
توطئة
سبعون عاما من الصحبة الدافئة مع المسرح، وسبعون عاما من عشقه، وسبعون سنة حب مع سحره، إنها السبعون إذن، وقفت أم لم تقف فأنت شامخ، بك ازدان المسرح العراقي ألقا، وبك شمخت خشبته التي لامست عنفوانك قبل سبعين عاما، وبك تكتظ الذاكرة العراقية عنوانا وقامة. في 24 شباط عام 1944 وقفت على المسرح ممثلا لأول مرة، ولادة روح وإبداع أعقبت ولادتك في الفلوجة، في 1 تموز 1927، تاريخ حافل بالعطاء، وسجل مذهب الصفحات أنت يا يوسف إسماعيل العاني، انطلقت سيرتك العطرة من كلية الحقوق إلى معهد الفنون الجميلة مرورا بتأسيس فرقة المسرح الفني الحديث، واقترن فنارك بالنخلة والجيران والخرابة والمفتاح وبغداد الازل بين الجد والهزل واني امك يا شاكر، والقائمة بلا نهايات، نقشت ألقك على شاشة السينما بسعيد أفندي و(أبو هيلة) والمنعطف والمسألة الكبرى واليوم السادس، وتألق قلمك في رأس الشليلة وبين المسرح والسينما وهوليوود بلا رتوش وشخوص في ذاكرتي، اليوم، صنع لك محبوك باقة حب، ليقدموها لك على هذه الصفحات في عيدك المسرحي السبعين.
يوسف، دمت لنا وهجا.
الصفحة الثقافية
عبود مازال يغـني..
في الشعرية البصرية لمعطى يوسف العاني
(1-3)
محمد الجزائري
فنحن بالليل في ضوء النهار بها
ونحن في الظهر في ليل من الشعر"
"ابن عربي"
كانت صرخة "زينب"، "آني أمك يا شاكر" قد ألهبت جمهور البصرة في قاعة نادي الطلبة عام 1958،اذ ذاك تألق يوسف العاني وزينب في هذا العمل الذي فاض بشعريته البصرية والسردية، حتى فجر وجدان المتلقي، وحفز وعيه، ومنح الفنانين مكانة مرموقة لدى الجماهير.
وان كان يوسف العاني قد وقف على المسرح ممثلا لأول مرة في 24 شباط العام 1944 في مسرحية بفصل واحد من تأليفه وإخراجه "ضمن نشاط جمعية العلوم في الثانوية المركزية ببغداد ويعتبر هذا اليوم يوم ميلاده الفني، فقد ولد يوسف اسماعيل العاني ببغداد في 1 تموز1927.
لم تكن تلك مسرحية "آني أمك يا شاكر" من الأعمال التي اعتاد يوسف العاني أن يمرر عبر حواراتها تلك "ألترميزات" السياسية والاجتماعية المشاكسة، أو الموحية، كما فعل في فيلم سعيد افندي حين يخاطب "سعيد" زوجته "الممثلة زينب" التي شكت من مضايقات الجيران "احسن شي هو المقاطعة، هذا احسن حل: ال ...مقاطعة".. وكان رنين تلك الكلمة آنذاك سياسيا، وقويا، بل كانت "آني أمك يا شاكر" تعبيرا صادحا جهيرا ومشعا ضد الظلم والإضطهاد، عبرت عن قيمة معيارية وفنية واجتماعية عالية لصبر الأم ونضالها، وقد تحملت الثقلين من أذى المعتقلات والتضحيات وغياب ابنها "شاكر".. فصارت مثال "أم" غوركي معلما ومعلما يستنير بها الماركسيون ويتعلمون درس الحياة النضالية ضمن برامجهم الأولى المقررة في التثقيف الذاتي، جوار روايات "الأرض البكر حرثناها" و"الفولاذ سقيناه".
كانت صرخة زينب التي هزت أركان القاعة ونفوس الجمهور الذي صفق لها طويلا ومسيل الدموع يجري من المآقي، وهجا بصريا تعبيريا شديد الإضاءة والتأثير، وكان ذلك بحق لقائي الأول على مستوى المعاينة المباشرة المتأملة لمسرح يوسف العاني، وأؤكد "مسرح يوسف العاني" لتوافر الشروط الموضوعية فيه اتجاها وحضورا وتواصلا مع الجماهير طيلة سنوات الجمر، وهو ليس نسخة مكررة من مسرح بريشت أو ستانسلافسكي أو نجيب الريحاني، وإن كان يسير بالخطى ذاتها والنهج نفسه، مضمونيا، وفي حالات عدة تقنيا أيضا، وبخاصة فيما يحرك نوازع الوعي ويثري فكرة التغيير بما يقدم من مقاربات فكرية واشارية تشتغل لصالح الإنسان وتفجر ثوريته الكامنة وتنمي بيادر الخير والتمرد الخلاق فيه، وتصفي وجدانه الأصيل..
وإذا كان الشعر العربي ينزع عادة نحو رشق الروح في بؤرة التوتر والتعارض بين الوضوح والغموض، ولما كانت الحقيقة إلماعية أمام العقل، لا تسلمه كامل رسالتها، ولا تحجب عنه، في الآن نفسه، مجمل فحواها، كان لابد للتعبير عن هذه الحقيقة من أن يتأرجح بين النوراني والطلساني كما عبر ابن عربي في هذا البيت:
" فنحن بالليل في ضوء النهار بها..... ونحن في الظهر في ليل من الشعر"
ففي ثقافتنا العربية التراثية والمعاصرة لم يستطع أي جنس أدبي أو فني، من أن يحل محل الشعر، في غمرة تلك الهزة العنيفة التي تؤدي إلى نشوة الوجدان والشعور المتعاظم باللذة الجمالية التي يحدثها الشعر في النفس والوعي، غالبا دونما وسيط حسي، كالأذن في الموسيقى والثقافة السمعية، والعين في الثقافة البصرية.. وكان أول المسرح شعرا يلقى بأداء وحركة أمام الجمهور، من صفوكليس حتى اسخيلوس، لكن "اذا كانت نهاية القرن التاسع عشر الأوربي مليئة بأعلام الشعر والرواية والأدب، فإن من الصحيح القول بأن الشعراء العظام في ذلك العهد كانوا هم المصورين الإنطباعيين" - يؤمن آرنولد هاوزر.
ومسرح يوسف العاني، ولد في خضم ذلك الصخب الثوري وحركة التجديد والإستنارة والتحديث، بعد الحرب العالمية الثانية، أتحدث هنا عن التشميل، وعن فضاء "الذاتية الكلية" له مبدعا في حاضنة النص والتمثيل، العرض والكتابة، الاقتباس والتعريق، فقد تشبع كلية بالشعرية البصرية، حتى تلبسها سلوكا، فقد كان يبتدع شخصياته ويقتدها، أو يمثلها على الخشبة، منسجمة مع انعكاس مشاهداته الإجتماعية وإحساسه بحياة الناس، أو هو يلتقط مقارباتها وشبيهها في الأدب العالمي.
