توطئة
طلال حسن، تاريخ قلم مبهج، متنوع، مبدع، أكثر من ثلاثة عقود وهو يرفد الأدب في العراق بأزاهير خالدة في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والمسرح وغيرها، كان لولادته في نينوى، وزياراته المبكرة لأثار النمرود، وحبه لكل ما هو عراقي، الأثر الفاعل في توجهاته إلى استلهام تاريخ العراق القديم في أغلب مسرحياته التي كتبها للفتيان، يقول طلال، في إحدى حواراته واصفا رؤيته في الكتابة للطفل: "إذا كان أدب الأطفال الجيد منه بالطبع لا يخلو غالبا من الموعظة إلا أنها تقدم كما يقول رديارك كبلنك - بصورة غير مباشرة - وبقدر عال من الفنية والجمال والموعظة: في رأيي لا تعمل على الارتقاء بذاكرة الطفل أو الصبي نحو فهم واستكناه لب الحكاية، وإنما توظف عناصر الحكاية لتوصيل الموعظة، وبشكل فني جميل وممتع إلى القارئ سواء أكان طفلا أو صبيا، ومما لاشك فيه إن هدف الحكاية ليس فقط الوصول إلى المسلمات والبديهيات، وإنما فتح أفاق بسعة خيال الطفل وأحلامه تشع بالتفاؤل والثقة والأيمان بالمستقبل والإنسان".
تحية لهذا المبدع الكبير، آملين أن يكون هذا الملف مساهمة صغيرة في قراءة "طلال حسن"، الأديب المبدع أبدا.
ــــــــــــ
المحرر
طلال حسن.. ببلوغرافيا
ـ مبدع عراقي مثابر ومتميز.
ـ عضو في اتحاد الأدباء العراقيين والعرب، ونقابة الفنانين العراقيين ونقابة الصحفيين العراقيين، ونقابة الدراميين، وعضو مجلس أول رابطة للأدباء والفنانين في العراق.
ـ صدرت له: الحمامة دار ثقافة الأطفال بغداد 1976، البحر مطبعة الجمهور الموصل 1978، ليث وملك الريح دار ثقافة الأطفال بغداد1980، حكايات قيس وزينب كتاب أسامة الشهري دمشق 1983، الفراء دار ثقافة الأطفال بغداد 1984، نداء البراري دار ثقافة الأطفال بغداد 1985، عش لاثنين اتحاد الأدباء العرب دمشق 1986، العش دار ثقافة الأطفال بغداد 1989، من يوقظ الشمس اتحاد الكتاب العرب دمشق 1993، مغامرات سنجوب دار ثقافة الأطفال بغداد 1995، دروس العمة دبة دار ثقافة الأطفال بغداد 1997، حكايات ليث دار كنده عمان 1998، انكيدو اتحاد الكتاب العرب دمشق 1999، داماكي والوحش دار التوحيدي حمص2001، الضفدع الصغير والقمر أبو ظبي 2001، زهرة بابنج للعصفورة اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002، جلجامش دار الشؤون الثقافية بغداد 2004، الإعصار اتحاد الكتاب العرب دمشق 2005.
ـ في مسيرته الإبداعية التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود كتب القصة والرواية والمسرحية والسيناريو، ونشر أكثر من ألف نتاج موزع بين الأجناس الآنفة الذكر، في مختلف الصحف والمجلات العراقية والعربية منها: المزمار، مجلتي، المسيرة، تموز، بانيبال (العراق)، وسام، حاتم، براعم عمان، الدستور (الأردن)، أسامة (سورية)، أحمد ( لبنان)، ماجد (الإمارات)، الحياة المسرحية (سورية)، البيان (الكويت)، أفكار (الأردن).
ـ تفرد في الكتابة للطفل قصة وسيناريو ورواية ومسرحا، افتتحها بمسرحية "الأطفال يمثلون" العام 1971.
ـ تجاوز في منجزه الأدبي الـ " 2" كتابا في سوريا والأردن وأبو ظبي والعراق ، تنوعت بين قصة ومسرحية.
ـ رأس وعمل وأشرف على العديد من الدوريات التي تعنى بأدب الأطفال.
ـ فازت أعماله بعدة جوائز عراقية وعربية هامة منها:
ـ الجائزة الثانية عن مسرحية "الضفدع الصغير والقمر" في أبو ظبي عام "2000" .
ـ الجائزة الثانية عن سيناريو "لصوص التاريخ" في دار ثقافة الأطفال ـ بغداد ـ عام "1007".
ـ الجائزة الثانية عن مسرحية "وداعا جدي "في دار ثقافة الأطفال ـ بغداد عام "2009".
ـ الجائزة الأولى عن مسرحية "النملة الصغيرة والصرصار" في دار ثقافة الأطفال ـ بغداد عام "2010".
المبدع الذي نذر عطاءه للاطفال ختامها مسك.. حقا وصدقا
احتفالاتنا الثقافية في مناسبة العيد التاسع والسبعين للحزب الشيوعي العراقي، التي بدأناها في أواخر آذار الفائت، تبلغ اليوم خاتمتها باحتفائنا هنا بوجه لامع آخر من وجوه الادب والثقافة العراقيين، بابن الموصل والعراق الاصيل، البار والوفي، الاستاذ طلال حسن، ولكم يسعدنا ان نحيي الاحتفال به في هذه المدينة، في ألقوش العريقة الامينة على العهد، مدينة الوطنية والكفاح الوطني والديمقراطي، مدينة المناضلين الشجعان المتفانين في سبيل الشعب والوطن، وفي الصدارة منهم المناضل الكبير والقائد الانصاري الراحل توما توماس- ابو جوزيف، إننا إذ نتذكر هؤلاء الابطال ونحيي ذكراهم، نتوجه بأطيب السلام واحر التحيات الى ألقوش الطيبة التي انجبتهم، والى بنات وابناء ألقوش الذين احتضنوهم، ومنحوهم الحب والقوة والبسالة، وحفظوا ذكراهم العطرة، ولا يزالون، أعود الى المحتفى به، الاستاذ طلال حسن، سئل في مقابلة صحفية عما دفعه الى التوجه نحو أدب الاطفال، عما جعله هو الذي بدأ في البداية - قبل حوالي نصف قرن- يكتب للكبار، يتحول نحو الصغار وينغمر في الكتابة لهم: قصصا وروايات وسيناريوهات ومسرحيات، فأجاب مشيرا الى دوافع حقيقية ومنطقية: الى حبه للطفولة، ومعايشته للاطفال اثناء عمله معلما، وشعوره بالقدرة على التعبير عما يريد من خلال الكتابة للاطفال، لكن كاتبنا المتعلق بالأطفال لم يشر الى العامل الاساسي في رأيي، الذي يختفي وراء ما اورده من عوامل، واعني بذلك كونه هو نفسه بقي طفلا، رغم تجاوزه مرحلة الطفولة بعقود وعقود، بقي طفلا في براءته وعفويته وطيبته، في فضوله واندهاشه وسعة خياله، في حسن طويته وصدقه ونقائه، صار طفلا كبيرا، رجلا بروح طفل، وقلب انسان حار نابض بحب الناس والانسانية، وفي الصدارة: الاطفال، كبادنا التي تمشي على الارض، بهذا الطفل المتشبث بزمن الطفولة وعالمها، بهذا المبدع الذي نذر نفسه وابداعه للاطفال، واحتل موقعه المتميز بين منتجي ادب الاطفال، وبين كتابنا العراقيين ورموز ثقافتنا عامة، بهذا الانسان الكبير نحتفي اليوم، ونسعد باحتضانه، ورد جميل ما وهب أطفالنا وثقافتنا اليه، دامت لك العافية والحيوية عزيزنا الاستاذ طلال حسن، طال عمرك وامتد ابداعك وعطاؤك.
