عصر الرصاص.المحرر
"وأنت وإن أفردت في دار وحشة
فإني بدار الأنس في وحشة الفرد
أود إذا ما الموت أوفد معشرا
إلى عسكر الأموات أني مع الوفد"
تعال نفسر الوقت معا، وقت مولدك يا "كامل شياع"، وشعاع فكرك الجميل، ووقت الغياب المر، أنت مولع برسم خريطة النور والضياء، يحلق بك حماسك وفكرك وعشقك للعراق الى نسج غد أجمل، وبناء وطن يسع الجميع، وشيوع ثقافة الحب، لكنهم، وهم يجهلون فنارات ذلك الغد، غدك الأبهى، قالوا: يجب أن تموت!.
في بلد يتشظى، كان لأمثالك قول، وقولك أجوبة سمحة تردد بحزن: "الوضع السياسي الانتقالي والقلق والحراك الاجتماعي الشديد الموجود في البلد يعكس في عمقه تشظي المجتمع وحالة البلبلة العامة التي من مؤشراتها انعدام اللغة المشتركة بين أفراد المجتمع والجماعات والقوى، وبينها وبين الدولة الناشئة".
لكن أَملك ظل رجاء متوهجا يبحث عن سر الانفراج في عتمة الموت، عن بارقة تترجرج في أقبية الظلام: "أمل ان تفضي هذه المرحلة الاستثنائية إلى نقطة من الوضوح وإنجلاء حقيقة البرامج السياسية، وزرع الثقة بين اللاعبين السياسيين".
ها أنت لا تنسى، وتدرك تماما فوضى ما بعد 2003، وها أنت ترسم صورة جلية لما حصل ويحصل: "ينبغي أن لا ننسى أننا خرجنا من تجربة استبدادية من العيار الثقيل، فالحاكم لا يأمن المحكوم ويحتقره، والمحكوم لا يأمن الحاكم ولا يثق به".
ترى كيف يكون الرهان إذن؟، والماضي هو الذي يحرك كل شيء بآلية عجيبة، ماكنة صدئة أدركت يا "كامل" عطلاتها، ونبهت إلى مساوئها، منذ وقت مبكر: "لا يمكن بناء المستقبل بأفكار معاد تصنيعها من منتجات الماضي، وللأسف النسبة الأكبر من قوانا السياسية ما زالت مشدودة للماضي، وغير قادرة على إدراك أن المستقبل".
ها قد هاجمك الظّلام أخيرا، رصاص وغدر في مواجهة النور والتنوير.
في الذكرى الخامسة لاغتيال كامل شياع
ومن الحب ما قتل.. يا صديقي
جمال العتابي
استأذن المفكر برهان غليون في استعارة عنوان كتابه "اغتيال العقل" كمدخل لاستذكار المغدور الشهيد كامل شياع وان كان موضوعه محنة الثقافة العربية، إلا أن محاور عديدة فيه تلقي الضوء على أسباب اغتيال العقل واستهداف رموزه عبر التاريخ، وفي جميع مراحله.
إن استحضار أسماء ضحايا الفكر يبين كيف أن محنة الثقافة ليست إلا مظهرا لمحنة أعم وأشمل، وأزمة "عقل" دون شك متعددة الجوانب تتمثل باختصار متواضع بتبني المفكرين الرأي المخالف السائد في عصرهم، وهو جوهر الصراع مع عقلية الاستبداد والتخلف والظلام التي اغتالت عبد الله بن المقفع، والحلاج، وحسين مروة، ومهدي عامل، وكامل شياع، فالمجتمع البربري كما يقول غليون يعيش بدون مقاييس، أي بدون قواعد معقولة ومنظمة، سواء أكانت مقاييس روحية أم عقلية أم مادية، ومقياسه الوحيد هو القوة المجردة، أي البطش، وتحركه غريزة التسلط أو الخوف، أو العدوان بديلا للمباراة في الإبداع والانجاز والمواهب العقلية، وتتحكم به، نفسيا وواقعيا، لايستطيع ولايعرف السيطرة عليها، فيخرجها في صورة مؤامرة فردية، أو عشائرية، أو طائفية، أو سياسية، إن إدراك هذه المعطيات، تعطي الدليل لمعرفة أسباب اغتيال "كامل شياع" كظاهرة ثقافية، ونموذج فكري حر، فالفعل الإجرامي لم يستهدف "شياع" كاسم، أو كمسؤول في وزارة الثقافة - وان كانت قوى الظلام ستكون سعيدة في مغادرة كامل موقعه - بل هو يتعدى ذلك إلى فعل الإزاحة، إزاحة النماذج الحداثوية وفكرها التنويري من ان يكون لها دور مؤثر وفاعل في عملية التغيير، لو في عملية التحويلات السياسية والاجتماعية والثقافية.
ان هذه القوى تمارس (العدوان) وهو سلوك مريض وشاذ ملازم لمنهجها، وتركيبتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، انه متكرر وهائم، وطليق لا حدود له، يمارسه الفرد، والجماعات، والسلطة، بدوافع شتى، منها الخوف والقلق والتملك.. وتحديدا مع ما يتعارض فكريا واقتصاديا مع مصالح تلك القوى.. التي تمتلك ادوات التصفيات الجسدية.
