حاوره: سعدون هليل//

الشاعر عبد الكريم كاصد، شاعر غزير الانتاج بلغ عدد كتبه اكثر من اربعين كتابا، ينفرد شعره بصوته الخاص، وهو صوت دافئ مترع بالحس الانساني والوجداني، عبارته سلسلة متدقفة، متجاوزة تتخايل على الانواع الشعرية كافة لما تمتلك من طاقة ايجابية ذات مصادر معرفية غزيرة، ترجم للشعراء العالميين منهم: جاك بريفير، اناباز لسان جون بيزس، قصاصات لريتسوس.

وترجم بعض شعره الى اللغة الانكليزية، وادرج اسمه واعماله الادبية في معجم الكتاب العرب المعاصرين،

عبد الكريم كاصد حصل على ليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1967، عمل مدرسا لعلم النفس واللغة العربية في العراق والجزائر، وفي عام 1978، غادر العراق متخفيا برفقة الشاعر الفقيد مهدي محمد علي هربا من بطش النظام البعثي، الى عدن حيث عمل محررا في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية، وفي نهاية 1980 رحل الى سوريا حيث عمل كاتبا ومترجما في الصحافة العراقية المعارضة، ويقيم حاليا في انكلترا.

وفي هذا الحوار معه تتجلى المقدرة المعرفية لهذا الشاعر وغنى التجربة الشخصية، كما دار الحوار معه عن علاقة الشاعر بالمجتمع ومسؤولية الترجمة وموضوعات اخرى لا غنى للمتلقي عنها، ولا سيما من قرأ الشاعر قراءة متأنية ليخلص الى بعده الانساني والجمالي.

* كيف تنظم الشعر؟ هل تأتيك الفكرة أولا، أم المفردة أم المطلع؟.

- ليس ثمة توصيف عام لكتابة الشعر، ففي كل قصيدة ثمة حالة من الصعب تكرارها في القصيدة الأخرى، قد تتكرر ملامح عامة في هذه القصيدة أو تلك، لكن الحالة ذاتها لن تتكرر، حاملة طابعها الخاص الذي يتطلب توصيفه رصدا لتلك الحالة واستدعاء لها، دون غيرها من الحالات الأخرى، قد تحضر الفكرة ولكنها لن تتجسد شعرا مالم تتخذ لها شكلا ملموسا لا تعود فيه فكرة حسب.. مجردة من علائقها، بل فكرة في نص، في قصيدة، أو إذا شئت، في جسد، إن صح التعبير، أي إنها، بعبارة أبسط، لا تعود فكرة محضة وإنما فكرة حية، مشبعة بعاطفة ما، تعبر عن تجربة معينة، وتربطها علائق متشابكة بما يجاورها من أفكار وأحاسيس تشعبت منها أو أوحت بها، عبر الصورة الشعرية أو ما يقابلها من بدائل شعرية أخرى.

قد تستغرق الفكرة القصيدة كلها في صورة واحدة، أو صور عديدة، وقد تأتي جزءا في القصيدة، ولكنها في الحالتين لن تكون مجردة تماما حتى لو خلت من البدائل الحسية التي تعبر عنها، لانها تكون، عندئذ، ضمن عالم حسي أوسع هو عالم القصيدة.

كذلك قد يكون مطلع قصيدة محفزا للشاعر، ولكن هذا المطلع لن يكون حافزا إن لم يكن فيه ما يدفع الشاعر إلى الكتابة، وقد يتغير المطلع وفي بعض القصائد يمكن أن يتأخر فلا يبدأ به الشاعر، بل يبدأ من منتصف القصيدة، أو نهايتها أو أي جزء منها، وربما لا يأتي إلا بعد صراع طويل مع بقية القصيدة التي انجزت.

ثمة مطالع في قصائدي شهدت تغييرات كثيرة غير أن بعض المطالع تأتي بلا جهد، حالات القصيدة شتى، من الصعب حصرها، أحيانا تشيع في داخل الشاعر موسيقى تدفعه إلى الكتابة من دون أن يدري عم سيكتب، ثم فجأة تهبط القصيدة كاملة بموضوعها، وإيجاءاتها، وحدودها الواضحة الغامضة وكأنها جاءت دون إرادة الشاعر.

أتذكر مرة في دمشق كنت في الباص عائدا إلى البيت ولا أدري لم أحسست كأن مدا من الموسيقى يشيع في داخلي، مما جعلني أردد بيني وبين نفسي أبياتا لم أفكر بها من قبل، ولكنها عبرت عني تعبيرا قد لا يأتي بمثل هذا الوضوح والاكتمال في القصيدة لو كانت الفكرة هي التي جاءت أولا:

سأمسكُ في يدي حجرين

من ماضٍ ومن مستقبلٍ ناءٍ

واركضُ..

