من خلال تجربتها الطويلة مع النقد الادبي والعمل الاكاديميين قدمت الناقدة د. نادية العزاوي للمكتبة العراقية والعربية وكذلك للحركة النقدية مساهمات مهمة كان من ابرزها: "المغيب والمعلن- قراءات في نصوص تراثية" و "القابض على الجمر" من يوميات ومذكرات قاسم عبد الامير عجام. الى جانب ذلك قدمت العزاوي عددا كبيرا من الابحاث والكتب التي وضعت اسمها بجدارة بين اهم النقاد العراقيين المعاصرين واشرفت وناقشت العديد من رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه في اغلب الجامعات العراقية. الدكتورة العزاوي قامة من القامات النقدية التي يح?ب لها حساب في ثقافتنا الحديثة. في هذا الحوار تناولنا ظاهرة خطيرة ومهمة الا وهي ظاهرة النقد وقضية المناهج النقدية والاتجاهات والمذاهب الفنية وملامح ارساء نقدي علمي حديث.
نريد التعرّف الى نشأتك والمواقف الأساسية والروافد الثقافية التي اهلتك كناقدة ؟
- بالإمكان الحديث عن ثلاثة روافد أساسية متصلة ببعضها: النشأة الرصينة في أسرة تقدمية، عانت النضال السياسي، بما جرّ عليها من ملاحقات ومعتقلات، وبقدر ما سلبها ذلك نعيم الحياة فإنه منحها صلابة الإصرار، ونزاهة ذات اليد، والإخلاص للانتماء. لقد كان بيت العائلة منجماً لمناقشات عميقة لا تنتهي عن فصول الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، وما أصاب الناس من انقلاب وانتهازية في المواقف، فقد غيّروا وجوههم وأقنعتهم بحسب المناسبات والظروف قسراً أو تطوّعاً، وما أقرب المسافة بين الرقص والسقوط، وما أبعد المسافة بين ماكان يجري في البيت وبين ما يدور في خارجه، لم ألمس أنّ أحداً من والديّ قد حاد عن قناعته وعن الطريق الذي تبنّاه على قساوة الظروف التي واجهتنا في بعض المراحل. فالصلابة في المواجهة من أجل المبدأ، كانت تستلزم كثيراً من التضحيات التي قدّماها عن طيب خاطر.
المبدأ، وإعلاء شأن الفكر أول الدروس العملية التي قدمتها لي عائلتي، ومعها قدمت لي أطباقاً شهية من الأدب، فقد تفتح إدراكي الأول على قصائد بدر شاكر السياب يلقيها على مسامعنا خالنا الكبير، ومنها ننتقل إلى مختارات لنازك والمتنبي، وجبران وإيليا أبي ماضي، وما أكثر الحوارات الساخنة عن إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ، حيث تتطاير العبارات عن الواقعية والبرجوازية والالتزام. لقد كان الأدب الواحة الهانئة التي تلتقط فيها العائلة أنفاسها من قسوة الظروف من حولها.
ومن هذا الرافد انبثق الرافد الثاني: حبّ العراق والتمسّك به في أحلك الظروف، وعشقي لإرثه الثقافيّ المتنوع في مراحله الحضارية المتعاقبة: القديمة والوسيطة ثم منجزه المعاصر. وقد عزّزت هذا العشق متابعة جيدة للنتاج الإبداعيّ فيه: في القصة والمسرحية والشعر، واطلاع طيب على نتاجه التشكيليّ والمسرحي. وما زلت أذكر بفخر المواسم الذهبية لفرقة المسرح الفنيّ الحديث، والفرقة القومية، وفرقة المسرح الشعبيّ، في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، والجو المنعش الذي تراه في المسرح، حيث يتدفق الجمهور بهيبة وتقاليد محترمة، توازي هيبة العروض المقدمة بمضامينها الممتلئة، وبالعروض الفاخرة في الأداء والإخراج والديكور والإضاءة والمؤثراث الصوتية. وستظل محفورة في القلب مسرحيات هي علامات شاخصة مثل: المتنبي، الطوفان، بغداد الأزل، مقامات أبي الورد، الباب، ترنيمة الكرسي الهزاز....وغيرها. وكان التنوع مدهشاً في المصادر: لمؤلفين عراقيين وعرب بارزين أمثال: عادل كاظم، محيي الدين زنكنة، يوسف العاني، قاسم محمد، سعد الله ونوس.... فضلاً عن تعريق النصوص الأجنبية لشكسبير، إبسن...إلخ.
ثم جاءت الثمانينيات وما بعدها محملة بوقائع الحروب السود المتتابعة فكان الانكفاء والتراجع والانهيار الذي نعيش اليوم صفحاته الدامية.
