امريكا اللاتينية ومواقف اليسار/ رشيد غويلب

مناقشة مناهج التعامل مع عمليات التحول الجارية في امريكا اللاتينية*

امريكا اللاتينية ومواقف اليسار

بقلم: آخيم فال و ديتر بوريس

ترجمة: رشيد غويلب

تعكس تعليقات وسائل الاعلام الالمانية، كم هي ممتعضة وغاضبة على نتائج انتخابات 7 تشرين الثاني في فنزويلا، ولعل التعليق الذي نشرته جريدة "فرنكفزرت الغمانية تساتنغ" (جريدة محافظة واسعة الانتشار –المترجم) خير مثال على ذلك : " ان فنزويلا شافيز هي الضمان للاكثرية في امريكا اللاتينية" وتضيف الجريدة " لكن وقته سينفذ" هل سيكونون محقون اولائك  اللذين يتمنون فنزويلا بلا شافيز؟ وهل سيكون لمرض الرئيس شافيز (توفى في الخامس من اذار الماضي)  تأثير على التطور اللاحق في فنزويلا؟

في بلد لا يشبه غيره من حيث الاستقطاب السياسي، بلد تتمتع فيه  المعارضة بدعم النخب القديمة و القوى خارجية، وذلك باستخدام كل الوسائل، بما في ذلك الهيمنة والتفوق في وسائل الإعلام الوطنية لتشويه سمعة "الثورة البوليفارية"، كما يطلق عليها في فنزويلا، على الرغم من اختيار غالبية السكان المسار الذي بدأ في السنوات الأخيرة.

ومنذ  تولي هوغو شافيز كرئيس منتخب مهام منصببه في شباط  1999، حدثت تغيرات اساسية سياسية واجتماعية، على الرغم من العديد من الصعوبات العميقة، بما في ذلك محاولات الانقلاب ومشاكل اقتصادية خطيرة، انجزت في مسار الثلاثة عشر عاما  ثلاث مهام أساسية هي:

1 – استعادة السيادة والسيطرة على الموارد الطبيعة للبلاد

 2 – انخفاض واضح لمعدلات الفقر والظلم الاجتماعي

3 – نهوض وتقدم الديمقراطية الحقيقية

عبر العديد من الخطوات ( اصلاح قطاع التعليم والصحة، برامج الاسكان، دعم الاغذية الأساسية..الخ) تم خلال نفس الفترة خفض معدل الفقر من أكثر من 50 إلى نحو 30 في المائة (أي النصف تقريبا). وتعتبر فنزويلا البلد،الذي وصلت فيه عدم المساواة في دخل في أمريكا اللاتينية حدها الادنى.

ويكرس دستور 1999 مبادئ الديمقراطية القائمة على المشاركة. ومع قانون سلطة الشعب في كانون الاول 2010 تم منح البلديات الحق في إنشاء  شركات، تدير سوية مع مجالس البلديات المدارس، المؤسسات الصحية المساكن .. الخ الواقعة ضمن حدودها الادارية.

بالنظر لوحود  الهياكل التقليدية الاقتصادية والاجتماعية والثقافة السياسية للبلد والحواجز العديدة امام عملية تحول  شامل وعميق، ما تزال هناك مشاكل كبيرة: قليل من  القيادة الديمقراطية الجماعية، والتغييرات غير كافية وغير المستدامة  في الهياكل الاقتصادية والزراعية وارتفاع معدلات الجريمة، وأشكال جديدة من الفساد والمحسوبية.

وحتى مع مرض الرئيس شافيز سوف لا تتحقق امنية المعارضين للثورة البوليفارية، بل وحتى العودة الى الاوضاع التي كانت قائمة في عام 1989 بالكاد ممكنة، اذ تم تسيس فئات واسعة من السكان في سياق العملية البوليفارية، وكذلك االامل بتشظي "الشافيزية" سيكون غير ممكنا. لقد حدثت تغييرات في القيادات في بلدان امريكا اللاتينية، فلماذا لا ينجح ذلك قي فنزويلا.