        حين يلمسني الهواءُ أطيرُ

أدعو الريح أن تأتي إليّ

فلا أرى حجرا

سأجلسُ كاليتيم على الطريق

وأندبُ الحجرا

1981

قصيدة حجر من ديوان (وردة البيكاجي)

ومرة، في مقهى بلندن، جرى حديث بيني وبين صديق لي عن تجربة الشعراء الإنجليز في إعادة كتابة قصائد من تراثهم أو التراث الإغريقي والروماني - كان هذا إثر صدور كتاب للشاعر (تيد هيوز) يعيد فيه كتابة بعض قصائد الشاعر الروماني (أوفيد) بلغة إنجليزية حديثة - فانطرح سؤال لماذا لا نعيد كتابة قصائد في تراثنا بلغتنا الحديثة، ظلت الفكرة تلح حتى تحولت إلى هاجس لم يفارقني إلا بعد كتابتي قصيدة (معلقة أمرئ القيس) بلغة حديثة وبإسلوب آخر.

ثمة حالات أترك فيها القصيدة زمنا وقد يئست منها، ثم أعود إليها أو تعود إلي طيعة مكتملة، لكل قصيدة حالتها، وظروفها، ومعالجاتها الخاصة، في بيت، أو مفردة، أو عالم شعري كامل، أو مطلع، وقد تتخذ مسارا غير المسار الذي أراده لها الشاعر، وحين أتذكر بعض قصائدي الآن أتذكر هذه الحالات بتقاطعاتها، وتنافرها، وتحولاتها التي يصعب الإمساك بها الآن إن لم يكن حديثي ملموسا يستحضر هذه القصيدة أو تلك.

* لماذا أنت شاعر؟ لماذا الشعر؟ من القارئ المفترض للشعر؟ هل المتلقي أم المبدع نفسه؟ من هو قارئك؟.

- سأجيب عن سؤالك بطريقتين:

الأولى هي أنني أكتب الشعر منذ أكثر من نصف قرن، ولدي الآن ما يقرب من أربعين كتابا مطبوعا آخرها كتاب صدر لي باللغة الإنجليزية، غير الكتب التي ستصدر هذا العام، لذلك يبدو السؤال، على وجاهته: "لماذا أنت شاعر؟" شبيها بسؤالك للآخر: لماذا تتنفس؟، لا أدري كيف ستكون حياتي بلاشعر،  ولا أظن أن سؤالك الآخر: "لماذا الشعر؟" بعيد عما افترضته في إجابتي التي هي سؤال أيضا، ويبدو لي أن السؤال عن القارئ ليس مهمة الشاعر بالتحديد، بل هي مهمة النقد والمؤسسات المعنية بالبحث من جامعات، وباحثين اختصاصيين، ودراسات مختصة في هذا المجال، علاقة المبدع الحقيقية هي قبل كل شيء بنصه ذاته، وهذا هو الشرط الذي تنطلق منه جميع الأسئلة الأخرى: "لماذا أنت شاعر؟ لماذا الشعر؟ وأي قارئ تتوجه إليه؟"، إن القارئ المفترض للشعر لا يوجده الشاعر وحده انطلاقا من شرطه الذي تحدثنا عنه، بل يوجده أيضا مجمل الحركة الشاملة للواقع بجوانبها المختلفة، ثقافية واجتماعية وسياسية، ثمة شعراء عظام لم يقرأهم أحد هم من أجمل ماقدم تاريخ الشعر: أميلي دكنسون، هوبكنز، جون دن، وثمة أعمال لم يعرف أهميتها أحد كرسالة الغفران، ومواقف النفري، ومخاطباته، وليس مثال الشعراء المتافيزيقيين الأنجليز ببعيد عن الذاكرة، فيعد نسيان وإهمال طويلين أعاد إليوت إلى شعرهم الاعتبار في دراساته العديدة ليجعل من شعرهم طليعة الشعر الإنجليزي الحقيقي.

ومثلما الشعر لا يثبت في هوية واحدة في حركته الدائمة، كذلك لا تثبت القراءة على وضعية واحدة، فقد تنحسر قراءة شعر معين في فترة، وقد تزدهر في فترة أخرى، مما يدل أن ثمة مواضعات لا تنحصر بالشعر والقارئ وحدهما، بل بما هو أوسع منهما من عوامل خارجية لها فعلها في الواقع.