ـــــــــــــــــــــــــ
نص كلمة مفيد الجزائري في الاحتفال بالأديب الكبير طلال حسن
طلال حسن.. الطفولة التي لا تشيخ!
نواف خلف السنجاري
يقول برناردشو: (ان العبقرية هي استعادة الطفولة عن طريق القصة)، وطلال حسن بعبقريته الفذة استطاع أن يستعيد طفولتنا مع سابق إصرار، هذا الرجل اصدر اكثر من عشرين كتابا، ونشر اكثر من مائتي مسرحية للاطفال والفتيان، واكثر من 10 مسرحيات للكبار، كما نشر كذلك حوالي 1250 قصة وسيناريو ومسرحية للأطفال، ان عطاء طلال حسن مستمر في التدفق كشلال لا ينضب.
ورغم سنواته التي جاوزت السبعين يبقى طلال حسن يشع براءة، وعندما ننظر في عينه يتجلى لنا النقاء والصفاء، وحين نسمعه يدندن مع نفسه الأغاني الجميلة – كطفل نزق- يتجسم أمامنا الفرح بكل كبريائه، هذا الرجل المسالم، الذي لم يعرف في حياته الضغينة، ولا الغضب، ولم يحقد يوما على إنسان، الا يحق لنا أن نحتفي بإنسانيته قبل أن نحتفي بإبداعه وعطائه؟.
قد يظن البعض أن الكتابة للأطفال هي شيء سهل ويسير، لكني شخصيا اعتبر أدب الأطفال من أصعب أنواع الأدب، وقد أجاد طلال حسن هذا النوع من الكتابة وأتقنه وأبدع فيه، حتى صار اسمه مقترنا بعالم الطفولة، والبراءة والأحلام، لكن هذا الفنان الجميل لم يكتف فقط بالكتابة للصغار وانما كتب للفتيان والكبار ايضا، وظل يواكب كل جديد، ويتابع كل المستجدات على الساحة الثقافية، وها هو أخيرا يكتب القصة القصيرة جدا هذا الفن الحديث، والصعب أبدع طلال حسن في كتابته، عندما قرأت اصداره الاخير (انا الذي رأى)، ادركت كم هو جميل ان يرى الرجل العجوز ظله وهو مازال طفلا يركض وراء الفراشات، واذكركم كنت سعيدا وفخورا حين كتبت عن طلال حسن، رغم ان ما كتبته وقلته عنه ليس سوى قطرة في بحر ابداعه وعطائه الجميل.
في كتابه الاخير (انا الذي رأى)، الذي يقع في قسمين الأول معظم قصصه تدور على لسان الحيوانات (سنونو، دودة، ثعلب، عصفور، افعى، بلبل، غراب، فيل، نمر، ببغاء، اسد، فراشة، ارنب، دب، ذئب)، وتطرح أفكارا، فيقول في قصة (قطرة ماء)، ممجدا روح التعاون: (أخذت الصخرة على قطرة الماء انها صغيرة، وضعيفة، فقالت قطرة الماء: نعم لعل هذا صحيح لكن باتحادي مع رفيقاتي نصنع الانهار والبحار والبحيرات)، وفي قصة (الدودة): (وضعت الدودة في قفص، وحين استبد بها الجوع ولم تجد ما تأكله نفسها)، إشارة الى نبذ الجشع والابتعاد عنه، وتقول الشمعة في قصة (شمعة تحترق): (لا استطع ان أضيء إذا لم احترق)، كرمز للعطاء والتضحية، اما في قصة (بيت البلبل)، (فوجئ بلبل يعيش في قفص، بلبل قد بلله المطر، يحط على مقربة منه فقال له: مسكين يبدو انه ليس لك بيت مثل بيتي، وبفرح نفض البلبل قطرات المطر عن ريشه وقال: انت محق، فبيتي هو العالم كله)، فهنا صرخة ضد القيود وتقديس لعشق الحرية، انه شيء جديد ورائع ان نطرح افكارا (مرمزة)، لكنها ليست (مشفرة)، ونترك للطفل ان يشحذ مخيلته، ليكتشف ما نود ان نقوله له بنفسه، فتصير هذه الافكار عبرا وحكما وقيما عليا يستفيد منها الطفل ويسير عليها في حياته المقبلة، يبدو ان التخصص في ادب الاطفال – الذي يعد من اصعب انواع الادب - متجذر في كتابات طلال حسن، فهو وان حاول كتابة جنس ادبي آخر، لا يستطيع الابتعاد عن لغته التي الفها عبر عقود من السنين، وتواصل معها واحبها واخلص لمفرداتها التي منحها الى عالم الطفولة النقي، حتى عندما يكتب للكبار نحس ذلك الحنين الدافق الى الطفولة والمطمور في لاوعي الكاتب، يبحث له عن منفذ، فنراه يظهر هنا او هناك دون استئذان!.
بعض القصص تفيض شاعرية وهي اقرب ما تكون الى قصيدة النثر مثل قصة (لمن):
لمن يشكو البحر مياهه المالحة؟.
لمن تشكو الزهرة الظامئة الغيمة التي لا تمطر؟.
لمن يشكو البلبل اغاريده التي تطرب البومة؟.
لمن تشكو شجرة الصفصاف اغصانها التي لا تثمر؟.
لمن تشكو العصفورة الافعى التي رأتها في منامها تهاجم صغيريها؟.
لمن يشكو الطفل الحرب التي أخذت اباه؟.
إن ما يميز القصص لغتها البسيطة والمفهومة والتي يستوعبها الاطفال الصغار والفتيان ويستمتع بها الكبار.