وفي أحلك الظروف وأعتاها لم يـكبــل تماما وإن لم ينطلق تماما، فحين كان "رئيس عرفاء" في دورة ضباط الإحتياط بمعسكر السعدية، قدم "ثورة بيدبا" تحت ذلك الظرف وبإمكانات متواضعة تقارب درجة الصفر في الإنتاج، ساعده الدكتور فايق السامرائي والشاعر مظفر النواب والمهندس صباح الدرة، ورفاقه في ذلك المعسكر الذي اقتيد إليه الخريجون وأساتذة الجامعات المفصولون من الخدمة، وجلهم من اليسار الديمقراطي، كالدكتور فيصل السامر والدكتور ابراهيم كبه والدكتور طلعت الشيباني، الذين استوزروا في حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، كما تعين إثرها يوسف العاني أول مدير عام لمصلحة السينما والمسرح..
ولا غرابة فقد كان العاني مهووسا بالتمثيل، وخلق المناخ لنفسه مع رفقته، حتى داخل ذلك المعسكر الذي حد من حركتهم وأراد عزلهم عن أبناء شعبهم وحركتهم الوطنية، فلم يكتفوا بالمسرح بل أسسوا بنية ثقافية ساندة تتجلى بمكتبة عامرة بأفضل الكتب التقدمية "الممنوع تداولها".. وكذلك فعل حين قدم "مسمار جحا" و"ماكو شغل" في ممر قواويش معتفل أبي غريب.. ولذا مال في سنواته الأولى إلى الإكثار من كتابة تلك المسرحيات ذات الفصل الواحد، لأنها مواكبة للظروف وسهلة التحقق في أيما مسرح فقير.
ويوسف أنجز أكثر من خمسين نصابين طويل وقصير، ومن أبرز تلك التي هي في فصل واحد: "القمرجية"/ "مع الحشاشة"/ "طبيب يداوي الناس "1948- كتبها وهو لازال طالبا في كلية الحقوق- "محامي زهكان"1949/ "في مكتب محامي"/ "محامي نايلون"/ "جبر الخواطر"1950/ "راس الشليلة"1950 / "مجنون يتحدى القدر" وهي مونودراما1951/ "تؤمربيك" 1952/ "موخوش عيشة" 1957/ "لو بسراجين لو بظلمة" 1954/ "حرمل وحبة سودة"1954/ فلوس الدوة 1955/ "أكبادنا" 1955/ "على حساب من؟"- نشرت في مجلة السينما عام 1957، ثم قدمت في التلفزيون عام 1960/ "جحا والحمامة" بانتومايم، قدمت على مسرح ستانسلافسكي بموسكو في إطار فعاليات الوفد العراقي المشارك بمهرجان الشبيبة العالمي- موسكو 1957/ "تتراهن" 1959/ "عمر جديد" 1959/ "آني أمك يا شاكر، ماكو شغل، فلوس الدوة، صورة جديدة، ليطة، نجمة وزعفران، شلون ولويش والمن؟1972، بنات هلوكت، ست دراهم، الشريعة، الخرابة، الرهن، نفوس ،خيط البريسم، المفتاح / ...".
وقد أدى أدوارا في مسرحيات لم يكتبها بنفسه، ولم يخرجها أيضا، وكانت شخصياتها التي أدى مضيئة ولا تنسى، كأنما صارت، بل صارت بالفعل ، تلك الشعرية البصرية لازمة نسقية جمالية وسمة عامة لاختياراته، كما في "مسمار جحا" 1952 / "تموز يقرع الناقوس" لعادل كاظم 1968/ "النخلة والجيران" المقتبسة عن رواية غائب طعمة فرمان 1968/ (ولاية وبعير) 1971/ "البيك والسايق" 1974/ "بغداد الأزل بين الجد والهزل" لقاسم محمد 1975/ "القربان" 1980/ "الليلة البغدادية مع الملا عبود الكرخي" 1983/ الإنسان الطيب عن بريشت إخراج عوني كرومي 1958/ "حرم صاحب السعادة" ليرين سلاف نوشيش/ الباب القديم/ عمارة أبو سعيد..
ولم يكن ذلك مقتصرا على عرض الإفتتاح حسب، بل هو مثابرة حريصة منذ التمارين الأولى حتى العرض صفر - الفاحص - أو كما يصطلح عليه "الجنرال بروف"، وكلما تمعنت بإدائه أراه مستغرقا في محاولات حثيثة لتطويع جسده وحركة يديه وصوته وتعبيرات وجهه ليس لخدمة متطلبات الدور حسب، بل لخدمة كاريزماه، وشخصيته الأدائية، التي وسم نفسه بها.. وكانت تستهويه التجربة البريشتية أكثر من سواها، وقد أدى هناك في برلين "الإنسان الطيب" بما ميزه فنانا من شرق الحضارات، ولم يقلد الفنان الألماني الذي اشتهر بإداء هذا الدور على المسرح البرليني، كان مؤمنا بأن المسرح هو صنو التغيير، كما كان بريشت يسعى، وليس الإيهام والتغريب إلا لتأكيد أن هذا المسرح ليس بديلا عن الواقع الذي يتوجب تغييره، بل هو حافز لتغييره.
إن بريشت يخاطب العقل، ولا يفرض السياسة على المتلقي، حتى وهو يستخدم الشعار، بل يشغل مسرحه على ثيمة التغيير عبر الإقناع وليس القسر، فلقد قدم مرة، على المسرح بطبيعة الحال، بيان الحزب الشيوعي، ملحنا ومغنى، وتقبل الجمهور ذلك واستوعبه، لأنه تلقاه بشفافية، وبمثل هذ الحماس يدافع يوسف العاني عن برتولد بريشت، وحين قدمت الفرقة القومية للتمثيل مسرحية "البيك والسائق" المعرقة عن "بونتولا وتابعه ماتي" لبرتولد بريشت، بإخراج إبراهيم جلال في مهرجان دمشق الدولي للمسرح، وفي القاهرة على المسرح القومي، لاقت صدى كبيرا، وقد زاره في غرفة الماكياج، بدمشق، رئيس فرقة "بايمر" الألمانية "الديمقراطية" -آنذاك- وهنأه لأنه قدم بونتلا البريشتية بشخصية عراقية، وسأل يوسف: شعرت ببرشت وشعرت بك، فلم لم تقدمها كما أداها "أكهر شال"؟- وهو ممثل ألماني اشتهر بأداء دور بونتلا على مسرح برلين وبرع به، تضايق العاني ورد عليه بأنه قدم الريشتية بثوب عراقي وأنه الممثل المعروف يوسف العاني وله أسلوبه في التمثيل وشخصيته المميزة وكاريزماه..