والرافد الثالث:المواظبة على القراءة والمتابعة بعيداً عن الصخب والضوضاء التي تفسد القراءة وتشوش على مساراتها السليمة. والقراءة عندي تتوزع بين: التراث إذ تتجلى أصالة الذاكرة ومنبع التجارب الرائدة التي لا غنى للباحث عنها، وبين متابعة النتاج العراقيّ الحديث- قدر المستطاع، و بين قراءة المترجم من الروايات والدراسات المتنوعة.
هناك ملمح بارز في تجربتك النقدية، يمكن أن يلحظه القارئ لكتاباتك، إنك تحاولين الخروج من أسر الأكاديمية إلى منطقة أوسع من القراءة، فهل توافقينني الرأي؟ وماذا تمثل لك الأكاديمية وخارجها؟
- مبدئياً لي تحفظ على لفظة (أسر) الواردة في سؤالكم فالأمر ليس مطلقاً، لا بد من توضيح أن الأكاديمية ليست ترفاً ولا تهمة، فهي تتيح للباحث مناخاً صحياً تتهيّأ له من خلاله سلامة المعايير، ورصانة الأسس العلمية المعتمدة، والقراءة المنظمة، وموضوعية الأحكام، والتأني في تحليل الظواهر بلا شطط أو خلط، ولكنها تتحول عند الباحث التقليدي إلى إطار يابس جامد مفرغ من محتواه الفكريّ الحيّ المتحرك. وإذا تحولت الأكاديمية إلى دروس ومقررات وقاعة محاضرات وبحوث متهرئة تلاك فيها المقولات القديمة، وتعاد فيها الآراء والأحكام، فقد فقدت ميزتها النوعية.
إذا كانت الأكاديمية تمثل المنهج أو الحامي للمنهج، فإن خارجها الآن يعمد إلى منهج أيضاً بل المناهج ذاتها، لماذا وضعت أصحاب هذه الآلية التي تمثلها المناهج الغربية في (مأزق الغراب)، ولا يخفى عليكِ أن النقد المنهجي من (لانسون) إلى المناهج الحديثة والنظريات هي في الغالب غربية؟
- (مأزق الغراب) عندي سبب كل ما نعانيه اليوم من استلاب ثقافيّ، افقدنا القدرة على أن يكون لنا إسهام خاص بنا يحمل ملامحنا، فنحن نردد أسماء الآخر وأفكاره كالببغاوات، وتلك كارثة حقيقية إذا قارناها بعمق إرثنا الثقافيّ. من المؤكد أن الخلل ليس في المناهج، بل في من يعتنقها من نقادنا دون قدرة على الإضافة أو التحوير وبما يتلاءم وخصوصية نتاجنا المنبثق من رحم الواقع المعقد في تركيبته نفسياً واجتماعياً وتاريخياً، فترى الفجوة واسعة بين النظرية والتطبيق، فضلاً عن سوء التمثل، وعدم الدقة في الأحكام. مأزق الغراب اذن إدانة لكل استهلاك نقدي يقوم على التقليد المحض المجرد من القدرة على النقد وحسن التوظيف، بسبب قصور في الأدوات وفي الإعداد الثقافي، فقلة قليلة من نقادنا أخذوا تلك المناهج من مصادرها الأصلية وبلغاتها التي ألفت فيها، إذ غالباً ما يكون الاتكاء على المترجمات والاقتباسات، الأمر الذي يعكس فداحة الخلل. نقولات غير دقيقة، مأخوذة عن كتب وسيطة، مقتطعة من سياقها الثقافيّ الذي أنتجها، يفرضها الناقد العربي على نصوص تنتمي إلى حاضنة وسياق مختلف تماماً، فماذا تظن حصيلة هذا الخلل المزدوج في الاستلام، في التطبيق؟ مسوخاً نقدية بالتأكيد. ولكنك لا تلمس هذا التعثر في التجارب النقدية الناضجة المستندة إلى قراءة الموروث من جهة، والمتعمقة في استيعاب المناهج الجديدة من جهة أخرى؛ استيعاب أتاح لها حسن التوظيف الذي قدم إضافات ملموسة في حياتنا الثقافية: محمد مندور، محمود أمين العالم، شكري عياد، إحسان عباس، محمد النويهي، جابر عصفور، فاضل ثامر، عبد السلام المسديّ ....إلخ.