المتغيرات في امريكا اللاتينية

وبحدود ما، تمثل التطورات في فنزويلا المتغيرات التي حدثت منذ عام 1999 في أمريكا اللاتينية. ليس  في فنزويلا  فقط ، بل  أيضا في بوليفيا والإكوادور والبرازيل وأوروغواي والأرجنتين، وصلت نتيجة للانتخابات حكومات يسارية الى السلطة . وهناك  اتفاق تأكد مرارا وتكرارا أن هذه التغييرات قد تحففت بفعل نضالات حركات شعبية قوية في جميع بلدان القارة تقريبا ، كانت موجهة ضد تأثير السياسات الليبرالية الجديدة لحكوماتهم والنخب المهيمنة. وقد وضعت هيمنة هذه النخبة لأول مرة في تاريخ هذه البلدان، على الأقل في سؤال ولكن من دون كسرها نهائيا.

ومن الجدير بالذكر أن لكل بلد طريقه الاصيل في حل المشاكل الخاصة به، فالمشاكل الموجودة  في بلد مثل البرازيل تختلف على سبيل المثال، عن تلك التي موجودة  في بوليفيا. وتحققت في جميع البلدان التي مر ذكرها تقريبا نتائج هامة في مكافحة الفقر، ولا سيما الفقر المدقع. وتم تعزيز استقلالها وسيادتها الوطنية. وبرفض سياسة الليبرالية الجديدة فتح الطريق أمام المزيد من التعاون والتكامل الإقليمي. ولكن لا في  فنزويلا، ولا في البرازيل، أو في دول أخرى،  قد  تم التوصل من قبل الحكومات اليسارية الى تغييرات هيكلية  من شأنها أن تعكس  تغير ملموس في علاقات الملكية و الاساليب الاقتصادية. على الرغم من ان السياسات التي اتخذت لحد الآن من قبل حكوات الوسط – اليسار سياسات واقعية،  ذات اولويات تدريجية.

وقت التحديات والصراعات

و من الواضح أن قرارات الحكومات اليسارية المؤثرة على المدى البعيد طويل يمكن أن تزيد من إمكانية الصراع، ليس في مواجهة   القوى اليمينية المعروفة فقط، بل وجزئيا أيضا في مواجهة بعض الحركات الاجتماعية.

ان طيف ميادين الصراع المحتملة والفعلية واسع نسبيا: تطوير البنية التحتية المادية، محطات توليد الطاقة، والتوسع في التعدين والصناعات الزراعية، العمل بقوانين جديدة لوسائل الإعلام (التي تحد من المصالح  الاقتصاديةالخاصة)، المحسوبية والفساد في أشكال جديدة، الخ.

و فيما يتعلق بالتطورات طويلة الأجل، ظهرت في المنطقة  بعض المفاهيم، او العناوين مثل أن "اشتراكية القرن الحادي والعشرين " ، او Buen Vivir ( حياة أفضل) التي تنحدر  من  عالم حياة الهنود الحمر. ولكن يبدو ان هذه مبادئ توجيهية عامة واردة في دساتير بوليفيا والاكوادورن وهناك القليل بشأن الشروع بطرق ملموسة لبناء هياكل ومؤسسات المجتمع الجديد.  ولهذا ليس من المفيد او المساعد ان تقوم مجموعات يسارية في امريكا اللاتينية، واوربا، او المانيا تقييم اي مشروع للاستثمار، او للبنى التحتية على اساس المفاهيم المجردة، وربما رفضه بشكل عام. وتنطبق هذه المناقشة على الجذور التاريخية، والاوضاع الحالية  للهياكل  الاجتماعية والثقافية، التي تقييم توازن القوى وطنيا وعالميا، وكذلك واقعية البدائل الممكنة وقدرتها على الحياة.

مناقشة لبعض المشاكل

ويتناول الجدل جوانب كثيرة حول النموذج الاقتصادي الحالي والمستقبلي. و في اللحظة الراهنة، يبدو ان الملكية وحقوق الحيازة والأشكال  (المستقبلية) لمنظمات العمل تلعب دورا اقل من قضايا التوجهات الخارجية والداخلية، ويجري التركيز على ما يرتبط  بالتوجهات الخارجية، كاستغلال المواد الخام ، والخيرات الزراعية. ويبدو ان ذلك ينطبق على النقد الاستخراجات الجديدة للمواد الخام ، عندما تصاحبها عيوب اولية ضارة بالسكان والطبيعة في البلد المعني ، وليس هنلك تصورات بشأن بدائل على المدى المتوسط. ويصبح النقد مبالغ فيه، وجزئيا خطأ، عندما يدعوون ان  التنمية الاقتصادية المواتية في السنوات ال 10 الماضية، تعود كليا، او في المقام الاول لهذه العوامل وحدها.

