذلك الغضب وأنت محاط بحراس يحرسون تلك الفئة الصدامية الباغية وهكذا تتألم بصمت وبطء شديدين وكان منا من يحس بآلامك، نعم سيدي ظلمتَ كثيرا ولكنك كنتَ إنسانا قبل أن تكون مبدعا وناقدا من طراز رفيع، كنت تحس بآلام الفقراء المعذبين وتنشد لهم السعادة والفراش الوثير والسعادة في وطن حر، كنتَ جريئا في آرائك غير مبالِ الأمر الذي أزعجهم فخافوك وأبعدوك موظفا في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أربع سنوات أرادوا أن يُخضعوك لما يريدون وبعد أن يئسوا عدت إلى الجامعة من جديد حينها كنت أنا أنهيت دراستي الماجستير عام 1987 م ورأيتك من جديد وعانقتك وطال عناقي ممزوجا بدموع كنت لا أميز منها ما هو للفرح والحزن، وكم لرأيتك فرحا بي وأنت تراني أريد الالتحاق بطلبة الدكتوراه ثم حصل الفراق بيننا حيث رميت أنا في السجن ومن بين تلك القضبان اللعينة كنت أسأل عنك وكان الركبان ينقلون لي سؤالك عني وسلامك عليّ وفي نهاية التسعينيات كان لقائي بك جميلا حينما قابلتك من جديد تحت ضوء الشمس وكثرت لقاءاتنا فيما بعد كنت أسبوعيا آتي من النجف حيث كنت أعمل أستاذا في جامعة الكوفة لالتقيك تلميذا وفيا وصديقا مخلصا نشرب الشاي ونضحك كثيرا ثم نفترق وهكذا، ولم أنس يوم نصحت لي من بعض الناس وقلت لي يا علي أخاف عليك من فلان وفلان لأنهم بعثيون ليس لهم وفاء خذ حذرك فالدولة تراقبك وفعلاً حصل ما قلتَ حيث اعتقلوني وأودعوني الظلمات من جديد ثم حدث الفراق الأخير بيننا إذ سافرت أنا بعد عزلي من جامعة الكوفة متأبطا آلامي وجروحي رحلت من دون وداع لأي أحد خائفا أترقّب ولم أرك بعد ذلك سوى اقتناص الأخبار عنك وفرحت جدا حينما أعلموني أنك ترأست جامعة البصرة فرحت كثيرا وقلت مع نفسي الآن عاد الحقّ إلى نصابه، ومضت السنون بنا وأذا أردد مقولتك الخالدة على طلابي في الدراسات العليا في الجامعات الليبية عن الشاعر الكبير الجواهري رحمه الله (شاعر عباسي أخطأه الزمن)، نعم فوجئت وأنا أفتح الفيس بوك بعد انقطاع طويل بسبب مرضي وأجد مقالة الأخ الوفيّ جداً الشاعر المبدع هادي الحسيني وهو يكتب عن رحيلك لم أصدّق ثم قرأت تأبيناً لأخي وصديقي الأستاذ الدكتور عليّ جاسم سلمان من الجامعة المستنصرية، وهكذا رحلتَ أبا زيد بعد رحلة طويلة مع مناهج النقد القديمة والحديثة أفدتَ طلاب العلم في العراق والأردن واليمن رائدا من رواد النقد الأدبي وأستاذا جليلا ومربيا قديرا صادقا لا تعرف المداهنة وحنينا لا تعرف البغض.
رحلت بآلامك بعيدا عن نخيل البصرة الفيحاء وليالي دجلة الجميلة تصارع الألم وتجود بنفسك وحيدا لكنك لم تمت سيدي وهاهم أبناؤك يرثونك بدموعهم قبل كلماتهم وستبقى حيا في ذاكرة الزمن يترنم بذكرك الشرفاء كلّما تذاكروا النقد فيما بينهم, ومناضلا حافظ على مبادئه وكأني بك على قول أبي تمام:
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دما ضحكتْ عنه الأحاديث والذكر.
ــــــــــــــــــــــــ
أ. د. علي عذير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "طريق الشعب" ص 6 ـ 7
الاثنين 27/ 5/ 2013