القسم الثاني من الكتاب هو الاكثر عمقا، واذا كان القسم الأول حكايات على لسان حيوانات تطرح أفكارا جميلة يحبها الصغار، فان هذا القسم يتمحور حول (الظل)، الذي يمثل الوجه الآخر لحياتنا، وجزء من نرجسيتنا التي تود الخلود والاستمرار، فإن شاخ الجسد وهرم، يبقى الظل طفلا دائم الصخب واللعب، فكما يولد طائر الفينيق من رماده نحب ان نولد من (ظلالنا)، فيقول الكاتب في قصة (طفل): (منذ ان وعيت وظلي طفل، يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال، وها اني كبرت وشخت، لكن ظلي ما زال طفلا يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال)، قد يكون الظل الذي علق عليه القاص افكاره، هو ابناؤنا وبناتنا الذين نبني عليهم آمالنا ونعتبرهم امتدادا لنا، وجزءا من بقائنا الذي ننشده حتى في الكتابة! وقد يكون الظل صديقنا الذي يعرف عنا ونعرف عنه كل شيء، وهنا يخاطب الكاتب صديقه جمعة كنجي ويستذكره في قصة (نصيحة): (رأيت فيما يرى النائم اليوم، رفيقي الراحل جمعة، قال لي: اريد ان اعود الى الحياة، ولأني اعرف ما لا يعرفه نصحته قائلا: لا يا رفيقي ابق ميتا!)، ويمكن ان يكون الظل حلما جميلا لا تفسده قذارات الحياة، وتفاصيلها التافهة، الظل هو خوفنا من الموت والشيخوخة، هو رعبنا من انفسنا، الظل هو نقاؤنا الذي نسعى اليه، هو الكمال الذي ننشده ونسبغه على انفسنا، فلا نستطيع، فنهبه بكل تواضع الى ظلالنا!.
لقد استطاع طلال حسن بشفافيته المعهودة ان يشبع نهم جوعنا الطفولي، وان يملا مساحات من حياتنا كانت فارغة ومنسية، وبعيدة، لكنها غزيرة علينا، الارض القاحلة والمتشققة في عالم طفولتنا المتصحر راوها طلال حسن بنهر كلماته المتدفق الرقراق.
شجرة الجوز
قصة: طلال حسن
قهقهت العاصفة، وهي تعدو على سفوح الجبال، فقد حطمت قبل قليل مجموعة من أشجار الاسبندار، كانت تتمايل بقاماتها الرشيقة فوق ضفة الجدول، وعلى سفح أحد الجبال، رأت العاصفة شجرة جوز ضخمة، مثقلة بالثمار الناضجة، فعوت بجنون، واندفعت نحوها، وقد صممت أن تحطمها مثلما حطمت أشجار الإسبندار.
انقضت العاصفة على شجرة الجوز، وبادرتها بضربة قوية، فصاحت شجرة الجوز، وهي تحاول أن تحمي أغصانها وثمارها: "لا، دعي أغصاني وثماري"، انقضت العاصفة ثانية على شجرة الجوز، وهي تعوي: "سأحطمك مثلما حطمت غيرك".
وكلما كانت العاصفة تنقض على شجرة الجوز، كانت أغصان الشجرة تتقصف، وتتهاوى ميتة، وكانت الثمار الناضجة تتناثر على السفوح، وتعدو بخوف، وتختبىء بين الصخور، لم يهدأ جنون العاصفة، حتى تهاوت شجرة الجوز، وتناثرت حولها أغصانها الميتة، فقهقهت العاصفة، وراحت تتبجح في كل مكان، بأنها لم تحطم فقط أشجار الاسبندار والمشمش والتفاح، بل حطمت أيضا شجرة الجوز نفسها.
وفي الربيع التالي، مرت العاصفة بسفح الجبل، فتذكرت شجرة الجوز الضخمة، وقهقهت حين رأت جثتها ما زالت ملقاة على الأرض، ولكن قهقهتها ماتت فجأة ، فقد رأت عشرات، بل مئات من أشجار الجوز الصغيرة، تزهو فوق السفح، وتبتسم للشمس والندى.
طلال حسن.. طفولة نقية
حسب الله يحيى
قبل نصف قرن، كان الرغيف عصيا، والبرتقال حلما، كانت الأصابع تبكي دما، وهي تأخذ باليمين حجرا وباليسار اسمنتا، كانت اليد لا تصفق فرحا، وإنما تدفع بخشونتها الخد الناعم فتجرحه، ومع ذلك كله كان للحياة معنى، وللصداقة وفاء وللمبادئ قضية مصفاة من الحقد والنفع والجاه، وفي هذه الفاقة التي قدت من نقاء، كان للكتاب شرف ان يباهي العيون وشرف (اللالة)، ان تدخن الضوء تدخينا حتى نقرأ، وكنا قلة نجتمع بعفوية عند مكتبة الأمين في شارع النجفي كل مساء، نترقب وصول الصحف من بغداد، وفي ساعة الانتظار، نتحدث عن كتاب قرأناه، وكتاب نقرأه، وصحيفة نحتت أسماءنا على صفحاتها، وكان من بيننا، طلال حسن، يتحدث برقة الورد وعذب النسيم وغسق المدينة، عن القصة والمسرح، وضرورة البدء من الطفولة، شخصيا لم أعرف طفولة، أية طفولة، ولا شبابا، أي شباب وكان الصبا يحترق بين الطفولة والشبيبة في مشاق العمل الجسدي المضني، طلال حسن كان من البرجوازية الوطنية في ذاك الزمن العصي، فهو معلم، وله القدرة على الجلوس في مقهى مترف اسمه (كازينو النهرين)، وبإمكانه دخول دور السينما، واقتناء ما شاء من كتب ومجلات، وأن يجالس شيخ أدباء الموصل: الراحل ذو النون شهاب.
وكان الشهاب كريما، وعبد الحليم اللاوند سخيا، وطلال حسن بينهما، كريم متحفظ على كتبه، على ان، أنور عبد العزيز، وستار الشيخ، وطلال عبد المجيد، وزهير غانم، وسعد الدين خضر، والصديقان الأثيران: حازم خليل ويوسف البارودي، كانوا أسياد القراءة في المدينة التي لا يشغل أهلها إلا العمل، باستثناء: مثري العاني، الثري بحكايات وأكلات وصناعات وارث أهله، وكنا نعرف صاحب مكتبة الأهالي: عبد الرحمن، الذي كان يمدنا بالسر والعلن بكتب أثيرة وعصية ونابهة ممنوعة، ومع أننا كنا نخشاه ونحذر منه، لورود معلومات تقول: إن له علاقة بالأمن، وللحقيقة لم ترد معلومات مؤكدة الى انه وشى بأحد منا، وفي وقت كان د. عمر الطالب استاذا جامعيا مرموقا، جعلنا د. عبد الاله احمد في نقده لدراسته القصة العراقية، موضع الشك، لكن طلال حسن، كان حمامة سلام بيننا وبين عبد الرحمن والطالب، حتى أنني شخصيا أدين لطلال حسن كرم إقناع د. عمر الطالب بسحب شكواه ضدي بعد كتابة قصة (رجل اعتيادي جدا)، والتي نشرت في جريدة (الرسالة)، الموصلية و(ملحق الانوار)، اللبنانية والذي كان يشرف على تحريره الروائي الراحل: غسان كنفاني، مثلما كان يسعى لإزالة الجفاء بيني وبين الشاعر الراحل: سالم الخباز، الذي أغاضته قصتي (الذي يتجذر في الأرض)، والتي نشرت في مجلة (الآداب)، عام 1967 فصار يكشف رموزها المضادة للسلطة، لن استرسل، فمهمة هذه الورقة، لا يراد منها استعراض تجربة كاتبها، بقدر ما يراد الكشف عن طبيعة الحياة والعلاقة الصميمية التي أنتجت هذا الحقل الممتد بعافية البقاء والذي اسمه طلال حسن، حقا أقول، لا تسعفني الذاكرة الشقية لمدينتي الموصل، وأنا استل منها بيرقا من بياض، فيما تشكل هذه المدينة وجعا في عقلي وقلبي وحواسي، ولكن من طبع المحبة أن تداوي الجفاء والجراح والأذى، والطفولة العذبة التي شغلت كل حياة طلال حسن، كل الأحوال، حتى استحالت على الشيخوخة، وباتت عصية على النسيان.