ذكرك الأستاذ محمد خضير في حوار سابق لي معه ضمن جملة من النقاد الذين من الممكن أن يؤسسوا لنقدية عراقية تجمع صفة الأكاديمية والنقد خارجها. هل في بالك مثل هذا المشروع تسهمين فيه؟
- أعتزّ كثيراً برأي المبدع الكبير محمد خضير، وأعدّه شهادة لي. لا شك في أن السعي نحو قامة نقدية عراقية وعربية مسألة ملحة اليوم أكثر من أي وقت سابق، ولكنها مشروع ليس سهل التحقق في ظل تمزّقنا السياسيّ والثقافيّ، لأنها تستلزم جهوداً مؤسسية متسقة، مؤتمرات مشتركة، دور نشر مدعومة، ميزانيات سخية في تخصيصاتها للجوانب الثقافية، وهذا متعذر في حسابات حكوماتنا العربية التي تهدر الاموال على كل شيء إلا الثقافة وشؤونها. كما ويتطلب المشروع أيضاً تضافراً حقيقياً بين جهود الأفراد والمؤسسات العلمية في البلدان العربية المختلفة، تنطلق من الإيمان بضرورة أن تكون لنا ثقافة معاصرة تحمل ملامحنا، تميزنا عن سوانا في النظرية والتطبيق، وهي أمور ليست بالمتاحة اليوم مع هيمنة العولمة بل قل الأمركة، التي تطبق على خناق ثقافات الشعوب المختلفة، بقصد تنميط أساليب تفكيرها وسلوكها، لتكون نسخاً مكررة للآخر في كل المجالات: في الغناء والتمثيل والشعر والرواية والنقد، وما تواجهه الثقافة العربية من تحديات ليست وحدها فيه، فشعوب أخرى تحسّ بفداحة هذا الخطب، وبخاصة مع التطور الهائل لوسائل الاتصالات. ثمة هجمة منظمة علينا نحن الشعوب العربية والإسلامية لاقتلاعنا من جذورنا، وتفكيك أسس حضاراتنا، وفي مثل هذا الوضع، لا بد من وعي ومثابرة وتعاون. وحتى ذلك الحين ينبغي أن لا نكف عن العمل بهذا الاتجاه مهما كانت المعوقات.
من النقاد من يرى ان الأدب العربي المعاصر يعاني من التبعية الزمانية للماضي، أو من التبعية المكانية للغرب.
- هذا صحيح بكل أسف، وهذا الانشطار هو بعض ما تحدثنا عنه قبل قليل في (مأزق الغراب)، وهو دليل على أمرين هما بمثابة السبب والنتيجة، أعني ضعف التأسيس الثقافي وما يقود إليه من سهولة الوقوع في الاستلاب أمام الغرب، كالموتى المنقطعين عن تحولات الحاضر من حولنا، وعن خصوصية الواقع الذي نعيش في خضمه.
دكتورة نادية أريد توقيعك على الأسماء الآتية:- (علي جواد الطاهر)، (عبد الإله أحمد)، (فاضل ثامر)، (قاسم عبد الأمير عجام)، (بدر السياب)، (نازك الملائكة )، (فؤاد التكرلي).
- الطاهر أبو النقد العراقي المعاصر مهما اختلفنا أو اتفقنا معه في المنهج والرؤية. فاضل ثامر الناقد المثابر الذي حقق في اشتغاله الوسطية الذهبية، فنجح في ما عجز عنه آخرون، أعني التوظيف الذكي لمستجدات المناهج في فحص النصوص العراقية والعربية وبما يكشف عن خصوصياتها في الأفكار والاسلوب. عبد الإله أحمد: يطيب لي أن أستعير وصف أستاذه الطاهر له بأنه أشاد للقصة العراقية عمارتها، وأجعله في مصاف أصحاب المشاريع الكبرى في المشهد الثقافي العراقي المعاصر: طه باقر، علي الوردي، جواد علي ....إلخ، إذ تمثل مؤلفاتهم مراجع أساسية لا?غنى للقارئ عنها على اختلاف المجالات التي خاضوا فيها. قاسم عجام: الحلم الثقافي النبيل المهدور في عراقنا، قتلناه أولاً حين زرعنا في طريقه كل عوامل الإحباط واليأس الممكنة، لكنه ظل يقاوم ويكتب في أحلك الظروف، ولكي نداري فشلنا الذريع في وأد حلمه، زرعنا في رأسه رصاصة هذه المرة. السياب ونازك: الريادة الحقيقية المستندة إلى مواهب خصبة، ومخزون ثقافي، ووعي بوطأة متغيرات الواقع وما تفرضه من ضرورة ملحة نحو التغيير ولكنه تغيير متأنٍ دون انسلاخ. فؤاد التكرلي: عنوان كبير آخر للريادة في الرواية العراقية، إذ تتجلى المثابرة?في تدشين مسارات جديدة لها، مشفوعة بوعي نقدي حريص على استيفاء شروط الكتابة الفنية بدقة مثيرة، فالكتابة مسؤولية وليست لعباً عابراً.