الطريقة الثانية في إجابتي قد تكون ذات طابع شخصي أجدني مسوقا إليه ، قد يكون ذا علاقة بإجابتي السابقة في جزء منها، يخص القارئ المفترض الذي هو ليس مفترضا تماما، لأن الشاعر قد يصادفه مشخصا في الواقع، دون أن يركن إلى استنتاج مريح قادته إليه هذه المصادفة، لقد كان شاغلي الأساس منذ بداياتي في الشعر الناس (الناس البسطاء بخاصة)، وما يتعلق بهم وبي، من أحداث وأشياء في كل مكان زرته أو أقمت فيه: في أمريكا مثلما في العراق، وفي مصر مثلما في موسكو، وقد كتبت مجموعات كاملة عن هذه الأماكن، بأناسها وأحداثها، كما تم الاحتفاء بي وبشعري في المغرب ومصر وفي بلدي أيضا، إن هؤلاء هم قرائي المفترضون حتى وإن لم يقرأوني، فقد يقرأونني مستقبلا، وقد يقرأني ابناؤهم، وقد يتعلم أميوهم مستقبلا ليعرفوا أن أنسانا شاعرا عاش بينهم، وشعر بأحاسيسهم، وتشرد مثلهم، وأحب كثيرا وأمل كثيرا، قال لي بعضهم ومن بينهم شعراء إنهم غادروا العراق ولم يحملو معهم إلا ما خف، ومن بين ما حملوا مجموعتي: (النقر على أبواب الطفولة)، بعضهم بكى لقصائدي، وبعضهم فزع خوفا من بطش السلطة السابقة، بعد قراءته قصائد منشورة لي، بعضهم التقاني في الأماكن العامة ليعبر لي عن محبته لي، ومن هذه الوقائع الشئ الكثير، ويسعدني أن هذه المحبة امتدت إلى القارئ الأجنبي فبعد صدور مجموعتي الشعرية (مقاه) في اللغة الإنجليزية كان الناشر (وهو شاعر أيضا ومترجم قصائد لي عن الفرنسية)، يفاجئني بردود أفعال قراء محبين بعضهم يسكن الجزر النائية، وبعضهم يطلب نسخا أخرى ليهديها إلى أصدقائه، وقد فاجأني قبل أيام الباحث الشهير صاحب النظرية الإدائية حول ما بعد الحداثة (راؤول إيشلمان)، الناقد الأمريكي الألماني الأصل الذي التقيته عابرا في ملتقى ثقافي في القاهرة أنه يريد ان يزورني في لندن ويلتقي هو وصديقته بي، وقد التقيت بهما فيما بعد  لتقول لي صديقته الإنجليزية أنها درست قصائدي لطلابها وطلبت منهم أن يستوحوا في رسومهم أجواءها، وكان لقصائدي التي عرفتني بهما، وعرفتهما بي فضل في قضاء يوم ممتعٍ معهما، ولعل من جملة التقييمات المؤثرة حول ديواني الصغير هذا تعليق لمورننغ ستار: "إنه شعر لا ينسى" هذه العبارة وجدتها أكثر تأثيرا من عبارات أكثر منها سخاء في تقييم مجموعتي.

لكن هذا لن يلجئني إلى الاطمئنان على الأطلاق ولن يكون معيارا كما أسلفت للقصيدة أبدا.

* عبدالكريم كاصد، كيف يقيم علاقة الإبداع العراقي بالسلطة، والمؤسسة من جهة، وعلاقة السلطة ذاتها بالإبداع من جهة أخرى؟.

- لم تستطع السلطات العراقية على امتداد تاريخها أن تدجن الإبداع العراقي حتى وإن حاول إعلامها أن يُوهم بهذا التدجين، وليس أدل على ذلك من النظام السابق الذي لم يستطع بكل جبروته وإمكاناته المادية والإعلامية أن يحتوي هذا الإبداع الذي ظل خارج هيمنة السلطة طوال أكثر من ثلاثين عاما، وهذا ما عبرت عنه هجرة الآلاف منهم إلى المنافي المختلفة وتضحياتهم الجسيمة، ولا يزال الكثير من هؤلاء الآلاف في منافيهم، لم يغادروها إلى الوطن، وذلك ارتباطا بظروف حالية يمر بها بلدنا الذي يبدو أنه محكوم بأكثر من سلطة، من بينها سلطة المليشيات التي لا تعرف متى تبزغ لتؤدي ما عليها من أدوار، سواء في علاقتها بالسلطة التي هي سلطات في حقيقتها، وليست سلطة واحدة تتوزعها جغرافية الوطن الحالية، أو في علاقتها بأحزاب خارج السلطة، لذلك يخيل لي أن علاقة المثقف تبقى هشة عابرة بهذه السلطات حتى وإن بدت متينة للوهلة الأولى، ولا تبدو متينة إلا عبر بعض الأشخاص المرتبطين أساسا بأيديولجية بعض الأحزاب الحاكمة، وهؤلاء ليسوا بالمثقفين المؤثرين في الوسط الثقافي الإبداعي الحقيقي، فهم موظفون في مؤسسات شكلية ليس لها علاقة بما يمكن أن نسميه مؤسسة ثقافية حقا، لها أسسها وتقاليدها ومشروعها الثقافي، خارج هذا الارتجال المريع، من إقامة الاحتفالات الكبرى الفارغة للشعر، وكأن الشعر هو الجنس الثقافي الوحيد، في ثقافة لها أوجهها العديدة، أوهذه الاحتفالات الثقافية في المناسبات المختلفة التي لا تشير إلى أبعد من حدودها الوهمية الفارغة.