ويبدوا تراجع فوري عن هذه الهياكل الاقتصادية التي نمت خلال عشرات السنين غير ممكن، الا اذا كان هناك استعداد بقبول كارثة انهيار المستوى المعيشي العام للسكان على المديين القصير والمتوسط. ولهذا ينبغي السعي لطرح حلول عملية ومقبولة،  في المديين القصير والمتوسط، لجميع الاطراف لعمليات استخراج "معتدلة"، وهذا ما يعترف به ايضا اشد نقاد الحكومات اليسارية.

و كما هو الحال في أية عملية للتحول يكون السؤال عن مكان والكيفية التي تتم فيها عملية التحويل والتغيير مركزيا ومثيرا للجدل: دولة الرفاه الرأسمالية باصلاحات منفردة، رأسمالية الدولة مع تدخل  اكبر للدولة، الاشتراكية، وهذا يعني تحول مجتمعي – ونظام اقتصادي كامل، مصحوبا بنظم ملكية ونظم اقتصادية مختلفة تماما.  ويجري التعامل لحد ألان مع  ازالة سلبيات الماضي، ولم  يتم الوصول بعد الى هدف ايجابي مثبت،في معظم البلدان التي تسعى للتغير ، وهو امر  غير ممكن في اللحظة الراهنة، اذا نظر بواقعية الى التطور الجاري. ان ما يتحقق هو تجاوز الفقر المتحد مع الظلم الاجتماعي، وتعزيز تدخل الدولة في العملية الاقتصادية – الاجتماعية، وفي نفس الوقت دمقرطة مؤسسات الدولة، واستعادة السيطرة على المرافق العامة، وتحقيق المشاركة، واشكال الديمقراطية المباشرة، و استعادة السيادة الوطنية وتطوير المشاريع الإقليمية لأمريكا اللاتينية.

وبهذا المعنى يحتل دور الدولة مركز الصدارة في المناقشات الجارية. فلا  موقف مناهضة الدولة المتطرف، الذي يعتبر اي شكل للدولة  جوهر للشر(والاغتراب)، ولا "تاليه الدولة" (صنمية الدولة لدى غرامشي)، الذي يمنح الدولة المركزية سلطة مطلقة تفصيلية، يمكن ان يكون مفيد وواقعي في عمليات التحول. ويمكن للحكومات التقدمية  في مثل هذه الفترات توظيف الشكل القائم للدولة في امريكا اللاتينية، مع شيء من الرقابة والاصلاح. ولكنها سوف لن تكون الدوله التقليدية، التي تتعامل مع المجتمع، والحركات الاجتماعية، باستقلالية بهذه الدرجة او تلك، بل ستكون دولة تتفاعل بشكل مكوكب بين القيادة والقاعدة، وبشكل متبادل، وفي تواصل دائم. ويؤكد الواقع السياسي اليومي، ان ليس سهلا  تنفيذ مهام "دولة في فترة التحول"، ولكن ذلك لا يغيير من الصحة المبدئية لهذا الموقف.

تعد البراغماتية من السمات السياسية السائدة للحكومات اليسارية، ولكن يبدو ان هناك غياب لتحديد الهدف الأستراتيجي المطلوب في المرحلة الجديدة، والذي يتجاوز ما تم تحقيقه، وبهذا المعنى فان هذه التطورات ستبقى الى الامام مفتوحة.

 ان الازمة العالمية، والقوى المضادة لها يخلقان وضعا من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي. كتب فالتربومار، السكرتير التنفيذي لمنتدى ساو باولو ،في محاضرة له في اذار 2012 يقول: " ان امكانيات الحكومة المنتخبة لتحقيق تحول اساسي سوف لن تكون مفتوحة الى الابد، والنافذة التي فتحت في اواخر التسعينيات لم تغلق بعد، ولكن العواصف المتوقعة يمكن ان تستطيع اغلاقها".