نصف قرن من المعرفة التي اختلست مصباح الشارع والفانوس والشمعة واللالة، حتى نقرأ كتبا مستعارة من طلال حسن الذي فتح مع مثري العاني شهيتي على المسرح الحقيقي، خارج ما كان مألوفا، وخارج طفولة، تتوسل اللقمة، فكيف بالكتاب، وبقصة ومسرح الطفل؟.
طلال، اطل على المشهد الثقافي مربيا لأجيال، ومن ثم معلما وتربويا فذا لأجيال متعاقبة من أطفال العراق والعالم، وما زالت إطلالته، تجد صداها في كتاباته المعمقة والممتعة في روايات ومسرحيات تنشر مسلسلة في ملحق جريدة التآخي (أبعاد ثقافية)، التي تزهر بعوالم طفولته التي ترفض ان تشيخ، وإذا يتم الانتباه إليه الآن بعد نصف قرن من العطاء، ومن المسار الصعب الذي كان يغذي به (طريق الشعب), في سنوات خلت، فإنما هو انتباه – وان جاء متأخرا - إلا انه يعطي للذاكرة التقدمية أن تتقدم باتجاه أولئك الذين أنستهم توجيهات لا اله إلا المال والسلطة كل شيء، وفي عرف الوفاء والنقاء، لا اله إلا الحقيقة، وها هي تتألق في وجوه هذا الجمع الخير من نبلاء القوم.
في "زهرة بابنج للعصفورة"
الانسنة والقيم الجديدة
محسن ناصر الكناني
سبع وثلاثون قصة قصيرة جدا للأطفال، ضمتها المجموعة القصصية الموسومة "زهرة بابنج للعصفورة" للقاص العراقي طلال حسن، صدرت المجموعة عن "اتحاد الكتاب العرب" بـ 95 صفحة من القطع الصغير، والقاص طلال حسن غني عن التعريف فهو قاص مجتهد منذ السبعينيات يواصل الكتابة للأطفال: قصصا ومسرحيات، وأغنى المكتبة العراقية والعربية بالعديد من المجموعات القصصية وفازت قصصه ومسرحياته في المسابقات المحلية والعربية.
في مجموعة (زهرة بابنج للعصفورة)، قصص قصيرة جدا، لا تتجاوز كلماتها المائة كلمة وهو نمط صعب بلا شك اذ يعتمد على حدث واحد في الغالب ويحرص على ان يكون بسيطا يقود الى دلالة محددة، وتستبعد كل وصف لا يقدم شيئا لطريقة عرض الحدث ولا يضيف جديدا الى الدلالة المبتغاة من القصة حسب قول الناقد سمر روحي الفيصل، وهذا النمط يحتاج إلى قاص متمكن من فنه يلجا الى التكثيف والتركيز والترميز وهو نمط يبدو سهلا في الظاهر لكنه عسير وصعب في الكتابة لكون السهولة البادية للعيان من النوع السهل الممتنع، التجربة أمام كاتب متمرس مثل طلال حسن تبدو ناجحة فقد قدم سبعا وثلاثين قصة قصيرة جدا (بأسلوب شائق يعتمد على المفارقة ورصد الثنائيات الموجودة ما بين الحيوانات بعامة).
في عالم الطبيعة حيث فتح للأطفال أفقا ساحرا مأنوسا شفافا في حاضنة الطبيعة أم الإنسان الأول وبداية تاريخه حيث تتعايش الطيور والحيوانات، نجح القاص في إبداع عالم قائم على الانسنة والألفة بين اسرة الغابة وبث فيها قيما خيرة وافكارا نبيلة تعزز من ثقة الطفل بوطنه وتراثه وعلومه عبر اسلوب تعبيري وادوات جمالية راقية ابعدتها عن التلقين والمباشرة وقربتها نحو الموحي والشاعري والخيالي مراعيا عمر الطفل ومداركه ومجساته وخياله وقاموسه اللغوي المناسب، ويمكن الاقتراب من نص (زهرة بابنج للعصفورة)، وعرضه امام القارئ لاستكمال لذة القراءة واستكشاف المخبوء والمدهش في النص، (حل عيد الأم في الغابة وانهالت الهدايا أزهارا من كل نوع على الامهات)، أهدى الخشف امه الغزالة زهرة نرجس وأهدى الحمل امه النعجة زهرة قرنفل وأهدى الشبل امه اللبوءة شقيقة حمراء، اما الواقواق الصغير فقد قطف زهرة بابنج وقدمها هدية للعصفورة، فقالت العصفورة ايها الواقواق اهد هذه الزهرة لامك انا العصفورة، ورد الواقواق الصغير قائلا: أنت أمي فقد حضنتيني بيضة ورعيتني صغيرا حتى كبرت هذه الزهرة هدية مني لك بمناسبة عيد الام، ارجوك خذيها)، ووسط تصفيق الجميع اخذت العصفورة زهرة البابنج وقالت بفرح اشكرك يا بني.
من قراءة النص القصير ذي الـ 85 كلمة "و17 فعلا: حل، انهال، قطف، قدم، رد، حضن، رعي، كبر، اشكرك" ينجح القاص في صنع مشهد عام هو الاحتفال بعيد الام في الغابة! وقد عمل الكاتب على خلق انسنة بان دعانا الى احتفالية، الطيور والحيوانات تقدم هدايا الى امهاتها في عيد الام في الغابة!.