وفي مثل هذا الاختلاط في السلطة، والمؤسسات، والثقافة، وتهديد القوى الظلامية الأخرى، يضيق أفق المستقبل وتتسع الهوة بين هذه الحدود الثلاثة وما نخشاه أن تتحول الثقافة إلى إعلام صرف، وأن يتحول ماضيها ذاته إلى مادة للتحريف، وهذا ما رأيناه في بعض التناولات المشوهة للماضي في كتب صدرت حديثا في بغداد، يمكن التطرق إليها مباشرة في مناسبةٍ أخرى، يحضرني منها كتاب قرأته، حين كنت في العراق في زيارتي ما قبل الأخيرة، يؤكد فيه مؤلفه أن الحزب الشيوعي كان له تنظيم في الجيش مما استدعى حزب البعث إلى ضربه، وهو بهذا الطرح الزائف من بين طروحات له زائفة أخرى امتلا بها الكتاب يبرر جريمة حدثت ومازال شهودها أحياء.

* يقال في تعريف الأدباء والمفكرين عموما إنهم طليعة وعي المجتمع، فإلى أي حد ينطبق هذا التعريف على الأدباء والمفكرين العراقيين في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها العراق؟.

- نعم قد يكون الأدباء والمفكرون طليعة، ولكن مثل هذا الفهم يصعب التعويل عليه، ولا سيما أن المفكرين والأدباء كبقية الناس ينحدرون من فئات وطبقات شتى، وله انتماءاتهم المختلفة، معلنة وسرية، وقد يكون منهم أعداد كثيرة وسائل بأيدي السلطات والمؤسسات والأحزاب المختلفة، لكن الوضع يبدو أشد تعقيدا بالنسبة إلى العراقيين من الطرح الذي أوردناه أعلاه، لأن الكثيرمن المفكرين والأدباء العراقيين والعرب ممن تتوزعهم الآن مناف شتى هم، عمليا، خارج سلطات بلدانهم، مما يمنحهم فسحة أكبر للتحرك باتجاه ما هو أكثر التصاقا بالخبرة الشخصية والاختيار الحر.

كان لدور المؤسسات العربية في الخارج تأثير سلبي على بعض هؤلاء المفكرين والأدباء فهي قد حلت محل السلطات القائمة في بلدانهم، ولكنها تبدو الآن أقل تأثيرا لعوامل شتى منها قدرة المنفي على التكيف مع المنفى، مما أشعره، مع مرور الوقت، بعدم حاجته إلى المؤسسات التي وجد فيها في البدء ملجأ خادعا، لموازنة حالة رعب واجهته في منفاه.

* هل تؤمن بامكانية ترجمة الشعر ترجمة ناجحة؟ ألا تعتقد أن الشعر هو إبحار ضمن اللغة القومية للشاعر نفسه؟ فهل يحتمل يا ترى إبحارا آخر من لغة إلى لغة؟.

- نعم، قد يكون السؤال مشروعا في صيغته العامة المتشككة في إمكانية ترجمة الشعر ترجمة ناجحة، ولكن حين نقترب من التحديد لا نجد أن الترجمة مستحيلة ابدا، إن لم تكن ضرورة قصوى لا للشعر وحده وإنما للغة ذاتها المنقول منها واللغة الهدف، مثلما هي ضروة حضارية لمعرفة الآخر في أخص ما فيه: أحاسيسه العصية على النقل من خلال المعرفة أو العقل وحده.

إنها اختبار للشعر، في أشكاله الآخرى وقراءاته المتعددة التي تمده بمعان أخرى لا تتعلق بالنص الشعري وحده، وإنما بأشياء أخرى مثل: كفاءة المترجم وثقافته، لا المعرفية بل والروحية أيضا، الوسط الثقافي الذي يترجم إليه النص، القارئ ...إلخ.

