بين السماء والأرض / بلقيس الربيعي                      

إهتز بدن الطائرة  واعلنت المضيفة عن ضرورة ربط احزمة المقاعد لأن الطائرة تمر في منطقة مطبات هوائية ….  اغمضت عينيها  وراحت تبحر في ذكرياتها . إنه عالمها الوحيد العذب الذي ادمنت على إستحضاره كلما شعرت بضيق  . الماضي الجميل معشعش في ذاكرتها ولن تنساه . راحت تتذكر ايام الدراسة في الثانوية والجامعة ، ايام زواجها  ، الأهل والأصدقاء الذين خلفتهم وراءها في بلدها ومن تشتت في بقاع الأرض مثلها . كأنها بالحنين لتلك الأيام مثل شجرة حين يجدد الربيع أوراقها ويبعثها حية زاهية .

لم تستطع احلام التخلص من افكارها وذكرياتها التي لم تزل خضراء في ذهنها  وظلًت صور  الأمس الجميل تتوالى على خطرها ، فنادت على المضيفة وطلبت منها غطاءاً لتنام .  سحبت الغطاء حتى وصل الى حنكها  واحسّت كما لو ان كتلة من الرصاص تجثم على صدرها .  لا تستطيع ان تتنفس بهدوء وبشكل اعتيادي . أغمضت عينيها ثم فتحتهما  وكأنها استيقظت من نوم عميق .تلفتت حولها فرأت الركاب يغطون في نوم عميق ومنهم من فتح المصباح فوق رأسه وبيده كتاب  . رفعت رأسها قليلا تتفحص الركاب  الذين يغطون بالنوم . حاولت أن تغمض عينيها ، فتراءى لها أنه الى جانبها  بوجهه السومري  وعينيه السوداوين … احست بدفء انفاسه … مدت يدها لتتلمسه .   " من ردت اجيسك  ، حسيت روحي وفرفحت  " تذكرت  كيف كانت تعشق النوم فوق السطح في الصيف   تراقب النجوم  وهي تتلألأ كحبات اللؤلؤ . كانت تعدها وتردد مع نفسها  : ” يحبني .. لايحبني .. يحبني .. لايحبني  .. ) وينتهي عدها ب" يحبني"

 قيل عنها أنها مسكونة بالحب  وتذكرت حوارا دار بينها وبين صديقتها سميرة حول الحب وسألتها.

ــ هل الحب ممكن في الريف كما في المدينة  ؟  انا اقصد هل تستطيع الفتاة  في الريف أن تعشق وتحب ؟

   ــ  اجل ، يا أحلام واستطيع أن أقول الحب والعشق في الريف أقوى مما هو عليه في المدينة .

في احدى المرات دعيتُ الى عرس في الريف . احتشد أهل القرية ، الرجال يرقصون الجوبي والنسوة يزغردن  واحضرت  احدى النسوة طبلا وراحت تضبط ايقاع الحياة في عروق العروس والكل  كان يغني على الفطرة :

يا خايبة وشتردين  ؟             ماردنا

ياخايبة والكرنة الج              ماردنا

ياخايبة والبصرة الج            ماردنا

ياخابية وبغداد الج              ماردنا

ــ  وهل لهذه الأهزوجة معنى ؟

ـ  نعم  لها معنى . فهي تتحدث عن رجل يحب فتاة وهي لاتحبه وانما تحب فلاحا في حقول القمح. . وهذا العاشق يتوسل الى الفتاة  أن تتزوج منه وتترك حبيبها الفلاح . فيعرض عليها أن يعطيها القرنة حيث يلتقي نهري دجلة والفرات ، لكن الفتاة لاتبيع حبيبها حتى بالبصرة . واخيرا يعرض عليها أن يمنحها بغداد كلها لتجلس على عرشها أميرة ، لكن الفتاة  مخلصة لمن تحب والهبات المادية لاتزيدها الا نفورا .

ـ  لكن مجتمع الريف يأبى على المرأة أن تحب .

ـ  لا  ، من حق الفلاحة غير المتزوجة أن تحب من تشاء ، لكن أهلها يرغمونها على الزواج ممن يختارونه هم لها .

ـ  افهم ان الغناء الشعبي الريفي كله رموز عميقة .

ـ  نعم فهذه الفتاة ترفض الزواج من رجل يعطيها البصرة وبغداد كلها . فهي ترفض هدايا

خاطبها  لأنها مجرد كلمات براقة لاصدق فيها . فهي تعشق الشجرة والخضرة والفلاح يمنحها ذلك .