الطيور والحيوانات تقدم هدايا كما يفعل الإنسان مملكة الغابة تتحاور وتفرح وتقيم احتفالا كما يفعل الإنسان ويؤسسون لقيمة جديدة ان يهدوا الام هدايا ترتفع ومستوى الام في حياتهم، الكل يقدمون زهورا وما اجمل مايقدمون والأم تستاهل كل الهدايا فالجنة تحت أقدامها والغابة طوع أمرها والأبناء يحيطونها فرحين في عيدها، وحين يقدم الواقواق، الطير الذي احتضنته العصفورة ورعته صغيرا حتى كبر هدية الى العصفورة شكرته واعتبرته ابنا لها تدلل على الفعل الكبير للتربية وشعوره بالامتنان لامومة العصفورة بالرغم من ان امه الوقواقة قد تركته في عش العصفورة ورحلت بعيدا، ان القيمة التي غرسها الكاتب في النص قد بثها بشكل غير مباشر بثها بلغة مأنوسة شاعرية معتمدا على الانسنة كعنصر إدهاش ومتعة وبالتالي يترك شحنة انفعالية لدى الطفل باكتساب قيمة جديدة يتأثر بها وينفعل معها ثم تفعل فعلها في توجيهه في الحياة نحو الأحسن والأرقى، وقد كانت جل نصوص الكاتب تركز على بث قيم الخير ومحاربة الشر في عالم انسنة قريب من الطفل ممتع وجذاب ولغة فنية واساليب تعبيرية جديدة.
طلال حسن: الطفل الحلقة الأضعف بين شرائح الشعب
عبد الكريم العبيدي
وجه، كل ملمح فيه يجتر من طفولة دائمة، وقبل أن تتناغم تلك الملامح الطفولية لتطلق كلمة، لابد أن تمهد لابتسامة "طفل كبير"، أولا، كأنه خلق ليبقى طفلا مبدعا موهوبا، من ربوع الموصل الخضراء فاحت اشراقته، فتفاعلت مع أزاهير من فضاء الإبداع العالمي وغدت وهجا يشار له بالبنان.
ورغم كتابته للكبار في حقول معرفية عديدة، الا أنه عكف على أدب الطفل، وتفرد في الكتابة له قصة وسيناريو ورواية ومسرحا، بدءا من مسرحية "الأطفال يمثلون"، عام 1971، ثم توالت إبداعاته في الرواية والمسرح وغيرها، حتى كانت حصيلة إبداعه أكثر من 21 كتابا.
والمئات من الكتابات المتعددة التي شملت أجناسا أدبية كثيرة.
نشر الكثير من أعماله في عدة دول عربية، وفاز بجوائز عديدة، تكريما لمنجزه الإبداعي المميز، انه الكاتب المبدع طلال حسن، الذي أجاب، في حوارنا هذا على أسئلة ربما ستكشف بعض محطاته الإبداعية التي لا يعرفها البعض.
سألناه، أولا:
ـ بدايتك مع النشر، هل كانت في فضاء القص أم المسرح، أين نجد إطلالة "طلال" الأولى؟.
إطلالتي الأولى، في عالم النشر، لم تكن للصغار، وإنما للكبار، ففي عام "1964" على الأغلب، شاركت في مسابقة للقصة القصيرة، أقامتها جريدة، "فتى العراق"، في الموصل، بقصة اسمها: "النبتة التي تتنفس"، ورغم مخالفتها لأحد شروط المسابقة، إلا أنها فازت بالجائزة الثالثة.
ـ اذن، يبدو أن فوزك هذا هو فاتحة لجوائز عديدة حصلت عليها لاحقا؟.
نعم، بالإضافة إلى هذه الجائزة، التي ذكرتها، فزت بعدة جوائز في مجالي مسرح الأطفال وسيناريو الأطفال، ففي عام "2000" فزت بالجائزة الثانية في مسابقة مسرح الطفل العربي في الشارقة، عن مسرحية "الضفدع الصغير والقمر"، وفي عام "2008" فزت بالجائزة الثانية في مسابقة سيناريو الأطفال، في دار ثقافة الأطفال ببغداد، عن سيناريو بعنوان "لصوص التاريخ"، وفي عام "2009" فزت بالجائزة الثانية في مسابقة مسرح الطفل، في دار ثقافة الأطفال، عن مسرحية بعنوان "وداعا جدي"، وفي عام "2010" فزت بالجائزة الأولى في مسابقة مسرح الطفل، في دار ثقافة الأطفال، عن مسرحية بعنوان "النملة الصغيرة والصرصار"، وأخيرا فزت بالجائزة الثانية في مسابقة دار ثقافة الأطفال، في عام "2012" عن مسرحية بعنوان "مدينة عند مشرق الشمس".
ـ الحصيلة الابداعية لمنجزك كثيرة ومتعددة، نود أن نتعرف على أهم ما صدر لك من كتب خارج العراق، ربما لا يعرفها البعض؟.
صدر لي خارج العراق تسعة كتب، سبعة منها في دمشق، خمسة من هذه الكتب صدرت عن اتحاد الكتاب العرب، أهمها: عش لاثنين، ومسرحية انكيو، ومسرحية الإعصار، وكتاب صدر عن مجلة اسامة للأطفال بعنوان "حكايات قيس وزينب"، وكتاب آخر صدر عن دار التوحيدي في حمص بعنوان "داماكي والوحش"، كما صدر لي كتاب في عمان بعنوان "حكايات ليث"، وأيضا صدرت لي مسرحية للأطفال في أبو ظبي بعنوان "الضفدع الصغير والقمر".
ـ مثلك حتما عنصر فاعل في نشاطات وحراك ثقافي مؤثر، أي النشاطات التي شاركت فيها؟.
لأسباب معروفة، لم أدع قبل التغيير حتى إلى المربد، ولكن بعدها حضرت مؤتمرات كثيرة، وشاركت في بعضها مشاركة فعالة، داخل محافظة نينوى وخارجها، ولعل أهم مؤتمر شاركت فيه بفاعلية هو مؤتمر المثقفين في بغداد، الذي شارك فيه "500" مثقف من جميع أنحاء العراق، يقودهم، وبفاعلية كبيرة، الأستاذ مفيد الجزائري، وكان وقتها يشغل منصب وزير الثقافة.
ـ الملاحظ أن انطلاقتك كانت في بداية السبعينيات، حدثنا عن ما نشرته قبل هذه الفترة؟.
نعم، نشرت بعض القصص والمقالات النقدية في الستينيات، فقد كنت متابعا نشطا للحراك المسرحي خاصة، وقد نشرت عن هذا الحراك مقالات عديدة، كما نشرت مقالات أو متابعات بسيطة عن القصة والشعر وخاصة في الموصل.
ـ هناك جزئية محورية واضحة في منجزك الابداعي، تتمثل في تفاعلك المميز بعالم الطفل وفضاءاته، ما الذي دفعك إلى أدب الأطفال؟.
حبي للطفولة، ومعايشتي للأطفال من خلال عملي كمعلم، وشعوري بأني أستطيع أن أعبر عما أريده، من خلال أدب الأطفال، أكثر من أدب الكبار، كل هذا وغيره جعلني أركز على أدب الأطفال، لكني لم أهجر تماما أدب الكبار، فما زلت أكتب وأنشر للكبار قصصا قصيرة ومسرحيات، وسأواصل ذلك.
ـ ما هي المؤثرات التي صنعت منك مبدعا كبيرا، وما الذي تقوله لمن ينشغل، أو يود احتراف أدب الأطفال؟.