إن منظومة استبدادية يمتد تاريخ تشكيلها في العراق إلى بدايات القرن العشرين مازالت قادرة على تجديد نفسها والخروج علينا بأمراض جديدة، هي ذاتها التي تمارس القتل باغتيال العقل، وعوامل تشكيل المنظومة تجذرت في حياة العراقيين وتغلغلت في نسيج ثقافاتهم، مازلنا نرزح تحت وطأتها، ونسير في دياجير ظلمتها، وان تغير الزي الذي ترتديه، سنظل نعاني سطوتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، إذ لم يعد الإنسان في هذا العصر أسيرا لأفكار الضلال والانخداع، هناك تيار يتصاعد مؤمن بالتنوير والحرية، والحداثة، مؤمن بالعقل والتوق إلى الحقيقة والتحضر بأشمل معانيه وأرقاها، إنها الغايات التي يمضي نحوها الإنسان في تحقيق إنسانيته، ليمزق الحجب ويبدد الظلام في مجتمع تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية.
لقد أراد كامل شياع للحياة الإنسانية نظما لا يمكن العبث بها، بفعل عقلي كان يصبو إليه، ينبع من فهمه لمعنى الحق، المنبثق من جذوة المعرفة، حين تغدو الحاجة إلى الفهم ضرورة اساسية كالحاجة إلى الهواء والغذاء، فكان هذا النزوع يضطرم في عقله وقلبه ووجدانه، صادرا عن تيقظ وتنبه كضرورة ثقافية وإنسانية.
لقد اكتسب كامل "مناعة" خاصة، ميزته عن الآخرين، تلك التي تصد النساء، والتخلف، وتحرر الايدولوجيا من الجمود، وترى الثقافة جهدا حضاريا، ومشاركة لفعل إبداعي ترقى بالكيان الفردي والوطني والإنساني إلى أعلى المراتب والدرجات، إذ لم يكن "شياع" كائنا حالما، بل كان متيقنا من أن الحياة لا تسمح بالانطلاق وراء الأوهام والخيالات، وإهمال الإمكانات الإبداعية لها، أو تبديدها، كان مؤمنا بقدرة عقل الإنسانية لا بعددها، وبالمنجز لا بالدعاء.
فهل كان كامل وفق هذه المعطيات مؤمنا بقول مونتسكيو "إن كل مواطن مدعو للموت في سبيل وطنه، ولكن ليس من احد مضطرا للكذب في سبيل الوطن"؟.
لم يكن كامل "مدعيا" بحب الوطن، بل كان هائما به، هذا الوطن المصنوع من الصور والخيالات، حتى وان كان بعيدا هائما عنه، أو ضعف الحماس في هذا الحب أحيانا، لأنه لا يدخل في باب الرذيلة والخيال، الوطن كما يصفه كامل: محطة في حياة الإنسان تتفرع منها جميع المحطات، تحكمنا بقوة شبه قدرية، بان نظل متعلقين بها رمزيا، حتى لو هجرناها فعليا، ان نظل مشدودين إليها بقرابة دم، حتى لو أودعنا مصائرنا خارجها.
ومن الحب ما قتل، يا صديقي الحبيب.
كامل شياع
في قصيدتين
عبدالكريم كاصد
كتبت مرتين عن كامل: المرة الأولى أثناء حياته، عندما التقينا في صنعاء عاصمةً للثقافة العربية، والأخرى بعد استشهاده.
في المرة الأولى كنت هناك تلبية لدعوة من وزارة الثقافة اليمنية، بينما كان هو ضمن وفد رسمي ممثلا لوزارة الثقافة العراقية،
في إحدى جولاتنا في المدينة وفي أسواقها الغريبة، المتداخلة، التي يرتفع بعضها خطوتين أو ثلاثا عن الدرب، انعطفنا إلى سوق الملح، حيث استوقفنا خبزه الأبيض الساخن، جوار البطاطا الشهية، وبيضهِ الذي بدا أشد بياضا، ولأننا لم نكن جوعى اكتفينا بالخبز الأبيض الساخن الذي لم نستطع مقاومة رائحته، وبريقه الأخاذ، كنا نمضغه، ونتذكر بغداد وأسواقها الشعبية الأليفة الضاجة، حتى خلنا أننا سننعطف إلى سوق نعرفها، أو شارع سلكناه من قبل.
القصيدة هي بعنوان (سوق الملح)، وهي من بين قصائد عديدة يضمها عنوان شامل: (صنعاء.. ما أبعد صنعاء!):
سوق الملح
إلى كامل شياع
لا أدري لمَ كان البَيْضُ أشدّ بياضاً في سوق الملح
والبطاطا أشهى
خلف براقع البخار
وأقراصِ الخبز البيضاء
أشدّ تواضعاً
في عربتها المدفوعةِ باليدْ
قال كامل وهو يمضغُ الخبز:
أندخلُ هذا الممرّ"
قلتُ له وأنا أمضغ الخبزَ أيضاً:
"لندخلْ"
ثمّ لم نبصر السوق
كنّا ببغدادَ نقطعُ ذاك الممرّ
2004
أما القصيدة الأخرى فهي بعنوان (البناؤون) التي كتبتها إثر استشهاده سنة 2008:
البناؤون
إلى كامل شياع
-1-
الجميعَ هنا قادمون
"لبناء الجنةِ":
الطيبون والأشرار
الملائكةُ والشياطين
اللصوصُ والقتلهْ
ماذا كنتَ ستفعلُ يا كامل في هذا السيرك؟.
أيُّ جدارٍ تبنيهِ لجنتك الخضراء؟.
وسط جحيم ٍأوّلهُ ليلْ
وآخرُهُ ليلْ
أيّ طوائفَ تجمعُها؟.
وإن اجتمعتْ فلذبحك أنتْ
-2-
هنا
ينطقُ الصمتُ بلسان الصرخات
ويقف الظلّ حائراً
في طريقهِ إلى البيت
هنا
تسهرُ الأمُّ نائحةً
تهزّ قبرَ طفلِها
كالمهدْ
-3-
- ماذا تبصرُ في البيت؟.
- قبراً
- ماذا تبصرُ في القبر؟.