لقد وجد شعر (أدغار ألن بو) تجسيده لا في لغته الأصلية، بل في اللغة الفرنسية على يد مترجميه من شعراء كبار كبول فاليري، وبودلير، ومالارميه، مثلما وجد شعر الخيام مكانته الأرحب في اللغة الأخرى كاللغة الإنجليزية، من خلال ترجمة فيتزجرالد المذهلة التي تضاهي الأصل كما يصرح بذلك العارفون باللغتين، وفي لغتنا أيضا لا في شكله الواحد المتمثل في هذه الترجمة أو تلك، بل في مجموع تلك الترجمات التي عكسته، كما تعكس المرايا المتنوعة شيئا واحدا بأشكال شتى.

حين تتوفر في الترجمة الحساسية العميقة لدى المترجم إلى جانب المعرفة العميقة، فإن النص عندئذ لا يشهد صورته الأخرى بل تحولاته في نص آخر هو ذاته وغير ذاته في آن واحد.

* سبق لكم أن ترجمتم قصائد عن الفرنسية لجاك بريفير، سان جون بيرس، يانيس ريتسوس، رافائيل ألبيرتي، وغيرهم الكثير وكذلك عن الإنجليزية، ما أبرز ما يميز هؤلاء الشعراء برأيك؟.

- ثمة سمات كثيرة يشترك فيها هؤلاء الشعراء لعل أهمها ربما هو الاحتفاء بالحياة بتفصيلاتها وجوهرها معا، هذا الاحتفاء الذي يكاد يكون نشيدا كونيا لدى سان جون بيرس، ومجدا إنسانيا لدى ريتسوس، وأغنية حياتية لدى بريفير وألبيرتي، وخلف هذا الاحتفاء تكمن قدرة الشعر على اكتشاف ما تخبئ الأشياء من إمكانات هائلة للمخيلة في أقصى تجلياتها، لا باعتبارها مفارقة لواقع هذه الأشياء، بل باعتبارها امتدادا لهذا الواقع، ومن هنا عبر أشكالها المتغيرة المرنة في استيعاب موضوعاتها المختلفة الرحبة رحابة الحياة نفسها.

* ما علاقة الإبداع العربي اليوم برأيك بما آلت إليه حال العقل العربي؟.

- من الصعب القول بـ "عقل عربي" واحد إلا مجازا، ولكن يمكن الحديث عن علاقة الإبداع العربي اليوم بما يحيط به من أحداث إذا شئنا الدقة، وهذه العلاقة لا يمكن النظر إليها من خلال منظور واحد هو منظور السببية المباشرة بين واقع الإبداع والواقع اليومي، بل من خلال ما هو أوسع في فهم الإبداع العربي من جهة، وفهم هذا الواقع من جهة أخرى، وما يحتوي الاثنان من مكونات تلتقي وتفترق في آن واحد، فليس الإبداع، أي إبداع، موازيا بالضرورة للواقع الذي يعكسه، فقد يستبق هذا الواقع أو يتأخر عنه في الحلم بواقع سابق يتخذه مثالا، وهذا ينطبق، إلى حد ما، على الواقع فهذا الأخير ليس معطى ثابتا وإنما هو في صراع دائم، قد يهيمن فيه ما هو عرضي زائل وقد يؤجل ظهور ما هو جوهري فيه، أو يشوه، ولا يمكن اختصاره بسلطة قائمة أو أحزاب موجودة في الساحة، وهذا ما هو واضح الآن في مصر وتونس.

إن تشويه ثورة ما، أو حركة ما، لا يعني بطلان هذه الثورة وعبثية هذه الحركة، وإنما يدل على أن ثمة صراعا حقيقيا لم يعد مرهونا بعلاقاته الداخلية وحدها، وإنما بعلاقات أخرى خارجية لها من التأثير ما يجعل الواقع الداخلي يتخذ مسارا آخر، وهذا جزء من محنة الواقع العربي، إذا شئت، مما يجعل الإبداع العربي في تحفز دائم لتشابك التناقضات، داخلية وخارجية، ولعمق الصراع الذي يقرب من التراجيديا، وإن تجلى أحيانا في مظهر الكوميديا ولكنها كوميديا سوداء حقا.. في واقع عربي تسوده الآن قوى متخلفة تنتمي إلى عصور غابرة في ايديولوجيتها، ولكنها من جهة أخرى تنتمي إلى الرأسمال العالمي في مصالحها اليومية من جهة أخرى، وهي لا تمثل العقل العربي أبدا، ولا يمكن أن تكون عينة بارزة له إلا إذا اعتبرنا أن هذا الواقع أصبح من التسطيح ما يجعل هذه التسمية لائقة به وهذا ما لا يقبله حتى العقل العربي الذي نتحدث عنه.