ان القوى المهيمنة اقتصاديا ليست في موقف دفاعي، بل تتعزز اقتصاديا، حتى في البلدان التي تحكمها قوى وسط – يسار،  وبعد 10 سنوات من الازدهار. انهم بنتظرون، او يهيئون جبهة مقاومة، ويتحينون الفرصة الافضل للعودة الى المسرح السياسي . وكل اضعاف، او صراع داخل التحالفات اليسارية القائمة هو اشارة تشجيع لهذه القوى، لتوظيف النزاع الدائر حول ما يسمى "الاستخراجية الجديد" ( طرق استخراج المواد الخام دون الضرر بالطبيعة- المترجم) والمشاركة فيه كحليف "للمحافظين الفعلين" على الطبيعة، من خلال بعض المنظمات غير الحكومية، واشكال اخرى. ان التصريحات الاخيرة لوزير الدفاع الامريكي تذكرنا، بان الولايات، لم تودع فكرة الحديقة الخلفية نهائيا: الانقلاب اليميني في الهندوراس (2010)، وفي براغواي (2012)، والتارجح اليميني في شيلي، بيرو وغيرها، يؤشر ان تقدم وتعزيز النظم اليسارية غيرمضمون بشكل نهائي.

ما العمل؟

على اليسار الناهض سياسيا ان يتناول المشاكل التي مر ذكرها، وحقول اخرى بنقاش مفتوح، وبروح تضامنية، وان يسعى للبحث عن طرق مشتركة بديلة. وعليه ان يميز بين المهام الممكنة وألآنية من جهة، والنقد التجريدي للحضارة من جهة اخرى، التي يمكن ان تحتاج سعة في التركيز في المدى البعيد. فعلى سبيل المثال يمكن ان يحتوي خطاب "حياة افضل" على العديد من العناصر المحبوبة والموفقة، ولكنها (اي العناصر) ليست بديلا عن برنامج مدروس للمجتمع المعاصر في امريكا اللاتينية. وتبدو انها تساهم قليلا في تحليل علاقات الهيمنة والتبعية. وان مجرد تكرار مبادئ "حياة افضل" مثل التكامل، والمعاملة بالمثل، والعطاء ...الخ، لا تساعد كثيرا. ويبدوا ان من واجب اليسار ايضا الانتباه الى الاضداد التي لا يمكن التوفيق في ما بينها، والتميز بين المصالح / الرؤيا الخصوصية، والمصالح المشتركة نسبيا، وتطوير الحلول الوسطية المناسبة. ان اصرارا على شبه المواقف الاصولية، يساهم بشكل غير مباشر في افشال المشروع اليساري بأكمله. وبهذا المعنى ينبغي على اليسار المحلي الخبير بشؤون امريكا اللاتينية ان يتدخل، مناقشا، وناصحا، متعلما، وفاعلا. وان تصدير قصاصات نظرية ما بعد الحداثة، لا يخدم كتيرا، في العادة، اليسار في امريكا اللاتينية، بالقدر الذي تقدمه التحليلات الجدية لواقع امريكا اللاتينية، او التي تؤدي الى تعزيزه.

ويجب استكمال التعاون الوثيق على الصعيد النظري والسياسي، بالتعاون الوثيق على الصعيد العملي. وهنا يمكن الاشارة على السبيل المثال  الى تعريف الراي العام في المانيا بسياسة الحكومات التقدمية في امريكا اللاتينية، ونقد سياسة الحكومة الالمانية، التي تعاقب حكومات امريكا اللاتينية على سياستها التنموية، و قيامها بالتدابير المطلوبة (مثل تاميم المواد الخام في بلدانها). ومن المفيد كتابة الجديد ونشره، وتوظيف الفعاليات العامة لفضح النتائج العكسية الناتجة عن   التدخل الخارجي ، او مساعدات التنمية. ويبدو ان قدرات اليسار في اوربا والمانيا، بهذا الصدد لم تستنفذ بعد.

 

* - مقالة نشرت، في 12 شباط الفائت، في موقع amerika21.de