- عائلةً
-4-
من أين نبتدئ الرحلة؟.
والقطارات
ذاهبةً
أو
آيبةً
لا فرق
من أين؟
والمحطاتُ مكتظةٌ بالجنازات
ماذا نتركُ أو نحمل؟.
أيّ ظفائرَ قُطعتْ؟.
أية أحلامٍ نُهبتْ؟.
-5-
يا كامل شياع
الطريق التي ابتعدتْ
ملأتها الإشارات
والخطى العائدهْ
وتلك الشواهدُ..
تبصرُها؟.
شواهدُ منْ؟.
ساعتان مع كامل شياع
هادي الحسيني
كان صديقي سعدي شياع يحدثني كثيرا عن أخيه الذي غادر العراق إلى بلجيكا بعد انهيار الجبهة الوطنية في أواخر العقد السبعيني من القرن الماضي، وعندما غادرت أنا إلى الأردن بعد سنوات، التقيت بسعدي مرة أخرى وسكن معي في نفس الغرفة، كان اعتماده في العيش على الاتصال بكامل شياع في كل شهر، وبات الأمر هو أن يقوم "كامل" بإرسال مبلغ بسيط إلى أخيه، يقتطعه من قوت يومه!.
ذات شهر، انتاب سعدي الحزن الكبير بسبب عدم إرسال كامل له المبلغ، وبين لأخيه في رسالة اعتذاره له عن عدم إمكانيته الإرسال!.
مرت سنوات طويلة، وبعد سقوط النظام عام 2003 زرت أهلي في بغداد، وفي أول جمعة ذهبت إلى مقهى حسن عجمي وأول الذين التقيتهم كان الشاعر الصديق رباح نوري الذي قال لي إن أغلب الأصدقاء انتقلوا إلى الجلوس في مقهى الشابندر.
وفي أول دخول لي إلى المقهى كان سعدي شياع قد وقف أمامي ضاحكا، عانقته، ثم جلس مع شخص قريب الشبه إليه، نادى علي، جلست معهم، قال لي: هذا كامل شياع أخي الأكبر!.
أكثر من ساعتين جمعتني بكامل، كان بسيطا طيبا مثقفا رائعا بكل شيء، كنت خائفا عليه وهو يعمل كمستشار في وزارة الثقافة!.
لم يستطع المثقف العراقي الحر الحفاظ على حياته في ظل صراع الأحزاب الطائفية والعرقية التي أحالت العاصمة بغداد إلى مسرح كبير لتنفيذ جرائمها الغادرة بحق مثقفينا الذين يتساقطون الواحد بعد الآخر بجرائم القتل مع سبق الإصرار والترصد، ولأسباب كثيرة جدا، وفي الغالب لم تكن هذه الأسباب ذات نزعات طائفية أو ثمة تعليمات تستلمها تلك الأحزاب من قوى إقليمية خارجية صاحبة نفوذ قوي داخل الحكومة العراقية ومؤسساتها، ومما لا شك فيه فأن المثقف العراقي أصبح الأكثر عرضة للقتل بعد أن كان مهمشا لعقود طويلة جراء السياسات الخاطئة التي سلكتها الأنظمة العراقية المتعاقبة على حكم العراق والتي تتفاوت بدكتاتورياتها، لكن المؤلم في الأمر، ومنذ خمسة أعوام استطاعت الأحزاب الإسلامية في صراعها المرير على السلطة أن ترتكب جرائم القتل بأسماء أدبية وفنية وعلمية لها ثقلها الحقيقي والتي تمثل الوجه المشرق للعراق وتاريخه وبطريقة غاية في الانتقام وغير مألوفة لدى المجتمعات المتحضرة في العالم.
فأن تقتل شخصا لأي سبب كان، عليك أن توغل في قتله ما دام قد مات، هكذا استراتيجيات القتل الحديث داخل الشارع العراقي، فلم تكتف أيادي الغدر والجريمة التي اغتالت يوم أمس المثقف العراقي البارز كامل شياع على طريق الخط السريع داخل العاصمة بغداد أثناء عودته من عمله في وزارة الثقافة، فبعد أن أوقفوا سيارته وأمطروه بوابل من الرصاص كان قد فارق الحياة على الفور، ثم عاد احد القتلة ليفرغ رصاصات رشاشته في رأسه بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالجبن والخسة والعار والسفالة والعهر والرذيلة لهؤلاء القتلة الذين نفذوا مخططهم المسموم في القصاص من شخصية مرموقة مثل كامل شياع.
لقد تزامن مقتل شياع بعد الإعلان عن حكم الوزير السابق اسعد الهاشمي الهارب خارج العراق بالإعدام على خلفية تورطه بالتحريض على مقتل نجلي النائب مثال الآلوسي قبل عامين أو أكثر.
لعل فاجعة المثقف العراقي التي منيّ بها يوم أمس باغتيال كامل شياع لم تكن الأولى ولا الأخيرة، على الرغم من الحديث عن التطورات الأمنية السريعة التي عمت العراق بعد تدارك وخمد النعرات الطائفية المشتعلة لسنوات ما بعد سقوط النظام.
كان كامل شياع يخرج من دون حماية تذكر طيلة الفترة الماضية، عكس الوزير ووكيله الذي تسبقه أفواج من الحمايات فيما لو ذهب إلى مكان ما، لكن كامل شياع كان يرفض ذلك ويكتفي بسائقه.
الجريمة واضحة للعيان ومن هو المستفيد من قتل هذا الإنسان الرائع بكل تصرفاته، وبإمكان الحكومة العراقية القبض على القتلة ومعرفة المحرض على هذه الجريمة، إلا أن الأمر ظل ضد مجهول، مجهول الذي قتل واغتال مئات الشخصيات الثقافية والفكرية في ظل حكومة المحاصصة الطائفية.
