
تعداد سكان في موصل أم الربيعين / نجم خطاوي
الأيام الأخيرة بنهاراتها ولياليها مرت علي وأنا سمير قنوات التلفاز وقلبي مشدود لخطوات بواسل الوطن الجنود والبيش مركه وكل الذين تناخوا لمقاومة أشرار داعش وربعهم, منتظراً على الجمر عودة الموصل ربيعية وخضراء نازعة راياتهم الكريهة السود, رايات البؤس وكبت الأنفاس, رايات التخلف والفرض وتصغير البشر واستعبادهم .
في هذه المدينة الموصل لي ذكريات لازالت منقوشة كالوشم في أعماق الذاكرة, وسط أسواقها ودرابينها وأزقتها وشواطئ دجلتها ومقاهيها ونواديها.
في آب 1976 وصلت الموصل قادماً من مدينتي الجنوبية الكوت وبعد أن قبلني كومبيوتر وزارة التعليم العراقي طالباً في كلية الادارة والاقتصاد وهي واحدة من كليات جامعة الموصل, وتقع على مقربة من معمل نسيج المدينة, وبالتحديد في وادي حجر منطقة المنصور.
في عام 1977 ويومها لم تكن أحوال البلد قد خربت تماماً, قررت الحكومة القيام بتعداد عام للسكان في كل مدن العراق وأريافه وصحاريه, وكنت حينها طالباً في المرحلة الثانية من الدراسة, واختاروني مع مجموعة من طلبة كليتنا لنكون عدادين رسميين, وصرت عداداً ومنحوني هوية عداد بعد أن واكبت الحضور في دورة تدريبية تطبيقية لأسبوعين عن تفاصيل التعداد وكيفية كتابة وترتيب وتنظيم وملأ استمارات التعداد, وغيرها من التفاصيل.
لقد غمرتني الفرحة والفخر وأنا أنهض في ذلك الصباح ومعي حزمة استمارات التعداد التجريبي الذي سبق يوم التعداد بأيام قلائل وذهبت مع زملاء لي عدادين صوب أحد الأحياء محلة(حوش الخان), واخترت أحد البيوت, وحللت ضيفاً مكرماً عند أهل الدار, وأتممت كتابة الاستمارة ودون صعوبات.
كانت فرصة طيبة للقاء بالناس والتعرف على أحوالهم وظروفهم والحديث عن أحوال الوطن ومستقبله.
اهتم الشيوعيون بموضوع التعداد وعبر توجيهات محددة لهم خاصة للعدادين من الشيوعيين وأصدقاءهم حول طمأنة الناس وإفهامهم بضرورة وأهمية الادلاء بالمعلومات الصحيحة ودون وجل أو خوف, خصوصاً وأن منظمات حزب البعث الحاكم قد أشاعت أجواء من الخوف والقلق وسط الأحياء الشعبية ومع اشاعات بأن العقاب والويل سينتظر الذين يقولون عن حقيقة مناطق ولاداتهم وأصولهم القومية والدينية, والهدف هو تكريس شوفينية البعث وحزبه العصابة.
في يوم التعداد عطلت الدوائر والمدارس وبقت الناس في بيوتها بانتظار العدادين, وكان من نصيبي تكليفي بمسؤولية عدد من الدور في ذلك الزقاق الموصلي القديم(حوش الخان) سكانه تنوع من الأرمن والأثوريين والكلدان السريان والكورد والعرب والايزيديين والتركمان.
ستمر الأيام طويلا ولكني سأظل أتذكر ما عشت, ذلك الفطور اللذيذ الذي أعدته تلك العائلة الموصلية الطيبة للعداد الشاب الذي بدى صديقاً لأهل الدار وهو يتحدث عن التعداد وضرورته وعن الناس وحقوقهم وعن العيش في سلام دون قمع ومصادرة حريات.
لم تكن تجربة العمل في التعداد السكاني بالنسبة لي كتجربة مهنية أو ضمن التطبيق الدراسي الجامعي, بقدر ما كانت فرصة للتقرب من الناس واللقاء بهم عن قرب.
لقد كتبت اجابات توثق لبشر قادمين من مدن وقصبات عقرة وبحزاني وبرطلة ودهوك والعمادية والشيخان, ولقوميات وأديان وطوائف مختلفة ومتنوعة, وبكل أمانة وصدق, وبعد التدقيق في وثائق الناس وما بحوزتهم من معلومات توثق لمناطقهم ومدنهم وأصولهم.
عامان مرا عليك يا موصلي وأنت أسيرة للغرباء واللؤماء الذين أرادوك أن تكونين أسيرة ذليلة لعقم خطابهم. لكن هذه الصفحات السود ستطوى قريباً حين ترتفع رايات الوطن وسط باب طوبك ودواستك.
وعهداً علي سأسعى لأكون عداداً في حاراتك مرة أخرى وفي أول تعداد للسكان ينتظره العراقيون أن يتم ومنذ سنوات.