وكانت خبرة ابراهيم جلال في استيعاب بريشت وتمكنه من تطبيق ذلك على أدوات للتعبير متفهمة ومقتدرة "الممثلون العراقيون ذو الخبرة: يوسف العاني، سامي عبد الحميد وقاسم محمد كانوا بارعين كفريق، كذلك الفنانة سعاد عبد الله التي كانت إبنة بونتلا، وقد أدت شخصيتها بأداء مميز وشفافية عالية، وبمهارة وبأسلوب بريشتي مضبوط كما أراد لها المخرج".
المسرح هو تنوير للشعب، لأنه يشتغل على الجماعة، ويوصل خطابه ورسالته في مواجهته المباشرة للجمهور، وهنا تكمن حيويته من بين الفنون الأخرى، وخطورته أيضا على وعي الآخر المتلقي.
هكذا يفهم العاني مهمة المسرح في الحياة، لذا احترف المسرح بدلا من المحاماة، فهو يؤمن بأن رسالته على خشبة المسرح لهي أسرع تبليغا وأوسع مدى من قاعة المحكمة، حتى لو كان يدافع عن العمال الذين انتهكت حقوقهم النقابية..
لقد انخرط يوسف العاني في مسرح بريشت بألمانيا لأغراض التطبيق والإفادة الجوهرية المباشرة، كما لو كان يشارك في ورشة ذات تتابعية للمدرسة البريشتية، كي يثري فيه قدرة الأداء عنده على أهمية الإنارة والإثارة والتأثير والتغيير، بطيف أكبر من حزمة ذلك النور الساطع في المسرح الملتزم بقضايا الإنسان.
وكانت السيدة الفنانة "لينا بايكل" زوجة برتولد بريشت هي التي تدير مسرحه بعد رحيله، وقد أفاد العاني فائدة كبيرة من وراء تلك الفترة التطبيقية، بخاصة وأنه ذهب إلى هناك محملا بخبرة مسرحية وحياتية ثرية، وهو يدرك بإن من خواص المسرح العراقي، وتميزه، ديناميته الاجتماعية، وكما يقول: "لقد قدمناه في السجون والمعتقلات كما قدمناه في البساتين خارج بغداد، إبان السفرات" - السياسية "السرية" التي كان ينظمها الحزب الشيوعي ومنظماته الديمقراطية - الإضافة مني- " وأن العراق ظل حاضنة ثرية لتنضيج المهارات، ليخرج المسرحيون العراقيون بتلك الثمار الناضجة فيقطفون جوائز المهرجانات.
يوسف العاني.. نغمة لامعة في تاريخ المسرح
د. ماهر الكتيباني
يمتد تاريخ المسرح العراقي بامتداد حياة الرواد الكبار من الرعيل الأول المؤسس للخارطة المسرحية، الذين كان لجهودهم الصادقة الدور الرئيس في إرساء دعائم رصينة لمعمار المسرح بشكله المعاصر، ليس في العراق فحسب، بل والعالم العربي، ويشكل الفنان المسرحي "يوسف العاني" حلقة هامة في سلسلة الأسماء التي تزين القائمة الذهبية لأوائل العاملين في ترسيخ ثقافة المسرح، بوصفه سلوكا ثقافيا يحمل قدرا من الثورية، والوطنية، بل وعبره يمكن أن توجه سهام النقد لتقويض أي وضع خاطئ يجثم على صدر الوطن في مراحل عدة مرت على العراق.
ومنذ ارتقائه خشبة المسرح عام 1944، وحتى ذلك اليوم الذي كرم فيه مع نخبة من الرواد في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي أقامته دائرة السينما والمسرح، عام 2013، حين تناسى العاني وهو مبتهج كل أوجاع المرض الذي أبعده عن معشوقته خشبة المسرح، وراح يحلق راقصا في أرجائها مشفوعا بتصفيق حار من الجمهور، بين التاريخين عقود من المنجزات التي تراوحت، وتحركت، في فضاء المسرح تأليفا، وتمثيلا، ونقدا مسرحيا، وسينمائيا فضلا عن تجسيده العديد من الشخصيات في الدراما التلفزيونية، ومشاركته في بطولة عدد من الأفلام السينمائية، ولعل أشهرها تجسيده لشخصية "سعيد افندي" في الفيلم الذي حمل الاسم نفسه في خمسينيات القرن الماضي، ناهيك عن اسهامته الرئيسة في تأسيس فرقة المسرح الفني الحديث مع مجموعة من عمالقة الإبداع المسرحي، هذه الفرقة كانت اثراءة نوعية في نضج الحياة المسرحية في العراق.
وقد تسنم العاني وظائف عدة، أسهم عبرها وبما يمتلكه من حنكة وذكاء في الارتقاء بواقع الفن المسرحي بخاصة بعد ان شارك في تأسيس مصلحة السينما والمسرح، وتولى إدارتها ليكون عنصرا في وضع الخطوط الحديثة لخارطة الثقافة والفن العراقي المعاصر، ولدوره ذلك وتاريخه الذي تلمع فيه سطور نتاجاته، اختير العاني مرات عدة ضمن لجان التحكيم في مهرجانات مسرحية وسينمائية، في العراق وخارجه، فضلا عن متابعته ومشاركته في التعقيب على العروض التي تشارك في المهرجانات، وبخاصة مهرجان منتدى المسرح العراقي في تسعينيات القرن الماضي، وغيرها من العروض في مهرجانات أخرى، وبخاصة عروض الشباب، فهو لا يترك عرضا من غير أن يعلق عليه، ويبدي ملاحظاته للمشاركين باختلاف تخصصاتهم.