كامل شياع الذي عاد من منفاه برغبة للعمل وتأسيس ثقافة عراقية صافية من كل الشوائب والأحقاد، كان يعرف بأن حتفه قادم لا محال على أيدي المأجورين والقتلة الذين يصدمهم المثقف المتنور صاحب الأفكار الخلاقة للجمال والحياة وسط ركام العمائم الحاملة للأحقاد والضغينة المتسترة بغطاء الدين، لقد نال الحاقدون من جسدك غدرا وجبنا يا أبا الياس لكنهم لم يتمكنوا من النيل من أفكارك ومبادئك وأخلاقك العالية، فوداعا أيها الإنسان والمثقف النبيل كامل شياع.
مرحبا كامل شياع
محمد علوان جبر
قلتها مشفوعة بابتسامة لكامل شياع، حينما جمعتني به جلسة ودية في دائرة السينما والمسرح التي كنت أعمل فيها بعقد مشرفا على صفحة سينما فيها.. يومها جلسنا في غرفة مجلة "السينما والمسرح"، تحدثنا ونحن نحتسي الشاي عن السينما... كان رحمه الله موسوعة سينمائية جميلة، حدثني عن إعجابه بالمقالات التي أكتبها عن الأفلام على صفحات المجلة وبعض الصحف كالصباح والمدى مثل فيلم العطر "لال باتشينو" وفيلم "فورست كامب" لتوم هانكس والسبورة للإيرانية سميرة مخملباف وصوت متأرجح لاندي غارسيا والكثير الكثير من الأفلام.
رشح لي بعض الأفلام المهمة، وتبرع بإيصال أقراصها لي في أقرب فرصة، يومها فرحت كثيرا اذ وجدت من يتابع ما أكتبه عن السينما وبهذا الشغف.
وحين تحدثنا عن القصة قال: أنا منهمك بقراءة بورخس، قلت له أنا منهمك بالسيدة... قال من..؟ قلت له السيدة شهرزاد.. وقبل ان يتحدث قلت له انها معلمتي الأولى.. أعجب بالعبارة.. وشد على يدي مودعا.. كان هذا في عام 2005.
جمعتني به سفرتنا في مهرجان المدى 2007.. كانت غرفته قريبة من غرفتي.. أمضينا الكثير من الأماسي الجميلة، قال أخيرا
اقتنيت طبعة دار صادر لالف ليلة وليلة بمجلداتها الستة المصورة وسماها الطبعة الملونة.. كان فرحا بذلك فرحة استغربتها.. قال يا
أخي لا أعتقد أن أحدا يمل قراءة الليالي الألف.. وهذا الأسلوب الشيق.. وقال أن بورخيس كان معجبا بشهرزاد وسحر سردها.
يومها فكرت كم هو مشغول هذا الرجل، فهو بجانب أعباء عمله كمستشار وزارة الثقافة، ووقوفه ضد أي شيء يعرقل مسيرة الثقافة الحقيقية، ساخرا من كل الطروحات الطائفية المحدودة النظرة، إضافة إلى كتابته البحوث الفلسفية والفكرية التي كان يتناول فيها الحداثة والجماليات.. منغمرا في اشتغالات كثيرة، فهو، فضلا عن كونه مفكر من الطراز الأول، فهو كذلك صحفي من الطراز الأول، إذ لم تخل كل صحف العالم المهمة من اسمه كالحياة اللندنية والوسيط ومواقف الفصلية والثقافة الجديدة وغيرها العديد، حيث سبق ان حصل على الماجستير بامتياز عن أطروحته الفلسفية (اليوتوبيا كموقف نقدي)، لم تشغله مهامه الكثيرة عن تعلم أكثر من لغة فأصدر قاموسا مهما (انكليزي ـ ايطالي ـ عربي).
الآن مضى على اغتيال المفكر التنويري كامل شياع خمسة أعوام، ولم تتوصل التحقيقات إلى القتلة، رغم أننا نعرفهم جيدا.
أيها القتلة نعرفكم جيدا.. فمن قتل كامل شياع هم من كانوا يريدون تحويل وزارة الثقافة إلى هامش مطلق (ربما نجحوا) من قتله هم من يريدون أن تتحول الثقافة إلى خطاب متشنج وطائفي معلن.. تفعيل الخطاب الثقافي التنويري من أولويات وهموم الشهيد كامل شياع.. وأخيرا نقول متى يتم الإعلان عن القتلة؟.
علاقتي بكامل شياع
حنون مجيد
غالبا ما تنشأ العلاقات الإنسانية العظيمة من خلال ومضة روحية مشتركة، وغالبا ما تتجلى في نظرة العينين، أو هذا ما قادني الى صداقة كامل شياع ذي العينين النبيلتين.
حدث ذلك مصادفة في مبنى جريدة طريق الشعب حيث كنت أعمل هناك بعد التغيير الذي أطاح بنظام صدام حسين وأدخل الأمريكان، وإن كان ذلك حصل مصادفة فلربما كانت اللحظات التي جمعتنا أول مرة هي أصدق اللحظات في صداقة قدر لها أن تنشأ أو هي في تباشيرها الصادقة والنبيلة معا، حتى وعدته تحت ضغط هذه اللحظات بان أهديه مجموعتي القصصية "لوحة فنان" التي لم يكن مضى على صدورها أكثر من سنة أو سنتين.
وإن كنت أنسى فلن أنسى تداعي كلماته وتراقص نظراته وهو يتحدث في لقاء تال عن القصة التي حملت عنوان المجموعة وإمكانية الكتابة عنها، الأمر الذي جعلني أكتشف مقدمات غير عادية لثقافة هذا الرجل المكتنز ليس بثقافة واحدة بل بثقافات.
