تاريخ حركة الأنصار / حمودي عبد محسن

صدر عن دار الرواد اخيرا كتاب (تاريخ حركة الأنصار والكفاح المسلح للحزب الشيوعي العراقي) وهذا هو الإصدار الثالث للكاتب فيصل الفؤادي ويضم 465 صفحة من القطع الكبير وبتسعة عشرة فصلا ، كان الإصدار الأول بعنوان (مذكرات نصير) وفيه تحدث المؤلف عن ذكرياته في حركة الأنصار بقاطع بهدنان. أما الإصدار الثاني بعنوان (الحزب الشيوعي العراقي والكفاح المسلح) يتناول فيه الآراء حول مفهوم الكفاح المسلح تاريخيا داخل الحزب الشيوعي العراقي والموقف منه، كذلك القرار بصدده في ظروف عصيبة تعرض فيها الحزب للملاحقة والاضطهاد.
لكن هذا الإصدار الأخير يعد ذا ميزة خاصة ، فهو يتناول تاريخ حركة الأنصار في مجمل قواطع كردستان ، وعموم تلك المقاومة الباسلة والتحدي لأشرس دكتاتورية في تاريخ العراق الحديث ، مقاومة ابتدأها الشيوعيون في عام 1978 ليواصلوا نضالهم العنيد في حقبة جديدة أرخت بطولاتهم ومجدهم ، وهم يتحملون شدة البرد القارص بملابس خفيفة وأحذية بسيطة مزقتها صخور الجبال الشاهقة حتى أن الكثير منهم كانت أقدامهم تسيل دما وهم يواصلون مسيرة كفاحية طويلة اختطوها لأنفسهم بإرادتهم الحرة النبيلة ، وقد مرت عليهم أيام تضوروا فيها جوعا أو اكتفوا بقطعة رغيف ليسدوا رمق جوعهم ، هؤلاء الشيوعيون البواسل صنعوا معجزة ستنصفها الأجيال القادمة لأن الوقت لم يحن بعد في التوقف عند مراجعة نضال الشيوعيين العراقيين ضد عنف وهمجية الدكتاتورية المقبورة ، لأن ظروف البلد غير مستقرة الآن وتعمها الفوضى السياسية التي يخشى الوطني النصير أن تنزلق البلاد إلى حرب أهلية حينئذ ستكون الهاوية المظلمة ، وسيكون المصير مجهولاً ، إذن الأجيال القادمة التي ستأخذ مبادرة بناء وطن حر بعد أن تكون قد تخلصت من تركة الماضي وتبلورت عندها أن المواطنة حق ومسؤولية الجميع دون تميز للانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، فالكل متساوون أمام الحقوق والواجبات، وهذا لا يتم إلا بالتخلص من ديناصورات كهنوتية سياسية لا تفقه في إدارة البلاد إلا بالسيف والدماء ونهب موارد الشعب ممتدة في عقليتها السياسية إلى عهود الاستبداد ، لم يكن النصير يتوخى سقوط الدكتاتورية بأيدي إمبريالية ، ولم يكن يتوخى أن تحكم البلاد فئة المحاصصة التي ينخر فيها الفساد ، والتي تسييس الدين ليكون أيديولوجية سلطة وتفجيرات سيارات تطحن أرواح المواطنين الأبرياء ، نعم الأجيال القادمة ستنصف هؤلاء الأنصار الذين تحملوا ظروفاً طبيعية قاسية وأجسادهم تسترخي تحت شجرة بلوط أو في كهف أظلم أو بين جدران أطلال قرى هدمتها قنابل الدكتاتور ، كل ذلك من أجل أن تغمض عينا النصير الشيوعي بعد مسيرة طويلة استغرقت عدة أيام بغية أن يخلد إلى النوم ولو بضع ساعات . هذا النصير الذي خط أجمل الكلمات بدمه على الصخور وهو يردد : وداعا أيتها الأرض التي أحببتك ! مثلما ورد في مقدمة الكتاب التي صيغت فيه الكلمات عن