الثقافة بمفهومها الشمولي التشبيكي الواسع هي نمط معيشة الناس والإطار المرجعي التفعيلي لكل مظاهر السلوك، وتأتي مقاربة مسألة الثقافة عموماً وثقافة المبادرة في سياق التعريف الذي وضعه تايلور من أنها تُمثّل هذا الكل المركب من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والمواقف والاتجاهات والآداب والفنون، وكل ما صنعته وتصنعه يد الإنسان وعقله بصفته كائناً اجتماعياً، وتتسع آليات العلاقة بين الثقافة والمبادرة لتشمل ثنائية افتراضية تؤكد أن الثقافة هي المحدد الرئيسي لنمط النشاط البشري سواء أكان هذا النشاط اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم غيره. إن الثقافة الداعمة للإتكالية تدفع دوماً في اتجاه التهميش والتغييب الاجتماعي وتحويل الإنسان إلى متلقٍ تعوزه إمكاناته عن المبادرة والاعتماد على الذات، وتختصره تنشئته في حدوده الكمية الجسدية حتى يصير مقتنعاً ومستسلماً، وبهذا يحاصر الإنسان ذاتياً ويتماهى بوضعية المتلقي بل ويصير سجيناً لها، وهو في الغالب أكثر هشاشة اجتماعياً.
وفي المقابل تكون الثقافة الداعمة للمبادرة والمشاركة والاعتماد على الذات في اتجاه التمكين لا التسكين وخلق فرص العمل بدل البحث عنها والعطاء بدل الاستعطاء، وذلك على حد قول فرانسيس فوكوياما في كتابه "الثقة" الذي يرى أنه لا يمكن أن يُقام بناء اجتماعي مستقر ومؤسسات اجتماعية فاعلة باستدامة دونما اعتبار للعادات الإيجابية والتقاليد والأخلاق النابذة للتواكل والداعمة للمبادرة، ولا يُمكن صوغ ذلك إلا من خلال عملٍ واعٍ يُعزّز البعد الثقافي المنشود، ويبرز هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" هذا التوجّه بقوله أن جميع المجتمعات ستضطر إلى توجيه اهتمام أكبر إلى الثقافة الداعمة للمبادرة والعطاء والقادرة على التعامل مع المشكلات في مستواها الذاتي والمحلي وحتى العالمي. إن عبارة ثقافة المبادرة والعمل تعبير عن مجموعة من الخصائص الذاتية والمجتمعية والعالمية، فالفرد ينضح بما في إناء مجتمعه. وكل إناء بما فيه ينضح، إذ قلما تجد ثقافة المبادرة في معتقدات أفراد مجتمع لا يتوجّه ثقافياً نحو المبادرة فهو إذاً فاقد للشيء غير مُعطٍ له، والعكس في المقابل.
وهكذا فكر خمسة أكاديمين من أقسام علمية متنوعة في جامعة جيهان في أربيل (رغم زحمة واجباتهم التربوية و التعليمية المضنية ) في البدء بمبادرة إجتماعية وإنسانية واعية تؤكد وعيهم والبعد الثقافي الذي يتحلون به ، وذلك من خلال جمع
التبرعات المادية والعينية للعوائل المهجرة قسرا و النازحة الى أربيل والمدن القريبة منها ، وقد قاموا بعدة زيارات الى تلك العوائل المنكوبة وجلسوا مع أطفالهم وغنوا لهم ، وأدخلوا البهجة إليهم .. وقد ذكر لي أحد أفراد هذه المجموعة ، بأنه لم يشعر في حياته يوما بمثل هذا الإرتياح والسعادة ، وهو يرى وجوه الأطفال وهم فرحين بتواجد هؤلاء الأكاديمين معهم يحملون لهم ما أستطاعوا أن يحملوه .