كانت لقاءاتي به تتم في الجريدة ليلا أنا محرر الصفحة الثقافية فيها وهو العامل بمسؤولية ما في مجلة الثقافة الجديدة... ولأني كنت أقضي معظم أيامي، نهاراتي وليالي، في الجريدة أصبح متاحا لنا أن نلتقي كثيرا هناك.
كانت غرفة الثقافة الجديدة غرفة أنيقة، يشغلها في النهار صديقنا وزميلنا الودود عبد الامير الحبيب قبل ان يتوفاه الله، وكنت انتقي اللحظات المناسبة لزياراتي الليلية لكامل شياع، فإن تأخرت عليه أو ظن ذلك أرسل من يدعوني إليه، بدا يترك كامل شياع عمله على الحاسوب ليجلس الى جنبي منفتحا علي كما لو كان أخي.
كان يفيض في الحديث معي وغالبا ما كنا نتبادل الرأي في السياسة وفي متون ثقافية خاصة وعامة، وكان حميميا ودافئا وسعيدا، حتى وإن تحسه يغالب قلقا ما، بل أنك كثيرا ما تحسه كمن يمسك بالأشياء المتنافرة بأصابع مرهفة كأصابع الفنان، لم يكن يتوقع أن أصابعه ذي ستسقط أشياءه في لحظة ما لأنها حارة أكثر مما ينبغي.
صارحني بوضعه الشخصي، من ذلك حبه الشديد ولده وشغفه به وبعض رسائله إليه وعلاقاته وحبيباته في دول أوربا وحبه العراق وآماله فيه، وكلما أمعنت النظر في عينيه وجدت فيهما آمالا لا تحصى في مستقبل العراق المفتوح وإن على وعد بعيد.
حدثته عن ضرورة جمع كتاباته في كتاب فهو بهذا وليس به وحده، ذكر لي انه لا يهوى ذلك.. قال ذلك سريعا وكأنه لا يرغب الخوض في الموضوع أو لا يريد التوقف عنده، كان مشروعه الثقافي التنويري قد استحوذ على لبه فانصرف له انصرافا صوفيا انساه المتعلقات الحياتية الأخرى حتى لو كانت تتعلق بحياته هو نفسه.
اكتسب كامل شياع بشخصيته الفريدة، المسالمة والودود والمثقفة حب عدد هائل من الناس من أماكن متعددة ومن مشارب مختلفة، لم يتوقف عند هوية أو لغة أو طائفة أو مذهب ديني أو سياسي، فبفعل عظم شخصيته اكتسح كل هذا وأبقى الخالص النظيف ليتعلق به ويتحاور معه.
عرفت عددا كبيرا من شخصيات عرفته توا فأحبته واحترمته، ولم أعرف شخصا لم يحمل له المحبة والود.
يؤمن كامل شياع بالنقطة البيضاء في كل قلب، وان لها مفعولها حتى لو غمرتها الصفحات السود، لذلك أشرع جسده لهذه النقطة الصغيرة التي قد تكون نائية، غير مبال بما قد يكتنفها من سواد، بل أنه كان يشعر بأنه قادر على استدعائها من مكمنها متى أراد أو متى اقتضى الأمر، لم يشرع كامل شياع جسده للموت، فجسد جميل مثل جسده ونفس غنية مثل نفسه لا يستحقان مثل هذا المصير المبكر للفناء، ولو كان يفكر بغير ذلك لاحتمى برجال يفتدونه في الواجب وفي الحب.
لم يشأ كامل شياع أن يعترف بأن في قلب أحد ما، ولو من بين ملايين الناس، فراغا اسود لا تكمن فيه نقطة بيضاء، وأن هذا القلب المفرغ هو القلب الوحيد القادر على البطش والاغتيال، ربما كان هذا شأنه وحده بين كثير من الرجال.
كثير هو الرصاص الظالم وكثير جدا عذاب القتلة، فالدم البريء يصرخ في أعالي السماء وأعماق الأرض.... وهنا في جوف قاتل كامل شياع وفي رأسه يصرخ دم كامل شياع، ولن يكف حتى يصرعه إن لم يكن صرعه.
كامل شياع مفكرا
د. رعد احمد الزبيدي
يمثل كامل شياع نموذجا للمفكر العراقي الحقيقي في ثقافته الانسانية الرحبة التي تجمع بين أجنحتها جميع الطيف الانساني والعراقي، في تلمس النبض الحيوي للانسان القيمة والحفاظ على نبض الحياة الآمنة المنتجة المعطاء، لذلك شكل كامل شياع عنوانا فكريا في الحفاظ على وحدة المجتمع العراقي في زمن كان كل ما فيه يعمل على التفرقة والتشظي والخصام في هذا الوسط العنيف ضد الحياة والمعرفة والعلم، كان شياع يمد كل ما عنده من فكر وثقافة ومكانة ان يبث ثقافة المسامحة والمحبة والابداع من خلال قلمه وصوته وعمله ومحاضراته، وكان من المثقفين والمفكرين العراقيين الصادقين في الانتماء الى وطنه وشعبه، وخاض صراعا قويا مع قوى الظلام وجعل من تضحيته نبراسا يضيء افق الوطن ويرشد الاجيال من بعده بان الوطن يكبر بأبنائه المخلصين من الأدباء والمفكرين والمبدعين، وان الابداع هو الذي يبني الاوطان ويحمي الاجيال.