يبدو أن لي قدرا من الموهبة للكتابة للأطفال، لكن ما صنع مني أديبا إلى جانب المبدعين الكبار في هذا المجال، هو عملي اليومي المستمر، وتعلمي من كبار الكتاب العرب والأجانب، وفي مقدمتهم ايسوب اليوناني، وكريلوف الروسي، والكتاب الإنسانيين السوفيت ومتابعتي المستمرة لتراث الإنسان في كل زمان ومكان.
إن هذا التراث هو تراثي وتراث الجميع، أما أهم ما أود أن أقوله للأدباء الشباب: فهو أن يرعوا هم بأنفسهم موهبتهم، ويثقوا بها ويعملوا على تطويرها، وإلا انطفأت كما تنطفىء الشمعة، التي يمكن أن تبدد بضوئها ظلام الليل.
ـ ما بين المسرح والقصة وغيرهما، أيهما الأقرب إلى الكاتب المبدع طلال حسن؟.
للأطفال، وخلال أكثر من أربعة عقود، كتبت القصة والسيناريو والرواية والمسرح، ولكل نمط من هذه الأنماط الأربعة، أهميته ودوره وجمالياته، ولكن يبقى لمسرح الأطفال أهميته الكبيرة عندي، وقد نشرت حتى الآن في هذا المجال أكثر من 260 مسرحية للأطفال، من بينها أكثر من 60 مسرحية للفتيان.
ـ كيف تنظر إلى الطفل العراقي، ما الذي يحتاجه من الأدب والثقافة؟.
منذ عقود وعقود، والشعب العراقي يعاني من أوضاعه السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي المقدمة بين شرائح الشعب، حلقته الأضعف: الطفل، ولا شك أن وضع الطفل في العراق لن يتحسن إذا لم يتحسن وضع العراق، ويقف معافى في بداية طريق التقدم، وإلى أن يأتي هذا اليوم، والذي أتمنى أن لا يكون بعيدا، فعلى وزارة الثقافة أن تولي ثقافة الأطفال اهتماما جديا، وترصد لأنشطتها المختلفة ما يمكنها من تقديم ما يستحقه الأطفال وما يحتاجونه في مجال الثقافة.
ـ محطات وأشخاص علقوا في ذاكرتك؟.
خلال هذه العقود الأربعة، التي انغمست خلالها في مجال أدب الأطفال، عرفت الكثير من الأدباء والفنانين، يأتي في مقدمتهم الراحل الكبير مؤيد نعمة والفنان المبدع نبيل يعقوب والفنانة الكبيرة انطلاق محمد علي والمبدع الغائب المتغرب، الذي رسم لي بشكل رائع كتابي الأول "الحمامة"، عام 1976، إنه المبدع صلاح جياد، كما عرفت من الفنانين وباعتزاز طالب مكي وعبد الرحيم ياسر ومنصور البكري وهناء مال الله، أما أبرز الكتاب الذين عرفتهم فهم مالك المطلبي وفاروق يوسف وفاروق سلوم والساحر شفيق مهدي وحسن موسى وزهير رسام، وكذلك الشعراء المبدعين جليل خزعل ومحمد جبار حسن وكفاح عباس وغيرهم كثير.
ـ هل هناك دعم ما، لمسته خلال مسيرتك؟.
أدب الأطفال خاصة، وثقافة الأطفال عامة، لن يعيشا ولن يتقدما في بلد مثل بلدنا، وفي ظروف مثل ظروفنا، بدون دعم كبير ومدروس، وعلى أيد مخلصة ومدركة ومجربة، وإلا فسنبقى نراوح في مكاننا، إن لم نعد القهقرى إلى الوراء.
ـ ما جديد طلال حسن؟.
إنني أكتب كل يوم تقريبا، وخلال السنوات الأخيرة، أعطيت جل اهتمامي لمسرح ورواية الفتيان، أما في مجال النشر، فلي كتاب في دار مدارك، ومسرحية ستصدر قريبا عن دار ثقافة الأطفال، أما عن دار براق في النجف، وهي من أفضل دور النشر للأطفال، ليس في العراق فقط، وإنما في الدول العربية، فلي فيها تحت الطبع أربع روايات للفتيان.
وأربع وثلاثين قصة للأطفال ستصدر في ستة كتب، وخمسين مثلا وحكاية ستصدر في ستة كتب أو أكثر.
مختارات من قصص الأديب المبدع طلال حسن
الجذور
حين ارتفعت الضجة، كنت أبحث عن قوتي، فرفعت رأسي، وأنصت، لم أعرف أول الأمر ماذا جرى، فتركت مكاني، ورحت أشق التربة ببطء نحو الأعلى، ومن بين الأصوات تبينت صوت البومة: "لقد ماتت".
يا للشؤم، وارتفع صوت يؤيدها: "هذا صحيح، أنظروا إليها، لقد جفت أغصانها، واصفرت أوراقها".
وناح صوت آخر: "مسكينة، لم تتحمل برد هذا الشتاء، إنها تحب الدفء".
آه فهمت، إنها شجرة البرتقال، لقد جاء السنونو ببذرتها من بلاد الشمس، وزرعها هنا، تلفت حولي وتلمست الجذور، ثم مضيت أشق التربة نحو الأعلى، وما إن خرجت إلى الضوء، حتى سمعت العصفور، يصيح بنهم: "دودة".
لكني رفعت رأسي، وصحت:" مهلا، لدي خبر مهم".
صاح السنجاب الصغير: "دعها".
ثم التفت إلي، وقال: "تكلمي".
رمقت العصفور بحذر، وقلت: "الشجرة لم تمت".
احتجت أصوات عديدة، وارتفع صوت البومة:
"أيتها الحمقاء، انظري إلى أغصانها، وأوراقها".
رفعت عيني إلى البومة، وقلت: "المهم هو الجذور".
تطلع الجميع إلي، وتساءل أكثر من صوت.
"الجذور"!
فأضفت: "الجذور حية، وهذا يعني أن الشجرة ستبقى حية".
لم يصدقني البعض، لكن بعد عدة أسابيع صاح الجميع بفرح: "صدقت الدودة".
فقد أورقت شجرة البرتقال، وتفتحت فوق أغصانها أزهار القداح، ألم أقل، المهم هو الجذور؟.
طفل
منذ أن وعيت، وظلي طفل، يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال، وها إني كبرت، وشخت، لكن ظلي مازال طفلا يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال.
فوق المصطبة
جلست، أنا وظلي العجوز، فوق مصطبة في الحديقة، وعند الغروب، نهض ظلي العجوز، ومضى كالعادة إلى البيت، أما أنا فقد بقيت جثة هامدة فوق المصطبة.
الأرض كروية
صاح ظلي، وسط الأطفال الأرض كروية؟.
أمسكوا بي، وأمام أنظار الأطفال، ألقوا بي في النار.
ووسط النار، وأمام عيون الأطفال المدهوشة، راح ظلي يصيح الأرض كروية، الأرض كروية.
حب
رغما عني، تقدم ظلي منها، وقال أحبك.
نظرت إلي، وعيناها العسليتان تقولان اخجل، أنت كهل.