شكل العاني علامة فارقة في أسلوبه الأدائي، الذي يعد نغمة خاصة به لا يجاريه فيها أحد، إذ يعتمد على تفعيل الإيماءة الشعبية "الجست" عبر ما ينتجه من علامات أدائية، فضلا عن امتلاكه الاسترخاء العالي، وتحكمه بماكنة متحركة من المشاعر التي تتدفق في إنتاج الشخصية، وانفعالاتها، واللوازم الخاصة والمميزة لها، باختلاف مزاجاتها، وتكوينها النفسي، وطبيعة العلاقات الرابطة بينها وبين الشخصيات الأخرى، التي تشكل شبكة العلاقات التي تحقق وحدة الموضوع، ولعل تلك الجماليات التي يرسخها في ذاكرة التلقي، تنبع من وعيه المتقدم، والمتمرد على الساكن في المشهد الثقافي، مما تسبب له بمضايقات عديدة، ولعل منعه من إكمال دراسته في معهد الفنون الجميلة بعد أن أمضى سنوات أربع فيه، ليس إلا دليلا على وعيه المتمرد الذي يمتزج مع حبه المترسخ في ذاته لقضايا وطنه، والدفاع عن الحاجات التي تفرضها معطيات الحياة آنذاك، يعبر عن تلك بتناوله للموضوعة التي يصنع عبرها حلقات نصوصه من نسيج الواقع، كما في مسرحية "انا امك يا شاكر" و"فلوس الدوة"، او من مكتنزات التراث، كما في مسرحية "المفتاح"، والتي تعتمد قصتها على أغنية فلكلورية، يسبك عبرها موضوعته التي ينهيها بولادة، يفتح عبر دلالتها ولوج عالم جديد على أنقاض عالم قديم غير مجد، وبرؤية استباقية، لما ستؤول اليه الوقائع مستقبلا، ذلك له ارتباط آخر بطبيعة ميوله الدراسية، بوصفه دارسا للحقوق، وما انتماؤه للشعب وقضاياه سوى تمثله للمدافع عنه، يتجلي ذلك عبر ما يجسده من شخصيات، أو ما يكتبه من مسرحيات، أن يوسف العاني فنار يدل المتعطشين للفن المسرحي الراقي، المنزه عن الأغراض النفعية، الممتزج بصدق النوايا، الذي يعكس طبيعة الجيل الذي ينتمي إليه.
بعد 70 عاما.. العاني شعلة لا تنطفئ
د. طاهر علوان
ليس الحديث عن يوسف العاني معزولا عن تحولات وأزمنة.. سيرته تنعكس عليها دون شك سيرة وطن وحياة شعب.. فقد واكب طيلة رحلته الطويلة العديد من المتغيرات التي شهدتها الحياة العراقية وكانت سيرته انعكاسا مشهودا لوعي خلاق استطاع ان يرسخ وجوده عاما بعد عام وجيلا بعد جيل، وإذا كانت التحولات السياسية والاجتماعية في حياة أي شعب هي من بديهيات سيرورة الحياة إلا أنها في الواقع العراقي تكتسب شكل تحولات حادة وشديدة الوقع على وعي الفرد والجماعة في صورة الانقلابات والصراعات السياسية وانتهاء بالحروب.. هذه الانعطافات الشديدة لم تثن يوسف العاني ولم تلو وعيه بل دفعته قدما للتكيف مع الواقع المعاش وليثبت أن "فنان الشعب" مرتبط برحم الشعب لا بتحولاته، مرتبط بذاكرة جمعية وارث فكري ومنظومة فلسفية مهما كثرت الهزات فأنها خميرة باقية في الضمير، يوسف العاني وطيلة 70 عاما نقل المسرح الى الحياة العراقية ونقل الحياة العراقية الى المسرح وتنقل مثل لاعب ماهر ومثقف واع ومفكر محنك، تنقل بين اتجاهات المسرح وتجاربه ودار دورة كاملة على الموروث الشعبي العراقي كما واكب ثمار المسرح العالمي لاسيما التجارب الواقعية والواقعية الاشتراكية.
70عاما، بل سبعون كوكبا.. تاريخ لا ولن يمحى ولا ولن ينسى، أفنى زهرة شبابه وهو واقف بثبات حاملا شعلة إبداع لا يمكن أن تنطفئ، من حق الأمم أن تفخر برجالاتها ومبدعيها وواجب على الجميع افرادا ومؤسسات ان يكرسوا ليوسف العاني المكانة التي يستحقها وان يستذكروه في كل آن وحين، وأن نسمي جوائز باسمه ومهرجانا باسمه ومؤسسة فنية باسمه وشارعا باسمه ومتحفا له ليس كثير على قامة يوسف العاني الشامخة.
المسرح اليوسفي سبعون عاما من الحياة
حميد حسن جعفر
ليس غريبا على ثقافة اليسار عامة، وثقافية طريق الشعب خاصة، الاحتفاء بقامة مديدة مثل ـ يوسف العاني/ الرجل ـ الفنان، والسياسي المناضل، هذا المثقف والكادر المسرحي الذي ينتمي إلى الإنسان الفاعل، الذي استبدل بيته بخشبة المسرح وأفراد عائلته بأفراد الفرق المسرحية، والذي تنفس رحيق مقاومة الاستبداد، من خلال التأليف والتمثيل على المسرح، وامام عدسات السينما والتلفزيون.
لقد استطاع الفنان المبدع ـ يوسف العاني ـ ان يحرض أكثر من جيل مسرحي على الانتماء الى مسرح الشعب/ الجماهير، مسرح كشف وتعرية ظلم السلطة للإنسان، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
لقد كان مسرح ـ يوسف العاني ـ ان كان للمتابع الحق في إطلاق هكذا اصطلاح ـ ان يكون أكثر من مدرسة، بل أن رجلا مثل ـ يوسف العاني ـ والذي ينتمي إلى مدرسة الحياة نفسها ـ لا يمكننا نحن المهتمين بالشأن الثقافي ـ ان نتحدث عن المسرح باعتباره ـ ابو الفنون ـ من غير أن تتفتح أمامنا بوابة واسعة على شكل حياة ضاجة بالعمل، حياة تنتمي لعراقي اليد والقلب واللسان مثل ـ يوسف العاني.
قد يتساءل القارئ او المسرحي او القريب من خشبة المسرح، عندما يواجه سؤالا عن المسرح العراقي ـ قائلا، وهل من الممكن الحديث عن المسرح /الحياة، أو عن ثلاثة أرباع من القرن، او دون ذلك بقليل من الكفاح والعطاء في سبيل ارساء قواعد متينة لمسرح عراقي جاد، بعيدا عن التسميات الأخرى.
لقد كان المسرح العراقي ومازال منتجا للعشرات من الأسماء المبدعة على مستوى التأليف والإخراج والتمثيل.
كان الفعل اليوسفي العاني منتميا لثقافة المسرح وحضارته بمعناها الانساني منتميا الى الإنسان الباحث عن نهاية النفق، منتميا الى الكتابة الباحثة عن المستقبل من غير الاستهانة بالماضي/ التراث، او باللحظة الآنية/ الحاضر.
كان يوسف العاني ـ ممثلا وسيظل كذلك ـ اكثر من منتج للازاحة، او لمحاولة تهشيم الثوابت من اجل رؤية مايتحرك خلف الجدار.
تحية للسنوات السبعين من حياة لم يقر لها قرار، ومن روح هائمة في فضاء المسرح، وتحية لكل رواد المسرح العراقي.