الراحل في ذاكرة المبدعين
سعدون هليل
يعد الراحل كامل شياع ظاهرة متميزة في الثقافة العراقية، وما زال يثير التساؤلات والجدل، كان الراحل صاحب مشروع تنويري مهم، لو طبق لأحدث انعطافة جادة في الفكر والثقافة العراقية، وكان نموذجا للانسان القادر على تحريك الآخر للعطاء، وهو القائل "أعلم أنني قد أكون هدفا لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثارا شخصيا مني، وأعلم أنني أخشى بغريزيتي الإنسانية لحظة الموت حتى تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها، واعلم انني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير اخواني من المرافقين لي إذ بملازمتهما لي في سكوني وحركتي يجازفان بحياتهما وحياة عائلتيهما، ويضيف الشهيد: رغم ذلك كله وبمقدار ما يتعلق الامر بمصيري الشخصي، اجد نفسي مطمئنا عادة لانني وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضا".
كامل شياع.. بقلم كامل شياع
كامل شياع
عدت إلى العراق قبل عامين، تاركا ورائي قرابة خمسة وعشرين عاما من الهجرة القسرية، تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير، عللتها لنفسي بأن فصلا من حياتي صار ماضيا ينبغي طيه فطويته، وأن فصلا آخر قد فتح إحتمالاته، على مصراعيها، أمامي فاستجبت إليه، لم أقصد أن أكون مغامرا حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيلها منذ البداية نزهة في عالم الأحلام، ولم يأخذني إليها حماس رومانتيكي، لقد شعرت فقط أنني مدعو لرحلة نحو المجهول، وفي ذلك يكمن سر انجذابي لها.
رحلة العودة وضعتني شيئا فشيئا إزاء اختيارات صعبة لم أكن أعي دلالاتها أو أقدر أبعادها، وحررتني من الارتباط بمكان محدد على حساب الزمن الخاص للتجربة الذاتية، وأوقفتني بعيدا عن الأفكار المجردة حول التاريخ العام لأكتشف تنوع التاريخ المحلي وتعقيده والتواءه، ومن يبحث... يجد!.
بجانب التجربة الفعلية والتاريخ الحي، وضعتني هذه الرحلة وجها لوجه أمام موت جارف، وشيك وعبثي، لا اعني هنا بالطبع أفكارا أو أخيلة أو هواجس تستبق حدث الموت الرهيب، بل حقائق ملموسة يمتزج فيها الموت بالحياة ويتلازمان في كل لحظة، الموت في مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحيانا، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان، ما أكثر لافتات الموت السوداء في المدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت مجالس التأبين معزيا؟ كم مرة وجدت نفسي عاجزا عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا البريئة المجهولة لي؟ كم بكيت في سري حزنا على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان؟.
بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحيانا، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيرا إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفا لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأرا شخصيا مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها، وأعلم أنني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير أخي ومرافقي الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم، رغم ذلك كله، وبمقدار ما يتعلق الأمر بمصيري الشخصي، أجد نفسي مطمئنا عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضا، وما فعلت ذلك كما يفعل أي انتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم وثوابه الموعود في العالم الآخر، فالقضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت، وهذه الحياة ينبغي ألا تكون بالضرورة آمنة شرط أن تشبع الرغبة في الوجود والفعل والانغمار.
منذ سنوات وأنا أعتقد، ربما بعد قراءة جان بودريار، أن النهاية حاصلة في الحاضر، إنها تلازمنا في كل لحظة نعيشها، وحين ندرك ذلك، لا يعد هناك ما يستحق الانتظار، غير أن تسليم النفس للنهاية... ليس استسلاما، إنه بداية السير نحو التخوم أو بينها.... هناك حيث تتقلص المسافات، وعلي أن أعترف أنني لم أكن غير مكترث بالموت دائما، فبعد إغتيال بشع لأحد الرفاق في شقته، صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق، الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده، تركني لليال عديدة عرضة لكوابيس مرعبة، أي إرادة تمكنني من إيقاف انثيالات العقل الباطن، والتشبث غير الواعي بالحياة؟.
عندما أتخيل الآن الحدود الدنيا والقصوى لهذه التجربة، أجد نفسي مسكونا بروح متقشفة... روح بالحد الأدنى تقبل الواقع كما هو، ولا تسند لنفسها سلطة معرفية كبيرة أو تسقط عليه أوهامها أو تجرفها إحتمالاته القصوى، هذا كما أعتقد ثمن الاقتراب من التاريخ كمادة حية، كحالة هشة في طور التشكل والإندثار، فلا تجربة حقيقية دون تفاصيل جزئية وملموسة... دون إزاحة أو تأجيل.
للعودة من المنفى، في حالتي، سبب عاطفي أكيد، إذ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على إستبدالها أو تعويضها، إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر، والتقاليد، الأمكنة... كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم، بعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقنا من جدواها ومعناها بوصفها حقلا للممارسة اليومية والفكرية، لكنني لم أزل أشك بأن حب الوطن من صنف الفضائل، فقد يهيم المرء حبا بوطنه، المصنوع من صور وخيالات، وهو بعيد عنه، وقد لا يقيم لنفسه علاقة إخلاقية معه وهو يعيش في داخله، وقد يخدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إلا من الوازع الإنساني، وقد يدمره آخر يتشدق بإسمه ليل نهار، ما هو ثابت في الوطن كأرض وتاريخ لا يلزم الجميع بالتماهي التام معه أو التساوق مع حركته وتحولاته، وهكذا فأن ضعف الحماس للوطن أحيانا لا يدخل في باب الرذيلة أو الخيانة.