* في ساحة الأدب العراقي شكوى من عدم اهتمام النقاد العرب بالإبداع العراقي، فماذا تقول وما هو رأيك في ذلك؟.

- لا أعتقد أنها شكوى لها أهميتها في مسار الإبداع العراقي، وهي ليست خاصة به وحده وإنما هي عامة تكاد تشمل الإبداع العربي ذاته، فقد تسمع هذه الشكوى في المغرب والجزائر وتونس وحتى في مصر التي يشتهر فيها أدباء نجهلهم، ولسنا على معرفة بأدبهم، وثمة بلدان كالسودان كانت حاضرة في أدبها في الخمسينات والستينات لا نعرف عن أدبها الحالي شيئا، ولا نعرف من أدبائها سوى اسمين أو ثلاثة.

ما يبدو خاصا بنا هو عام إذا ما حدقنا في المسألة طويلا، كما أن عدم الاهتمام لا يشمل بالضرورة الإبداع العراقي بعمومه، إذ ثمة أسماء لا يزال لها حضورها في النقد والمحافل الأدبيةُ ومن الصعب نكران ذلك.

أليس الأولى بنا أن نسأل: وهل النقاد العراقيون أولوا ذلك الاهتمام الكافي بالإبداع العراقي؟.

* هل أنت مطمئن إلى غد الثقافة العراقية؟ وهل توجد حقّا أزمة ثقافية مزمنة؟.

- الاطمئنان إلى غد الثقافة أو عدمه لا يعني وجود الأزمة، أوعدم وجودها، إذا كان ثمة أزمة واضحة فهي في المؤسسات الثقافية وليس في الثقافة ذاتها التي مازال مبدعوها حاضرين في الساحة الثقافية العراقية والعربية، وما هو أبعد من ذلك، ولكن هذا لا يعني إنها بلا إشكالات خاصة بها قد تقرب من الأزمة، وقد تكون دافعا لها للانطلاق إلى ما يتجاوز وضعها الراهن، ما من ثقافة حقيقية بلا إشكالات أو صراعات تختلف وجهات النظر في تقييمها.

ما يشغلني ليس الثقافة العراقية ومستقبلها مادام خطّ الثقافة، أية ثقافة، متعرجا دائما وليس بالضرورة أن نراه بتلك الاستقامة التي تميز المجتمعات المستقرة التي تستطيع أن تحدد مسارها إلى حد ما.

ما يشغلني حقا هو الثقافة بشكلها العام الذي يحتوي ضمنا التعليم أيضا في بلد يفتقر إلى المؤسسات الثقافية، وتهيمن عليه القوى الطائفية المتنازعة التي يمكن لها أن لا تهدد مستقبل الثقافة وحده،  بل وحاضرها أيضا، وقد أضيف إلى ذلك الماضي عندما يتم النظر إليه بمنظار ضيق، لا نرى منه سوى العنف الطائفي حسب.

* أخيرا في مجموعتك الشعرية الأخيرة (هجاء الحجر) تقول:

لا أريد أن أعرف الشعر

أريده أن يعرفني

هل قصدت بذلك أنك تريد من قصائدك الشعرية أن تعرفك للقارئ والمتلقي وهل هذه هي مهمة القصيدة؟.

- ما أريد قوله ببساطة هو أنني لا يعنيني تعريف الشعر كثيرا، وقد تعددت تعريفاته التي لا يحظى أي واحد منها بإجماع أبدا، وما يعنيني حقا هو الشعر ذاته في قدرته على تقديم شاعره بلا وسائط إلى قرائه.

الفعل الأول في (لا أريد أن أعرف الشعر) أعني به التعريف أي مفهوم الشعر، أما الثاني (أريده أن يعرفني) فهو التعريف بالشاعر، أي التقديم خارج أطر التعريفات والمذاهب الأدبية، الأول يفتقر إلى المعنى لأنه محض تعريف مجرد قد لا يعني شيئا، مثل أي تعريف آخر، كتعريف الإنسان بحيوان ناطق، أما الثاني فله غنى الواقع الذي تعكسه القصيدة والذي يحتوي في عالمه الأوسع المشخص الشاعر والقارئ معا.

لا أعرف القارئ الذي أكتب له، ولكنني أعرف القارئ الذي أكتب عنه، والذي هو يعنيني في قصائدي التي تتوجه إليه دون أن يكون غريبا عنها، لذا يرى بعض قرائي من أدباء وغيرهم أن شعري أولى بأن يتم التعرف إليه من قبل جمهور أوسع، عبر الجامعات أوغيرها، لأنه يحمل ملامح قارئ يفترض به أن يتوجه بدوره إلى هذا الشعر الذي يحمل ملامحه مثلما يحمل ملامح الشاعر أيضا.