عبود وموليير.. الراين ودجلة
د.عباس العلي
الفن رفيق الوجود الإنساني منذ أن وطأت قدماه الأرض، جعل أول فنونه تشكيل الطين، صار البعض من لبناته الأولى أربابا، زوق هذه الأرباب وحاول أن يجعلها بأجمل الصور، ثم رتب مراتب لها حسب جمالها، لكنه أفرد للأنثى من هذه الأرباب صورة خاصة ومنزلة فريدة، لأنه يرى في ألهته هذه جمالا يعانقه كل ليلة أو حلما بأن يقانع كل الجمال المكنون في صورة الرب، كل هذا من الطين، رقص لها، عزف لها بالقصب الأول ثم طور آلاته، أنشد لها كل أغاني الحب مصرا على أن الجمال أنثى، لأن الجمال هو الحياة والأنثى سر الحياة، لذا عشق كل ما يذكره بها، بنى أول مسرح في بيت الآلهة لينشد لها ويترنم بأحلى كلمات الحب والغزل ما لبث أن خرج بمسرحه في الهواء الطلق ليحكي للناس قصة عشقه للآلهة الأم الآلهة التي ذاب في حبها فعبدها حتى القداسة.
عندما وجد الفنان الأول أن الناس قد تفشى فيها الولع بحب الآلهة وأن مجرد الظهور على المسرح يعطي الأمل بالسلام والمحبة والحرية، أبتكر نمطا أخر من الفنون أقرب لطبع الإنسان الفضولي بمعرفة الأسرار وتقصي الأخبار وتمثيل معطيات الذات من قبل الأخر أمامه صار محبا للمسرح وعاشقا للفن، فولدت قصة الفن المسرحي خليطا بين الغناء الديني ثم الوجداني مع الرقص مع الحكاية مع الشعر مع كل مفردات البوح الإنساني، عظم المسرح في واقع الإنسان وأصبح الفنان رسول الآلهة ونبي الجمال ليومنا هذا.
كما في باريس الحاضر الذي مضى عن قريب بعد روما وأثينا وبابل والإسكندرية وتدمر كان كبار أنبياء الفن وفناني الشعب مولير، كان هنا على موعد مع دجلة وطينها والفرات وبغداد وألف ليلة وحاناتها الفقيرة ودروبها الضيقة "عبود العربنجي" فنان الشعب الذي جعل من مفردات الفن الشعبي بآلامه وأماله ومعانات الإنسان العراقي المستلب الكادح الباحث عن ذاته بتغييب وعيه عن إدراك حجم إشكالية وجوده مع التمايز الطبقي والقهر الاجتماعي مفردة يخشى طغاة الحكم وجلاوزة السلطة أن تتبلور وعيا جماهيريا يطيح بأسس الثقافة البرجوازية القائمة على التنكيل بالإنسان البسيط عبود العربنجي بثورته المعهودة على (أبو جورج) الذي يمثل المستغل لكل أماله وطموحاته.
يوسف العاني الذي انحنت له قامات السياسيين ليس إذلالا بل تقديرا وتعظيما لا لأنه يستحق الاحترام فقط ولكن لأنه يمثل جوهر الإنسان العراقي الذي لا تتوقع ثورته ولا ما يحمل من قهر طبقي واستلاب روحي متفجر قد لا يمكن أن يبوح أو يظهر كل هذا إلا عندما بفقد وعيه المصطنع من خلال خمرة الهروب من واقع مر إلى واقع أمر وقد لا يخسر فيه أكثر مما خسر في طول وعرض حياته لكن يوسف العاني وهو في نزاعه من أجل الحياة الخالدة الإنسانية بالعنوان رفض أن ينحني له تلامذته ومحبوه وعشاق الفن وطلابه برغم أننا جميعا نستحق أن نبقى في انحناءة تكريم له فهو معلم الحب والسلام والحرية ونبي جمال هذا الزمن.
العاني يوسف قد أسدلت عليه التسمية من القديس يوسف هذه الروح المحبة للإنسان الساعية بلا هوادة من أجل الآخرين لا لشيء يبتغيه فمهما ملك ومهما صار في السلطة أو انحازت له السلطة لا يرى في نفسه إلا ذاك المصلح البسيط في تعبيره في روحه المتواضعة برغم أنه عاني وعانى وعاش المعاناة فصار خبيرا بها ناقلا لنا بالفن والإحساس المرهف مستخدما كل فنون المسرح والسينما وعموم الدراما والكوميديا كيف تتحطم النفس الإنسانية عندما تواجه المعاناة وتخذلها الظروف كما أباح لنا في صور كثيرة أخرى كيف للمعاناة أن تنتصر عندما يجعل منها الإنسان صوتا للحياة وسوطا على الظالمين.
في هذه الذكرى قد لا أتمكن أنا ولا غيري أن نستقيم مع كلماتنا للتعبير عن روح المحبة لهذه القامة العراقية التي ولدت في شواطئ دجله وسكنها عفريت الحب لبغداد السلام بغداد ألف ليلة وليلة بغداد الكرخ التي نامت على نواعيرها وكراداتها لتستفيق على صوت صديقة الملاية وزكية جورج ومحمد القبانجي وعمالقة الفن ليعبر إلى رشيد العاصمة وسوق السراي وأكاديمية الفنون ومسارح بغداد، معلما وتلميذا وواعظا وصديقا في محراب الفن المنحاز لقضية الإنسان، قضية الشعب الذي لم يمنح حقه كما ينبغي في الحياة وهو الذي قاد مسيرة البشر، يوسف العاني في وجه من وجوه فنه وحياته الواقعية يمثل كلكامش كما يمثل (أبو ذر) في غربته وصوت الحسين في كربلاء من دون العبور لانتمائه إلا الالتصاق بدجله وطينها ونوارسها التي غنت:" يا صياد السمج صدلي بنيه".