الوطن محطة في حياة الإنسان تتفرع منها جميع المحطات الأخرى التي قد تؤدي إليها أو لا تؤدي، لكنها تحكمنا، بقوة شبه قدرية، بأن نظل متعلقين بها رمزيا حتى لو هجرناها فعليا، أن نظل مشدودين إليها بقرابة دم حتى لو أودعنا مصائرنا خارجها.
ليس في عودتي من المنفى نكوص نحو الماضي، استبدال نمط حياة "متخلف" بآخر متطور، تفضيل عالم عنيف حد الهمجية على عالم مهذب ومتحضر، وهجر السلامة والأمان لإرتياد مكان مجهول في "قلب الظلام"... ظلام التاريخ، إذا كانت هناك عودة بالنسبة لي فهي مغادرة تجربة استنفدت نفسها تدريجيا، كسر شرط حياتي غدا عاديا بغية إكتشاف ما هو غير مألوف أو مضمون، هذه الهجرة المعاكسة لا تفترض مسارات محددة، ولا ترتكز على ثنائيات ثابتة من قبيل الوطن/ المنفى، الداخل/ الخارج، الشرق/ الغرب، الهوية/ الآخر.... وهي كذلك لا تفترض حركة بشوطين واحد للذهاب وآخر للإياب كما توحي قراءة رحلة يوليسيس التي يعدها البعض الصورة النمطية للسرد، ولا تأخذ طابع علاقة مغلقة للنفي ونفي النفي والتركيب، فلرحلة النفس في الزمن مستويات عدة وتفرعات شتى، ولأنها مقبلة دائما على أفق مفتوح يمكن أن يمضي بها العد إلى أكثر من ثلاث مراحل.
عدت إلى العراق قبل عامين، لأدرك أنني بلغت غاية ما صبوت إليه: أنهاء شعوري بالسأم من الإكتفاء بعد سنوات الهجرة، من البقاء بعيدا عن وطن طالما تخيلته جميلا وأنيسا رغم جنونه وقسوته، ونزع ثوب الغربة عن نفسي لأرى الواقع كما هو عاريا من اغلفته وبريقه، النطق بلغة المقيم في الوادي لا المتطلع من أعلى التل، والتعايش بأدنى التوقعات مع مواطن البؤس والغرابة والقسوة.
عدت إليه فوجدته يمضي في متاهة تاريخية... لا يمكنها أن تكون إلا مؤقتة، وأنا أحد شهودها: أعيش تذبذباتها، أراقب تقلباتها، أتفاعل مع تفاصيلها، وأثير أسئلة حولها، وأراجع قناعات بشأنها، وأكون أحكاما عنها، أنني منغمر بتجربة غيرت حساسيتي إزاء كل ما يحيط بي، فما عادت تستوقفني كثيرا الأفكار المسبقة والمقارنات الجاهزة والرغبات التي تعظ بما ينبغي أن تكون عليه حالة الأشياء، ورغم أن الحلم السياسي الذي أسرني ظل هو هو، صرت أشعر بالقرف من كل خطاب سياسي يعمد إلى إجترار عذابات الضحية، التنكر من المسؤولية عن الماضي، إستغلال الرضوض النفسية التي تستفز الأحياء أو تخطف منهم وعيهم.
كل ما أبحث عنه وسط هذا الضجيج الزائف هو الهدوء، الصدق، ورفعة الشأن العام.
العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه، وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره، فلأنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها، كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه: أميركا العظيمة المتجبرة والسطحية، الديمقراطيات الغربية المرتبكة، الشعبويون من كل الأنواع، حاملو الشعار اليساري، اليمينيون والمحافظون، العروبيون، الأصوليون، تجار الموت، رجال الأعمال، حاملو ألوية العصبيات الخادعة.... كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني على "مستعمرة" سوء إسمها العراق.. هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة.
عدت إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص، في السياسة كما في الثقافة مشروعي مرتبط بالجماعة... فلا فعل ولا حضور دون مشاركة وتضامن.
عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف، وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن.
كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه، أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟.
مرثية النخيل.. مرثية كامل شياع
ئاشتي
يأكلُ روحي الوجعُ المتأصلُ في سعف النخل،
فأرفع كفيَّ بوجه الريح،
واصيخ ُالسمعَ لأغاني الفلاحين المسكونة بالوجع المر،
وهي تعيدُ صدى إسمك... كامل.. يا كامل،
يا حامل عنا زهو طفولة عينيك وبغض الأعداء،
ها نحن نعيد تفصيل حكاية حزن،
تتنسم فيها الكلمات المشحونة بالجمر،
رصاصات الغدر من كاتم صوت،
فتغض الطرف،
تقول رصاصات الغدر تجاوزت المليون،
ولكن الأجمل أن نمنحها الصمت،
منْ... منْ يمنحها الصمت؟،
من يجعلها تغرق في صدأ أخضر،
كامل... يا كامل.. يا آخر أسماء الحب،
تجاوزت بحبك حد الطوفان،
فما عرف السفلة... غير سفالتهم،
وأنت تنوء بحمل عراقكَ فوق الكتفين،
جرس الهاتف رنَّ طويلا،
وأنا بين الخوف وبين الشوق ترددت،
كان الرقم عراقيا،
فتمنيت على الصوت القابع خلف الهاتف،
أن يُسمعني اخبارا اخرى غير الأخبار المألوفة،
لكن َّالصوت أتاني،