أغلب النقاد الذين يشيدون بتجربة علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس يرون تجربتك النقدية تلتقي معهما. هل ترين ذلك صحيحاً؟ وما المشارب التي تشتركين فيها معهما، وبماذا تفارقينهما؟
- قد ألتقى بهما في أن الناقد هو المنهج، أعني قدرة الناقد على هضم وتمثل المنهج دون الوقوع تحت أسره إلى حدّ العبودية؛ إذ يأتي إبداعه في حسن التمثل الذي يتيح له حرية التوظيف بالقدر الذي يكشف عن الأعماق الخبيئة للنصوص والظواهر. فعند الناقد مع المنهج مساحات مترامية للتكوين الثقافي الخاص، والرؤية المكتنزة، والذائقة المصقولة والمدربة، وخصوصية المنظور في التحليل والمعالجة، مع اختلاف الميول والنوازع والتوجهات الفكرية....إلخ وكلاهما قدّم كتباً جادة لا يمكن تخطيها.
وأختلف عنهما في ميل أكثر نحو قراءة التراث للقبض على عناصره الحية، ومضامينه الإنسانية الغنية المتجددة فينا؛ ففي تراثنا العربي كنوز لم تقرأ بعد بشمولية وعمق. وعنايتي بالمذكرات واليوميات جانب من هذا الحرص على تجلية الذاكرة التراثية، والحفر في طبقاتها المتراكمة: سياسياً واجتماعياً ونفسياً وثقافياً، ففيها تكمن الإجابات عن كثير من الأسئلة التي تحاصرنا في واقعنا اليوم.
كيف ترين الحركة الثقافية العراقية بعد 2003، ما هو وضعها اليوم؟
- هذا السؤال يرتبط بسؤال أكبر: حالة العراق ككل؛ فالبلد من الاحتلال حتى يومنا هذا يواجه أزمات خطرة، تستهدف تفكيك بناه الحضارية، ومرتكزاته الاجتماعية، والأمر تعدى الغزو العسكريّ إلى تمزيق الأواصر التاريخية الوثيقة بين مكوناته، ومحو ذاكرته من خلال التهديم المنظم لشواخصه المعمارية ومتاحفه ومكتباته، ونهب مواقعه الآثارية، فضلاً عن تسليط الإعلام الموجه لغسل أدمغة الناشئة وتشكيكهم في عراقة هذا البلد، وتكريس النوازع الطائفية والدينية والعرقية الغريبة في مجتمعنا، مستغلين ضعف اطلاع الشباب على تاريخهم. وعليه فمصير العراق كله على مفترق طرق خطرة، وسؤال ثقافته مفتوح على علامة استفهام كبيرة.
أ . د . نادية غازي العزاوي/ السيرة الذاتية:
• مواليد بغداد.
• الخريجة الاولى على كلية الآداب /قسم اللغة العربية / جامعة بغداد.
• ماجستير ودكتوراه في الأدب العربي والنقد / كلية الآداب – جامعة بغداد.
• تتلمذت على يد نخبة من ألمع الاساتذة العراقيين في المجالين الاكاديمي والثقافي العام، منهم: د. علي جواد الطاهر، د. عناد غزوان، د. جلال الخياط، د. عبد الاله احمد، د. داود سلوم ، د. صلاح خالص، د. جميل نصيف، د. حياة شرارة.....الخ.
• عضو الهيأة التدريسية في الجامعة المستنصرية منذ عام 1991.
• حازت لقب أستاذ عام 2003.
• لها مشاركات في عدد كبير من المهرجانات والندوات الثقافية العراقية، فضلا عن الندوات الأكاديمية في شؤون النقد، والقصة، وظواهر الشعر المعاصر.
• نشرت مقالاتها ودراساتها في أبرز الصحف والمجلات العراقية والعربية: (الأقلام، آفاق عربية، الزمان، المدى، الآداب البيروتية، العرب السعودية، تايكي الاردنية، أخبار العرب الاماراتية، دبي الثقافية.......)، فضلا عن المجلات العراقية المحكمة.
• صدرت لها في بغداد الكتب الآتية:
1- (المغيب والمعلن) قراءات في نصوص تراثية - 2002.
2- من تجليات الذاكرة دراسات في نصوص عراقية - 2005.
3- القابض على الجمر/ من مذكرات ويوميات قاسم عبد الأمير عجام - 2009.
4- مأزق الغراب (دراسات ومقالات نقدية)- 2012.
5- جذوة الروح ورمادها/ مذكرات ويوميات عبد الإله أحمد 2013.
ولها تحت الطبع كتب أخرى، وإسهامات ثقافية عديدة.
• أشرفت وناقشت العديد من رسائل الماجستير واطروحات الدكتوراه في أغلب الجامعات العراقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 371
كانون الثاني 2015