في القصيدة ليس ثمة افتراق بين الشاعر والقارئ، والافتراق الحاصل هو خارج القصيدة وسط مواضعات وشروط هي خارج إرادة الشاعر والقارئ معا، وإن لم تكن خارج إرادة القصيدة التي يمكن أن تتجاوز مثل هذه الشروط بفعل عالمها القادر على فرض تأثيره في الواقع على القارئ، وليس على الشاعر إلا أن يتلمس ذلك بمقاربات من خلال فعالياته هو نفسه من نشر وقراءات واتصالات قراء به حتى لو كان ذلك محدودا.

التعريف أو التقديم تعبير عن تواصل إنساني بشكل عام وهو هنا في إجابتنا تواصل جمالي يضاف إلى الجمال الإنساني المفترض في الشعر، كما أنه ذو طابع يتجاوز ما هو خاص بالقارئ والشاعر إلى الواقع نفسه، بناسه وأحداثه وتفاصيله، وقد يكتشف الآخر، قارئا أو ناقدا، مهمات للقصيدة غائبة عن الشاعر أساسا، فالشاعر لا يمكن أن يدرك جوهر عمله بالكامل، لأن هذا الجوهر هو في  تحول دائم يغتني مع كل قراءة أو تحليل، ولكن ذلك لا يتحقق إلا لشاعر يستطيع ان يستعيد الوظيفة الحقيقية للكلمات بعيدا عن الاستخدام اليومي المبتذل لها، فكأنه بهذه الوظيفة يعود بها إلى أصولها حيث الكلمة شحنة من الإيحاءات الدالة، لكننا من جهة أخرى ينبغي أن نحترس من التعميم الذي هو آفة في كل تعريف ما لأن انتشار شعر ما، أحيانا ليس دليلا على جودته، حتى وإن كان شرطا له من بين شروط أخرى، فكثيرا ما يلقى الشعر الردئ استقبالا حافلا، ولنا أمثلة كثيرة في شعرنا العربي لا نرغب في الحديث عنها بالملموس.

ليس التعريف بالشاعر إذن هو وحده المقصود في هذه الشذرة، بل الواقع والقارئ أيضا حين يجد القارئ صورته مرتسمة في القصيدة.

البصرة على مرمى حجرٍ

تحضرين موجةً رأيتها من سفينةٍ،

ونخلة رأيتها من قطارٍ

وأنت مزاري

قبل خمسين عاما

وحين أعود ولا تعرفينني،

سأذكّرك بأسماء، وشوارع، ونساء

ومجازاتٍ مكتوبةٍ على حجرٍ

لكن هيهات! هيهات! 

فلن تتذكري أبداً

                    ابداً

                        ابداً

الزقاق الذي عبرناه مرّة

هاهو يبكي

وقد توسّد العراء

النهر الذي تبعناه مرّة

هاهو يلتفتُ ويسأل:

"أين الطريق؟"

والطريق حجرٌ، شجرةٌ هناك، وضفّةٌ لم تعُدْ ضفّةً؟ وتلك التلّةُ أين ابتعدتْ؟

الأيكة مظلمةً يعبرُها قاربٌ فتضئ،

المحرقة بيضاءُ نمرّ بها فتنطفئ

والوردة وسْط قناديل النهر (منْ يذكرُها؟)

ومن النافذة تُطلّ سهيلةُ: ثمّة كرسيّ فارغ، امرأة تعبرُ، ظلَ يُعتم، باقة أزهارٍ حمراء، وعلى الحافة، عند الضفّة ينتظرالجسر، ويلتمع الماء.. خفيفاً يحملُ نافذة وشناشيلَ (سهيلةُ ما أجملَها في الضوء!) ويمضي..

أيّها النهر!

أيّها النهر!

من يواسيك بعدي؟

وبأيّ المياه سأغسلُ شعرك ذاك الطويل الطويل الطويل؟

النفايات

في النهر

حسناً.. أقبلَ الليلُ ثَمّ إذاً هُدنة واستراحة مغتربٍ، تتخللها رشقاتُ رصاصٍ، وقد تطلع الشمس في الليل أوقبل موعدها بقليلٍ...

النهار.. النهار ثانية!

فجأة وإذا الشمس تدفع تنورها في الشوارع والطفلُ يصرخُ بالشمس والناسُ ينتشرون و تبدو السماء بساطَ نحاس يغطي المدينة، يكتم أنفاسها.