يوسف العاني ذاكرة وتاريخ
د. كريم شغيدل
لم أتمالك نفسي لحظة رأيته واقفا ويصفق بحرارة بعد انتهاء عرض مسرحية أحلام كارتون، فنزلت مسرعا من المسرح تاركا من صعد لتهنئتنا لأحتضنه، هذا العملاق الذي أرغم نفسه على مغادرة سرير المرض ليرى عرضا مسرحيا، قرأت في عينيه فرحا وإعجابا بما قدمنا، أحسست بأن طفلا بريئا يعبر عن دهشته يكمن داخل هذا العملاق، الإحساس نفسه راودني حين ألقى بعصاه واعتلى خشبة المسرح الوطني راكضا راقصا، عند تكريمه في مهرجان بغداد الدولي للمسرح وقد سقط على إثرها ليرقد بعدها في مستشفى الراهبات، هذا الطفل الشيخ، ما تزال روحه تنبض فنا وحياة، لم يكن رائدا مسرحيا، كاتبا وممثلا، فحسب إنما هو تاريخ وذاكرة ومثابات تأسيس، فقد عرف منذ أكثر من سبعين عاما، بوصفه شاهدا لحقبة زمنية تمتد من العهد الملكي إلى العهد الديمقراطي، تخللتها أنظمة سياسية عديدة، هذا المعلم اليساري المولود في العام 1927، الذي أسس مع رفيق دربه الفنان الراحل إبراهيم جلال فرقة مسرح الفن الحديث في العام 1952، شكلت نصوصه، بمجرد المرور على عناوينها، ذاكرة حية للألم العراقي: الشريعة والخرابة والرهن والمفتاح وآني أمك يا شاكر والقمرجية ونفوس وخيط البريسم وطبيب يداوي الناس ومحامي نايلون وفي مكتب المحامي ومحامي زهكان وجبر الخواطر وراس الشليلة وتؤمر بيك وموخوش ولو بسراجين لو بظلمة وحرمل وحبة سودة وفلوس الدوه... وغيرها من المسرحيات الشعبية التي كانت طليعة المسرح العراقي وتعد مسرحيته مجنون يتحدى القدر أول مونودراما في المسرح العراقي، وقد قدم له مسرح ستانسلافسكي في موسكو مسرحية جحا والحمامة في مهرجان الشبيبة العام 1957، عرف ممثلا بارعا في العديد من المسرحيات منها: مسمار جحا، تموز يقرع الأجراس، النخلة والجيران، القربان، البيك والسايق، بغداد الأزل بين الجد والهزل، مجالس التراث وغيرها، وفي السينما له وثبات: سعيد أفندي، أبو هيلة، وداعا لبنان، المسألة الكبرى، المنعطف، ومع الراحل يوسف شاهين اليوم السادس، وفي التلفزيون له بصمته: عبود يغني، عبود لا يغني، رائحة القهوة، بلابل، بطاقة يانصيب، المدن الثلاث وغيرها الكثير.
كان وما يزال حاضرا في المحافل الفنية العربية والدولية، واحدا من رواد الفن العرب، شارك وترأس لجان التحكيم في العديد من المهرجانات المسرحية والتلفزيونية العربية ومثل العراق في العديد من المؤتمرات، مارس الكتابة الصحفية النقد والمذكرات منذ خمسينيات القرن المنصرم، وقد شكلت شخصيته التي طغت عليها المسحة البغدادية المرحة، وهو القادم من قرى الحدود الغربية، علامة مميزة في مسيرة الفن العراقي، فلشخصية العاني نكهة شعبية ساخرة انعكست على فنه طيلة مسيرته، سواء في النصوص التي كتبها، أم بالشخصيات التي لعبها على خشبة المسرح أو في السينما والتلفزيون، ومن خلال ذلك بلور العاني نزعته النقدية اللاذعة للظواهر الاجتماعية السلبية وللسياسات القمعية والصراعات، كما أن يساريته وضعته في صلب ما يسمى بالمدرسة الواقعية الاشتراكية التي تعالج هموم الإنسان المغلوب على أمره، لا سيما هموم الفقراء والمضطهدين والمعوزين والهموم اليومية للمواطن البسيط، فما قدمه العاني للمسرح والسينما والتلفزيون، كان امتدادا لوعيه الأيديولوجي ونزعته اليسارية ورسالته الأخلاقية في الحياة وليس مجرد موهبة أو صنعة فنية، فتحية إجلال وإكبار لواحد من أعمدة المسرح العربي ورواده، ما يزال يحيا بيننا بمثابة ذاكرة ثرة وتاريخ مؤسس للفن والحياة على مدى أكثر من سبعين عاما.
يوسف العاني.. قامة فنية
فاضل عباس
بلا شك أن الرائد الكبير الأستاذ يوسف العاني، قامة فنية مسرحية مهمة و هائلة الحضور والتأثير، ذلك يتأتي من كونه ذاكرة زاخرة بتاريخ حافل للحراك المسرحي العراقي منذُ بدايات تلك الفرقة التي قلبت موازين التلقي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فرقة المسرح الفني الحديث، بكامل بهائها و ألقها.. ولأنه واحد من فرسانها، فله نصيب مهم من إشتغالاتها المتنوعة حينها، والقافزة على السائد من المسرح وقتها...مع نشاطاته المجاورة في الدراما التلفزيونية.. والسينمائية..و الإذاعية... وترأسه المركز العراقي للمسرح، مما ساهم كثيرا بالتعريف بهوية المسرح العراقي في محافل عربية ودولية عديدة.. وهو حتى اللحظة يمثل هذه القيمة العميقة الراسخة في الوجدان .... هو رمز وطني يجب أن يحتفى به كما يليق ...وكما يجب ...وهذا ما تم فعلا من ثقافية طريق الشعب.
يوسف العاني توأم المسرح العراقي
مثنى كاظم صادق
ضمن سيرورته التاريخية أصبح دليلا للمسرح العراقي، كيف لا؟، إذا كان يوم 24 / 2 / 1944 يوم ميلاده الفني في مسرحيته" القمرجية" وهو في السابعة عشرة من عمره، كان لامعا منذ ميلاده الفني، تأليفا وتمثيلا وإخراجا، حيث لا مسرح في العراق آنئذ سوى المسرح المدرسي !، ولعل العاني حينها قد أستفاد من السينما من ناحية السيناريو وحركات الممثلين فيها في بداياته، لأنه لم يكن قد درس الفن المسرحي بعد، ومن هذا اليوم بدأت مثاقفته مع المصادر التي تتحدث عن هذا الفن الرفيع، فضلا عن التقاطاته العميقة واستيعاب ما هو محلي، مما أضفت ـ المثاقفة ـ على المسرح العراقي طور التفاعل مع المجتمع، ولاسيما أن العاني غالبا ما يمم وجهه نحو الهم الاجتماعي العراقي، فجعله ذلك يوظف الأغنية الفلكلورية والشعبية والجملة المتداولة في نصه المسرحي "مسرحية راس الشليلة " مثالا، إذ تبرز علاقته المتوازية بين التأليف والتمثيل والإخراج، حتى أصبح مبدعا فيها.
في أعمال العاني ينصهر الفكري والشعبي في آن واحد، بغية علاج أوضاع اجتماعية تسود المجتمع، ومن خلال تجربته المسرحية الرائدة نطلع على ذاته الإبداعية الثرة التي تركت أثرا داخل دائرة المقاربة بين صناعة النص وتجسيده على المسرح ضمن إمبراطوريته الفنية التي تمتد نحو سبعين عاما من العطاء ... أقول إمبراطورية ولا تأخذني الغلواء هنا، لأن العاني لم يمتد إبداعه إلى المسرح فحسب، وإنما قد امتد إلى التلفاز والسينما وأبدع فيهما أيضا أيما إبداع، لكن الترابط بينه وبين المسرح ظل متواشجا، فللمسرح مقام أول عنده لا ينازعه مقام، وفي مقام المسرح الطويل تمتد قامة العاني متوازية معه، فهو صنوه حتى أصبح العاني ثبتا مرجعيا، صار بمقتضاه أحد أساطين المسرح العراقي، فلا نكاد اليوم نقلب مصدرا يتحدث عن المسرح العراقي، حتى يبرز اسم العاني فيه، فقد زود المسرح العراقي من جواهر تأليفه وألق تمثيله ووهج إخراجه حتى صار نسيجا وحده، يسعى المسرح بين يديه.