ووقفت حائرا، لا أدري كيف أفهم عينيها العسليتين، أن ظلي لم يكتهل، وأنه مازال يستطيع أن يحب.
الحرب
أصاب قناص ظلي بإطلاقة، فأرداني قتيلا.
وحفر رفاقي حفرة، وسجوا ظلي فيها، وألقى كل منهم فوقي زهرة برية، وقبل أن يردموا الحفرة، انتفضت من بين رفاقي، وأسرعت لأرقد إلى جانب ظلي.
الظلال الأربعة
أربعة كنا، وظلالنا كانت أربعة، أنا وأخي وأمي وأبي.
اختفى ظل أبي، واختطفت الحرب ظل أخي، وها نحن، أنا وأمي، ظلان أنثويان قاتمان، نحن إلى ظلالنا، التي كانت يوما أربعة.
الظل العجوز
نهضا معا عن مقعدهما، ونهض معهما ظلاهما العجوزان.
لوح الأول للثاني غدا نلتقي.
فرد الثاني مازحا إذا أشرقت الشمس.
وفي الغد أشرقت الشمس، كما تشرق كل يوم، لكن الثاني لم يأت، وظل الأول فوق المقعد، وحيدا مع ظله العجوز؟.
ظلان باتجاه الشمس
أقبل فتى وظله من اليسار، وأقبلت فتاة وظلّها من اليمين، وتبادل الفتى وظله، نظرة خاطفة، مع الفتاة وظلها، لم يتوقف الفتى، ولم تتوقف الفتاة، لكن ظليهما توقفا، ثم سارا معا باتجاه الشمس، وسرعان ما توقف الفتى والفتاة، ولحقا بظليهما.
الظل الفرح
نمت صبيرة وسط الصحراء، ولم يكن حولها سوى الرمال والرياح، وذات ظهيرة، مر بها طائر صغير، يلهث من الحر، وما إن رآها، حتى أسرع يلوذ بها، وابتسمت الصبيرة، ونشرت ظلها الفرح، فوق الطائر الصغير.
التنين
بالأزهار وأغصان الغار، استقبل الناس بطلهم المنتصر، عند سور المدينة، ووقف الحكيم وابنه يتأملان البطل، وسط مستقبليه.
قال الحكيم حقا إنه بطل، ستذكره الأجيال القادمة طويلا، فقد قتل التنين.
قال الابن لكن التنين وهم.
فرد الحكيم قائلا: وهل أصعب من قتل هذا، التنين؟.
أنا الذي رأى
رأيت، ويا لهول ما رأيت، ورغم رعبي، صرخت بي أنت إنسان، قل، لا.
إنسان من هذا العصر
أشعلت شمعة، وعلى ضوئها، لمحت في هوة الليل، إنسانا يلوح لي، طالبا النجدة، فهجمت على الشمعة، وأطفأتها.
المطر وهي
منذ المساء، والمطر يهمي، قطرات صغير، دافئة، وبدت أشجار الحديقة، تقف في العتمة تحت المطر.
ووقفت هي، خلف النافذة، وحيدة، عارية، تحت بجامتها، متمنية لو تقف كشجرة، تحت قطرات المطر الدافئة.
الرمال المتحركة
فجأة وجدتني، وسط رمال مدومة، متحركة، تتناهشني أوجاع لا حدود لها، ومن الليل، انبثق طفل، لم أر منه سوى عينيه، وشفتيه المبللتين، وبأعلى صوتي هتفت النجدة.
لم يسمعني الطفل، وكيف يسمعني، وأنا لم أسمع نفسي؟.
وتحرك الطفل، وسرعان ما تلاشى في الليل.
غفوة
عاد أبي ليلا، وأوى إلى فراشه، وأغفى.
وعند الفجر، لم ينهض كعادته، ويذهب إلى العمل.
والتم حوله الرجال والنساء يندبون، فتقدمت من أبي، وغطيت وجهه، وقلت كفى رجاء، دعوا بابا في غفوته، لقد أتعبته اليقظة؟.
يوم ممطر
نزلت المرأة من الباص، في الساحة المكتظة بالسيارات، وسارت تحت المطر، عبر ممرات مليئة بالنفايات والأوحال، وفي أحد الممرات، تراءى لها رجل يخنق صبيا، فسارعت بالخروج من الساحة، وهي تقول في نفسها لابد أنه أبوه.
وعلى الطوار، رأت رجلا يستجدي، فوضعت في يده الممدودة مبلغا من المال، ومضت تسير تحت المطر.
لماذا الـ، لا
وقف الرجل أمام ببغائه متحيرا، وقال عجبا، إنني أوفر لك، في القفص، الطعام والشراب والأمن، ومع ذلك فأنت حزين.
ولاذ بالصمت لحظة، تم هتف وجدتها، أنت تريد رفيقة، حسن، سأذهب غدا إلى الغابة وأصطاد لك.
فهب الببغاء صارخا لا.
هذه الكلمة الحلوة
جاءني من مجرة بعيدة، وتجول معي بين الناس، ثم قال لي الحرية، هذه الكلمة أسمعها عندكم في كل مكان؟.
فابتسمت قائلا هذه الكلمة الحلوة، الحرية، ستبقى معنا دوما، فقد حنطناها بأحدث الطرق، وحفظناها في صندوق زجاجي مفرغ من الهواء، فنحن هنا نقدس، الحرية.
اللغم
زرعوا جسده بأجهزة إنصات، وأنصتوا، تك، تك، تك.
قال الخبير أصغوا، أسمع شيئا يتكتك.
أصغوا، وأصغوا، وخناجرهم في أيديهم، فقال الخبير هذا لغم.
وهب الحاكم صارخا أبطلوه وإلا نسف العالم.
وانهالت الخناجر على الجسد، تفتش كل زاوية فيه، وفي القفص الصدري، تحت الثدي الأيسر، عثروا عليه يتكتك، وبكل هدوء، وبأصابع متمرسة، انتزعه الخبير، و أنقذ العالم.
الكابوس
مددت يدي في العتمة، والحمى تشويني، لم أجده إلى جانبي، يا إلهي، إنني وحيدة.
طرق الباب، اعتدلت مترددة، فقد قال لي: لا تفتحي الباب لأحد.
طرق الباب ثانية، إنهم هم، لعله وقع في أيديهم، و صرخت لا.
دفعوا الباب، حتى تهاوى، واندفعوا نحوي، وقبل أن يمسكوا بي، حاولت أن أستيقظ، لكن دون جدوى.
قطرة الندى
استيقظت الزهرة مبكرة، وحين فتحت عينيها الجميلتين، رأت قطرة ندى تتأرجح بجوارها، فابتسمت ببشاشة، وقالت: "صباح الخير".
أجابت قطرة الندى، دون أن تلتفت: صباح النور.
قالت الزهرة: "تفضلي بالجلوس فوق أوراقي".
فقالت قطرة الندى بجفاء: "لست تعبة".