الظهيرة تشتعل الآن.. شوارعها حطبٌ.. منازلها حطب.. ناسُها حطبٌ وركامُ رمادٍ يغيّر أشكالهُ: مقهىً يجاور مئذنة، وزقاقٌ يمرّ على النهر، والنهرُ يدخل بيتاً يظنّهُ مجراه، والسقفُ يسألُ عن حائطٍ لا يراهُ، وثمّ خيولٌ تُراهِن، ثمّ طوابيرُ من بشرٍ تتسابق، والطرقاتُ وحولٌ، يقول الفتى للفتاة (يخاطب نفسَهُ): "لو تسمحين حملتكِ.." كانت ملائكة تنفض الوحلَ عن ريشها وهي تعبرُ، كان هنالك سيرك وفي السيرك يبكي المهرّج، في السيرك يدخل ملتحياً، سيّدٌ للرماد، يصلّي، ويرفعهُ طبقاً للمدينة (أعني الرماد)، انظر! كلاب تطير ولا تستطيع النباح، كلاب تحطّ ولا تستطيع النباح

كلاب..

          كلاب..

                   كلاب..

تُرى أقبلَ الليل؟

نجلسُ نحن الثلاثة، ما أجملَ الليل! ما أجمل الضوءَ ذاك البعيد! وتلك الجزيرة تبتعدُ الآن.. تقتربُ الآن.. نشربُ في قدح دارَ للشاي خمرتَنا، ونسافرُ في قاربِ النهر، نرجعُ في قاربِ النهر نُكمل دورتنا كالهلال ونمضي، وسط أضويةٍ وموائدَ تطفو على العشب أو في الهواء وقد لانرى العشب

أضويةٌ

        ثمّ أضويةٌ

                  ثمّ أضويةٌ

ثمّ حلّ الظلام

لماذا كلّ هذه الأشباح ترافقني في المدينة؟

لماذا الظلام يتبعني في الشمس؟

لماذا ذلك الفتى الناحلُ الطويلُ الشاحبُ يُطلّ عليّ

بقصائده المذبوحةِ في الشارع

ورسائله المرميةِ في الشارع؟

بعد خمسين عاماً

بعد خمسين دهراً

بعد

لماذا؟

سأقف أيتها المدينة على ذلك الجسر لأرى ظلّي وقد قطعتَهُ ظلالٌ أخرى: ساعة برجٍ، طاقٌ مهجورٌ، عائلة من حجرٍ، قبة مهراجا، ظلالُ طيورٍ هاربة، مارّون، شموسٌ فائرة، أكياس طحينٍ فضّضت الضفّة، حمّالون ينوءون، مخازنُ أبوابُها لا تغلق في الليل، دوائرُ في الماء تضئ،

وأبوابٌ تفتح

ابوابٌ تُغلقُ

أبوابٌ

و"سهيلة" عند الشباك هناك

تطلّ

وعشرُ حمائمَ تهبط عند الضفّة

عشرُ قوارب ترسو عند الجسر، على اليابسة

قواربُ تطفو ثانية

تحملني

وتغيب

مخلّفة عند الجسر

على اليابسة

ظلالاً أخرى

ظلّي ايضاً

.....................

.....................

القصيده لم تكتملْ

*****

اصدارت الشاعر عبد الكريم كَاصد:

المجموعات الشعرية

"الحقائب"

"النقر على أبواب الطفولة"

"الشاهدة"

"وردة البيكاجي"

"نزهة الآلام"

 "سراباد"

"دقّات لا يبلغها الضوء"

"قفا نبكِ"

"زهيريّات"

"ولائم الحداد"

"الديوان المغربيّ"

"الفصول ليست أربعة"

"هجاء الحجر"

"حذام"

" نوافذ"

مجموعات قصصية ومسرحية:

"المجانين لا يتعبون"

 "حكاية جندي"

 نصوص:

 "جنة أبي العلاء" (نص سرديّ)

 " أحوال ومقامات"

 "أدب رحلات"

 "باتجاه الجنوب شمالاً" " دراسات

"غبار الترجمة"

  ترجمات شعرية عن الفرنسية:

 "كلمات لجاك بريفير"

 "أناباز لسان جون بيرس"

 "عن الملائكة لرفائيل ألبرتي"

ترجمات عن الإنجليزية:

 "نكهة الجبل"

"ربة الشعر هي الكومبيوتر"

"أفكار موجزة عن الخرائط".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثقافة الجديدة

العدد 359 تموز 2013

الحزب الشيوعي العراقي

مركز الإتصالات الإعلامية ( ماتع )