يرتبط النص المسرحي عند العاني بالرؤية والمنهج من خلال الاجتذاب المحلي لنصوصه، ولاسيما أن المسارات اليسارية كانت مؤثرة على إبداعه، إذ إنه قد زار الاتحاد السوفيتي وألمانيا بعد خروجه من معتقل "معسكر سعدية الشط " مما جعله يطلع على مسرح "بريخت"، فضلا عن تأثره بالرحابنة عند زيارته لبنان بعد اعتقاله الثاني مطلع الستينيات، فيما يخص توظيفهم للأغاني الفلوكلورية الشعبية فأفاد من الشعبي في سياق نصوصه على صعيد معالجة سلبيات المجتمع كما في مسرحيته "المفتاح"، كما كانت لقضية فقدانه الأم مبكرا أثر فيما بعد على أعماله فقد قال ذات لقاء ما نصه: " إنني لم أظهر يوما في مسرحية من مسرحياتي أما سيئة أبدا ... وإذا حدث وإن جاءت الأم سيئة، لا أظهرها على خشبة المسرح، إنما يأتي ذكرها عرضا".
العاني صاحب أسلوب وطريقة في جلب المتلقي لأعماله حتى لو كان العمل أجنبيا، فهو يستطيع أن يطوعه بما يناسب المتلقي العراقي أو العربي، كما أن المصادر تشير أن الفنان يوسف العاني هو أول من كتب المونودراما "مسرحية ذات ممثل واحد"، ذلك في عام 1949 في مسرحيته "مجنون يتحدى القدر"، ولم يعلم وقتها أن ثمة فن مسرحي بهذا الشكل وله تسمية خاصة به!، وهي علامة فارقة من علامات موهبته المبدعة، وضمن عملية استغوار الهم العراقي من سياق النص والشخصيات كتب مسرحية "الجومة" التي منعت من العرض بعدما وصلت إلي مرحلتها النهائية، لأن الرقابة قد تأولت بين شخصيتها "الوالي الإمبراطوري الملكي" وبين شخصية الحاكم وقتذاك إبان تولي "طارق عزيز" وزارة الثقافة
العاني لم يكن يكتب للنخبة السياسية، بل كان مسرحه للجماهير، كما نلحظ أن الشخصيات في مسرحياته تنهض بالاتجاه إلى الداخل فتنبش أعماقها لتجعل المتلقي يرى أزماتها ويتفاعل معها، لأنه قد يرى ذاته في إحداها، وهنا مكمن الإبداع الذي يستحق إن ينهض نحو العالمية، فطوبى للفنان يوسف العاني.
يوسف العاني.. تاريخ الابتكارات الحية
مازن المعموري
ليس غريبا أن نرى عصر العظام قد أفل مع رحيل الكثير من عمالقة الإبداع والأدب العراقي، وها نحن اليوم نرى أحد عمالقة المسرح يعيش لحظات مريرة مع المرض، وفي ظل ظروف استثنائية يمر بها البلد لا نستطيع فعل شيء سوى أن نمارس دور المتفرج السلبي للأسف الشديد.
يوسف العاني يقدم لنا نموذج الفنان المؤسس الذي تقع على عاتقه تقاليد عصر النهضة العربية، حيث نراه يكتب ويمثل ويخرج ويدرس في الأكاديمية ويعالج تفاصيل ليست من اختصاصه من أجل إنتاج عمل فني متوازن وجيد، ولا بأس في أن نراه يقدم قراءات نقدية محترمة بعين فنان محترف وناقد مثقف لأعمال عراقية وعالمية..
هذه الماكنة المشحونة بالعطاء وحب الفن والتواصل مع الآخرين بكل المستويات صنعت لمجتمع بغداد بشكل خاص تقاليد العائلات البغدادية العريقة التي تتابع الفن المسرحي والسينمائي، رغم وجود واقع مترجرج وقلق طيلة ما بعد خمسينيات القرن المنصرم وحتى الآن، إلا أن الحقيقة التي نفخر بها هو أن هؤلاء الرواد العظام أسسوا وعيا ثقافيا وجماليا متينا في مجتمع بغداد البسيط والعراق بشكل عام، حيث كانت العائلات والشباب تسافر جماعات إلى بغداد لحضور عرض مسرحي أو سينمائي، وهذا الواقع الحضاري قدم نهضة فكرية وثقافية شملت كل مرافق الحياة بسبب الفن المسرحي وجهود الفنان الكبير يوسف المعلم والفنان والأب الذي احتضن الكثير من المواهب والطاقات الإبداعية التي ظهرت فيما بعد كنجوم في سماء الفن العراقي والعربي على حد سواء.
لقد كانت لجهود يوسف العاني الحثيثة لنشر الوعي المسرحي والقيام بتأسيس فرقة الفن الحديث مع المخرج إبراهيم جلال عام 1952 أثرها في تغيير وجهات نظر المجتمع الفني أولا بأهمية المسرح، فقد كان المسرح بديلا للحياة، أو انه الجانب الحقيقي للواقع الوهمي المعاش بكل تفاصيله التحتية مثل "القمرجية" و"مع الحشاشة"، والقائمة تطول، فالمسرح بالنسبة إلى يوسف بقي ممتدا مع خط البقاء على قيد الحياة، مرة من أجل الآخرين، ومرة من أجل أن يرى الأشياء بطريقة مختلفة تعاود اكتشاف الغائب عن الرؤية، هذا التاريخ الحافل بالانجازات الذي بدأ من ثلاثينات القرن الماضي، مع بساطة آليات العمل المسرحي ومن ثم التلفزيوني فيما بعد وحتى السينمائي قد رفد الحياة العراقية مسافة مسجلة من التاريخ المشرف رغم تحولاته المريرة والدموية، لكننا مع يوسف العاني نكون قد أدركنا أهمية الحياة وجمالها على خشبة المسرح، حيث نعيش أعلى خيالاتنا الإنسانية وقدراتنا على الابتكار لروح العصر وتجلياته في الفن.
يوسف العاني.. ذكريات عن المسرح والسينما
داود سلمان الشويلي
تعود معرفتي بفنان الشعب ورائد المسرح العراقي، الفنان يوسف العاني إلى النصف الأول من ستينات القرن الماضي، حيث شاركت بعمل مسرحي من تأليفه، اسمه "فلوس الدوة" على قاعة مسرح المدرسة الشرقية الابتدائية النموذجية، عندما كنت طالبا في الصف الخامس الابتدائي في ذات المدرسة، ولم أكن أعرف ما هو المسرح وقتذاك، إلا أن المخرج وهو معلم في المدرسة اختارني بعد أن فشل طالب آخر بأداء الدور... مثلت في هذا العمل شخصية صامتة، يقتل باطلاقة مسدس في منتصف المسرح.