ظنت الزهرة أن قطرة الندى متأثرة لأمر ما، فقالت بحنان: "تعالي تطيبي بعطري".
صاحت قطرة الندى: "دعيني، لا أريد عطرك".
وهمت قطرة الندى أن تمضي، فقالت الزهرة: "عزيزتي، ستشرق الشمس بعد قليل، وقد تؤذيك، تعالي اختبئي بين أوراقي".
قالت قطرة الندى، وهي تتطاير مع الريح: "كلا، أريد أن أتجول".
أشرقت الشمس، وتطلعت حولها، وحين وقعت عيناها المشتعلتان على قطرة الندى، وهي تتسكع فوق الحقول، حدجتها بنظرة غاضبة، فتبخرت قطرة الندى، وتبددت في الهواء.
الغراب
نعب الغراب بأعلى صوته هجوووووم.
فهب الأموات من خنادقهم، شاكي السلاح، واندفعوا معولين كالريح إلى الحرب.
وتوقف واحد منهم، وسط العويل، واستدار بهدوء شديد، وبهدوء أشد، سدد بندقيته نحو الغراب، ثم ضغط على الزناد.
المراقب
قرر البلبل والعصفور ونقار الخشب أن يبنوا بيتا مشتركا، وحين سمع الوروار بذلك عرض عليهم أن يشاركهم في العمل، فلم يمانعوا، وقبل أن يبدأوا العمل، قال البلبل:" أنا أجلب الأخشاب".
وقال نقار الخشب:" وأنا أنظفها، وأحولها إلى ألواح".
وقال العصفور:
"وأنا أبني البيت"، ما الوروار فقد قال: وأنا أراقب العمل.
نظر الجميع إلى الوروار بدهشة، لكنهم سرعان ما انصرفوا إلى العمل، دون أن يتكلموا، أسرع البلبل إلى الغابة، وجاء بالأخشاب، وراح نقار الخشب ينظفها، ويحولها إلى ألواح، وأخذ العصفور يبني البيت، أما الوروار فكان يراقب العمل، وقد حاول أكثر من مرة أن يتدخل في العمل، لكن أحدا لم يصغ إليه.
وما إن حل المساء، حتى كان البيت المشترك جاهزا، فدخل البلبل والعصفور ونقار الخشب، وأغلقوا الباب وراءهم، أما الوروار فقد وقف مذهولا، وهو يتمتم.
"ماذا جرى لماذا أغلقتم الباب في وجهي"؟.
لكن أحدا لم يجبه، وأنتم تعرفون لماذا.
آه يا عشي الجميل
حذرني البلبل العجوز، قبل العاصفة، وقال: "يا بني، حصن عشك فقد تهب عاصفة، وتقتلعه".
لم ألتفت إلى البلبل العجوز، فقد كانت النهارات جميلة، والليالي مقمرة، والغابة تضج بالحياة، وفجأة هبت العاصفة، وكانت أقوى بكثير مما توقعها البلبل العجوز، فاقتلعت مئات الأعشاش، وفي مقدمتها عشي.
صدمتني المفاجأة، وتلفت حولي في ذهول، لا نهارات جميلة، ولا ليال مقمرة، والغابة يسودها الخراب، ما العمل؟.
لم أستطع أن أتمالك نفسي، وهزتني موجة من البكاء، وراحت دموعي تسيل، تسيل، تسيل، آه يا عشي الجميل، سأبكيك العمر كله، وسأغنيك بدموع لا تجف، فأنت المثال، أنت الحلم، أنت.
لكن جموعي جفت بعد أيام، وفوجئت بعشرات الأعشاش قد بنيت فوق الأشجار، يا إلهي، ماذا جرى ومر بلبل شاب فسألته:" تمهل يا عزيزي، متى بنيتم هذه الأعشاش"؟.
شجيرة الور
مالت الشمس للغروب، وتهيأ النهار للرحيل، وراح الظلام يزحف على الغابة، فتمايلت شجيرة الورد، وراحت تتأوه:" أوه".
ابتسمت شجرة السنديان، فقد خبرت آهات شجيرات الورد، ودلالهن، ولكن حين حل الليل، سمعت شجيرة الورد تنوح، فتساءلت وهي تميل عليها:" ما الأمر يا عزيزتي"؟.
فأجابت شجيرة الورد:" الحياة، قاتمة".
مدت شجرة السنديان أحد أغصانها، وداعبت شعفة شجيرة الورد المليئة بالأكمام، وقالت: يبدو أنك تصغين كثيرا إلى الأغاريد الحزينة.
تنهدت شجيرة الورد، وقالت: "لقد غربت الشمس، ورحل النهار، وملأ الظلام الغابة".
فابتسمت شجرة السنديان، وقالت: "بالعكس يا عزيزتي، إن الشمس ستشرق قريبا، وسيأتي النهار، وينجلي الظلام عن الغابة".
لاذت شجيرة الورد بالصمت، واستسلمت للنوم، ولكن سرعان ما استيقظت، وإذا بالشمس مشرقة، والنهار يملأ الغابة، فابتسمت شجرة السنديان، وهي ترى شجيرة الورد تمد أذرعها إلى الشمس، وتبتسم للحياة.
خلاف في الرأي
أفاق الضفدع على أصوات تهز العالم ، وتكاد تطيح بمياهه ونباتاته وكائناته، فهم أن يلوذ بأعماق المستنقع، لكنه رأى غريمه يقف بين الأعشاب، فتناسى خلافهما، وسأله: "ما الذي يجري إن عالمنا سيدمر".
لم يلتفت غريمه إليه، لكنه قال: "هذا لا يخصنا".
ثم أضاف بلهجة متعالية: "إنهم البشر، يتحاربون".
اتسعت عينا الضفدع، وقال: لكنهم من فصيلة واحدة".
وبنفس اللهجة المتعالية، قال غريمه: هذه طريقتهم في حسم خلافاتهم في الرأي".
لم يتمالك الضفدع نفسه، فصاح: "يا للحمقى".
ثم نظر إلى غريمه، وأضاف: "ترى ماذا كانوا سيفعلون لو أنهم سمعوا أن العالم دائري"؟.
عندئذ التفت إليه غريمه، وقال: "لكنه دائري".
فحدق الضفدع في غريمه، وقال: "بل مربع".
تجمعت الضفادع على صوت الضفدعين، وحاولت أن تهدئهما، لكن الغريم ند نحو الضفدع نطة، وقال: "أنت أحمق".
وقبل أن تفهم الضفادع ما يجري حولها، التحم الغريمان في معركة طاحنة، وفجأة صاح أحد الضفادع، "اللقلق".
هبت الضفادع، ولاذت بأعماق المستنقع، وحاول الغريمان أن يهربا، لكن المعركة كانت قد أنهكتهما، وسرعان ما أقبل اللقلق، والتقطهما بمنقاره، وغيبهما في حوصلته، مع خلافهما في الرأي حول شكل العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "طريق الشعب" ص 6ـ 7
الاربعاء 12/ 6/ 2013