خالي... اغتالوا كامل يا خالي،
لم أسأل عن يا كامل.. لأنك أنت الكامل يا ألقي،
أبعدت الهاتف عن أذني،
وبكيت بكل دموع الروح رحيلك يا كامل،
چن الليل يلتم فوگ العيون،
وچن صرخة ألم تغفه ويه الجفون،
وچن حزن البشر يلتم مسافات،
ويِخضر دمع بلبل فوگ الغصون،
وچن أنت حمامة بيت ترتاح،
عله عش بيتنه البيه ينبني الكون،
وچن جرحك نزف كل دم الاجيال،
الصعدت للسمه وما بدلت اللون،
احس كل النخل يرثيك وياي،
وأحسك نجمه تعله وفوك الظنون،
يأكلُ روحي وجع في عينيَّ امرأة،
تكلس في عينيها بحر الدمع وغامت ألوان الكون،
فما عادت تبصر غير اللون الأسود،
واللون الاسود صار دما ً،
حين رأت طلقات الكاتم تدخل صدرك صرخت وبصوت يملؤه الرعب (يمه كامل)،
ومشت متعثرة بخطاها نحو الباب،
لعل يقين الأم يخيب وتنكسر الرؤيا،
لكنّ جهاز التلفاز القابع في الصالة أكد رؤياها،
فاشتعلت في الروح بقايا رائحة شمتها في جيدك قبل قليل،
ورأت في انك أوعدتها أن تغفو الليلة بين يديها مثل رضيع،
لكنك أخلفت الموعد وخلفتها تائهة في صحراء غيابك يا كامل،
صدگ يبني العزيز الترفع الراس،
خذاك الموت مني وما تهنيت،
أحس خنجر فراگك بالگلب بات،
يبو طبع الشهامه الماتوانيت،
تمنيتك ترد من طول الغياب،
وعسن ساعة الگشرة من تمنيت،
يبو طول الحلو يمسنع اسناع،
يبو ضحكة الحلوه التارسه البيت،
شسوي بعمري من بعدك يبو أياس،
وأنه بموتك صرت صبخه وتراديت،
عسه انشلت يمينه الداس الزناد،
وگطع هرشك يالبدمك تحنيت،
يأكل روحي وجع يمتد طويلا،
من شارع في الناصرية حتى بيروجا الايطالية،
فأراك هناك إلها،
يشرب دمع الناس بكفيه ويكفيهم شر الغربة،
يا وطن الحب المتناسل من بين الكلمات أرحني من دائرة الغضب المر،
وخلني أتقرى في الوطن المحتل جراح الحزن بعيني كامل،
كي أبصر خيط دم يربط بلجيكا بزيونة،
فما عادت صورة هذا الوطن المحتل،
سوى قتل في قتل في قتل،
أتذكر حين نكون معا، أضحك وأقول سنقتل يا كامل،
تضحك وتقول ولسنا الأفضل ممن قتلوا،
دائرة القتل تضيقُ ولكن َّبزيونة يا كامل وجر ذئاب،
يا دمع العيون فيض بدم لاجل كامل
من حيث كامل صدك بكل صفه كامل
طيب وموده ووفه ولكل فرح كامل
ياريت ايد الرجس الغدرتك تنشال
وعليك ادري الجفن من الدمع تنشال
ذكراك أبدا فلا من الگلب تنشال
إنت نبي أيامنا وإنت إله الورد
وفكرك يظل يا وفي لكل نبع هو الورد
بس حيف يا صاحبي بكاتم الصوت الورد
ويضيع فيار جتلك بين گاع وسمه
انت الذي انطيت لأركان الثقافه وسمه
بيك الفكر من صدك عله وتباهه وسمه
ويدور فوگ الوطن نجمه وتشع بسنه
بفراگك العين أمست يا صديقي بسنه
انچان طبع البشر تنسه اليموت بسنه
بس انت طول العمر ما تنسي كامل
كامل شياع.. كرنفال فكر
*ولد المفكر والكاتب الراحل في بغداد، يوم 5 شباط عام 1954.
* عضو الاعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي وعضو المؤتمر الوطني الثامن للحزب.
* كاتب وباحث وناقد أدبي معروف، ويعد من أبرز المطالبين ببناء حركة ثقافية جديدة في العراق وفق روئ علمانية متفتحة بعد سقوط النظام عام 2003.
* عمل محررا في مجلة "الثقافة الجديدة".
* غادر العراق في 1979.
* أقام في الجزائر وعمل مدرسا للغة الإنكليزية.
* أقام في إيطاليا ونشر فيها قاموسا، إنكليزي – إيطالي - عربي، للمسافرين ورجال الأعمال.
* استقر في مدينة لوفان البلجيكية عام 1983.
* عمل صحافيا خلال إقامته في مدينة لوفان.
* حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة لوفان الكاثوليكية عن أطروحته "اليوتوبيا كموقف نقدي" بدرجة امتياز.
* نشر العديد من المقالات في صحف ومجلات مختلفة أبرزها: صحيفة "الحياة" اللندنية، ومجلة "الوسط" اللندنية، ومجلة "مواقف" الفصلية، وراديو "في. آر. تي" الدولي - القسم العربي - بروكسل، وقسم التلفزيون الدولي لوكالة اسوشيتد برس (أي. بي. تي. إن) - بروكسل.
* عاد إلى العراق عام 2003
* عين مستشارا في وزارة الثقافة منذ عام 2003.
* عمل مع ثلاثة وزراء تسلموا منصب وزير الثقافة وهم على التوالي: مفيد الجزائري ونوري الراوي واسعد الهاشمي.
* اغتيل في 23/ 8/ 2008، في حادث إجرامي على طريق محمد القاسم "الخط السريع"، وهو من الشوارع المأهولة والذي يربط أهم شوارع العاصمة، ولا يخلو من مرور السيارات.
* استخدم القتلة المجرمون مسدسات كاتم الصوت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريده "طريق الشعب" ص 7،6
الخميس 22/ 8/ 2013
الحزب الشيوعي العراقي
مركز الإتصالات الإعلامية ( ماتع )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