الفنان يوسف العاني طاقة لا تنضب في المسرح، فهو مؤلف مسرحي يشار له بالبنان، وله أفكاره ورؤاه، وأسلوبه الخاص الذي يطرح من خلاله مواضيع تنبع من الشعب وتعود إلى الشعب، فهو يتابع همومهم ومشاكلهم وقضاياهم، يعرضها أمام الجمهور من خلال مسرحياته، ويقول كلمته فيها، انه ينطلق من الشعب ليعود إليه، فيخرج المتلقي من مسرحه وقد عبأ جيدا بما كان عليه ان يفهم من أحواله ووضعه الاجتماعي.
أهم ما كتب الفنان يوسف العاني، من مسرحيات هي: ست دراهم، فلوس الدوة، رأس الشليلة، الشريعة والخرابة، اني امك يا شاكر، الخرابة والرهن، نفوس، خيط البريسم، المفتاح، وغيرها.
وقد اختار العاني المدرسة الواقعية الانتقادية عند كتابة وتمثيل مسرحياته الشعبية ذات المضمون الاجتماعي، ثم كتب في الحداثة، فكان العاني اول المحدثين في المسرح العراقي، فكتب في المدرسة التجريبية، حيث كانت مسرحية "الخرابة" التي انطلقت فيه مسرحيته تلك من المحلية الى عالمية بريخت.
والفنان يوسف العاني يعد واحدا من رواد المسرح في العراق، واحد أعمدته الكبار، وله دور فاعل ومثمر كبير من خلال ما قدمه من عشرات الأعمال المسرحية والتلفزيزنية والسينمائية، منذ عام 1948، كتابة، وتمثيلا، ودراسة، إذ مارس كتابة النقد الفني في صحف عدة ونشر مجموعة من الدراسات ما بين المسرح والسينما منها: هوليود بلا رتوش، التجربة المسرحية معايشة وحكايات طباعة بيروت، المسرح بين الحديث والحدث، شخوص في ذاكرتي.
اذكر أنني في عام 1968 شاهدت عملين مسرحيين مثل فيهما العاني وهما: "تموز يقرع الناقوس" و"النخلة والجيران" في بغداد، وكانا عملين رائعين ومبهرين، إذ لأول مرة أشاهد فيها عملا مسرحيا لممثلين كبار وفي بغداد.
واذكر أنني شاهدت ليوسف العاني في مدينتي في تلك الفترة فيلم "سعيد افندي"، بعد ان شاهدت أكثر من فيلم عراقي، إلا أن هذا الفيلم شدني إليه، ثم بعد سنوات شاهدت العاني يجسد إحدى شخصيات رواية غائب طعمة فرمان "خمسة أصوات"، وهي شخصية الأديب الراحل حسين مردان، وقد أجاد في تقديم شخصية "الأديب الوجودي" كما افهم هذه الشخصية في الرواية.
هذان العملان السينمائيان كانا من أهم أعماله التي جسدهما في السينما، وقد شارك العاني في افلام منها: سعيد افندي، المنعطف، المسألة الكبرى، الفيلم العربي، اليوم السادس... وغير ذلك من الاسهامات السينمية.
اما في التلفزيون فقد أغناه بأعماله المسرحية كتابة وتمثيلا، والعمل التلفزيزني الذي شدني اليه هو التمثيلية التلفزيونية "عبود يغني" الذي كتب وجسد الدور الرئيسي فيه بحرفية، وبفنية عالية، التي لا يقدر عليها الا فنان كبير كيوسف العاني.
فتحية للفنان الكبير والقدير، فنان الشعب يوسف العاني والعمر الطويل والصحة والعافية له.
ببلوغرافيا
* يوسف اسماعيل العاني، ممثل ومخرج عراقي
* ولد في الفلوجة بتاريخ 1/7/1927
* عمل مدرسا معيدا في كلية التجارة والاقتصاد بعد تخرجه من جامعة بغداد عامي 1950-1951 للاشراف على النشاط الفني في الكلية.
* أسس فرقة الفن الحديث مع الفنان الراحل إبراهيم جلال وعدد من الفنانين الشباب 1952
* مارس كتابة النقد الفني في عدة صحف منها الأهالي والشعب والأخبار
* كتب أكثر من خمسين مسرحية طويلة أو من فصل واحد من أبرزها: القمرجية، مع الحشاشة، طبيب يداوي الناس، في مكتب محامي، محامي نايلون، محامي زهكان، راس الشليلة، وغيرها.
* عمل رئيسا لهيئة تحكيم الدراما في المهرجان العالمي للتفلزيون - بغداد 1988، ورئيسا لهيئة تحكيم مهرجان التمثيلية التلفزيونية الأول
* مارس النقد السينمائي والمسرحي منذ عام 1952م ومازال يكتب في مجالات النقد والمتابعات الفنية ولا سيما المسرحية السينمائية، داخل العراق وخارجه.
* عام 1957 - 1958 قضى عاما كاملا في عدد من مسارح الدول الاشتراكية، الاتحاد السوفيتي، تشيكوسلوفاكيا والمانيا الديمقراطية ، حيث توفر فيها للتعرف على مسرح بريشت، ثم قضى عدة اشهر في مسارح فينا.
* عين مديرا للبرامج في مديرية الاذاعة والتلفزيون بعد ثورة تموز عام 1958.
* عين أول مدير عام لمصلحة السينما والمسرح التي اسسها عام 1958.
* رئيس فرقة المسرح الفني الحديث
* رئيس المركز العراقي للمسرح التابع للمركز العالمي (I.T.I) اليونسكو.
* مثل عددا كبيرا من المسرحيات الشهيرة أبرزها: "النخلة والجيران والخرابة وأضواء على حياة يومية والمفتاح وبغداد الأزل بين الجد والهزل واني امك يا شاكر والملا عبود الكرخي ونفوس والإنسان الطيب والخان وست دراهم والشريعة"، وغيرها من المسرحيات.
* مثل عددا من الأفلام السينمائية عراقية وعربية منها: "سعيد أفندي وأبو هيلة ووداعا يا لبنان والمنعطف والمسألة الكبرى والفارس والجبل والملك غازي واليوم السادس وغيرها من الأفلام السينمائية.
* شغل عضوية اللجنة التنفيذية للمركز العالمي للمسرح ما بين 1983 - 1985.
* تقاعد من الوظيفة عام 1989م، وتفرغ للعمل الفني.