الشهيد الشيوعي أشبه بلغة شعر ، لهذا نقتبس منه هذه الكلمات : ( فدماء الشهيد العربي والكردي والكلدو ـ آشوري والتركماني والأرمني والأيزيدي والمندائي سالت في أرض كردستان في سبيل التخلص من همجية الدكتاتورية ). فحركة الأنصار التي قدمت ألفاً ومائة وخمسين شهيدا قد جمعت كل أطياف وفئات الشعب العراقي التي حضت بالاحترام والتقدير لتآلفها مع أسلوب النضال المسلح الذي كان شكل منظم في إدارته وطريقة أدائه ضد عدو شرس يتفوق عليه بالعدة والعدد ، وقد ابتكر الأنصار أساليب مختلفة في مواجهة الدكتاتورية سواء في الكمين النهاري لأرتاله العسكرية أو اقتحام مواقعه في غروب الشمس أو التسلل إلى المدن والقصبات لمعاقبة رجال أجهزته القمعية . كل هذه الأساليب المبتكرة الناجحة التي تتلاءم مع الطبيعة الجغرافية لكردستان نجد الكاتب فيصل الفؤادي يخوض بها ، ويفصلها على دقتها ، ويسهب في التفاصيل بغية أن يدرك القارئ ماهية طبيعة حركة الأنصار ودورهم في إلحاق الأذى بمؤسسة عسكرية لا تعرف الرحمة ، ولا تتوانى في استخدام السلاح الكيمياوي ضد أبناء شعبه الذي أول ما جربه النظام المقبور على قاعدة بهدنان والذي تعرض فيها إلى أكثر من مئة وخمسين نصيراً إلى الجروح والأذى واستشهد فيها رفيقان ، ثم يعرج الكاتب على حلبجة البريئة الوديعة الساكنة بين الجبال لتكون ضحية السلاح الكيماوي من أطفال ونساء وشيوخ ، وليستيقظ العالم على موت مفاجئ بتلك الغازات السامة التي رشت على مدينة حلبجة المسالمة الصافية أرواح أهلها مثل صفاء ينابيع مياهها . ذلك كان فزع التاريخ كما يصوره الكاتب دون أن تتحرك الأمم المتحدة أو الدول الحضارية لتوقف هذا الإجرام البشع ، فراح الدكتاتور يواصل استخدام سلاحه الكيماوي ضد القرى الآمنة البعيدة عن جيوشه الجرارة المتوحشة دون رادع من أحد بينما الأنصار الشيوعيون يواصلون نضالهم العنيد ويصنعون بطولات لا مثيل لها ، ويكون هناك دور بارز في ظل هذه الأجواء القاسية للنصيرة الشيوعية الباسلة وقد تركت كل شيء من أجل أن تكون جنبا إلى جنب مع رفيقها النصير ، وتصنع ملحمتها الخاصة في التفاني والتضحية من حيث المساهمة بالمعارك أو قضايا الطب ومعالجة الجرحى، أو في التوعية الجماهيرية أو في إدارة شؤون المقرات التي كانت أشبه بقاعدة انطلاق إلى العمق حتى الوصول إلى مشارف مراكز المحافظات أو التسلل إلى داخل المدن ومنها المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط والعاصمة بغداد لتأدية المهمات الخاصة ، وقد استشهد العديد منهن في تأدية تلك المهام الخطرة ، ومنهن من تعرضن إلى الإرهاب والتعذيب والبطش من قبل الأجهزة القمعية.
ويتعرض الكاتب فيصل الفؤادي الى طبيعة الدعم الذي قدمته حركة الأنصار إلى المنظمات المدنية السرية ليتلاحم نضالها مع الأنصار التي لعبت الدور الحاسم في مظاهرة أربيل 6 آذار عام 1991 ، ولتبدأ انتفاضة آذار التي تفجرت بداياتها في رانية والسليمانية وأربيل ، وحررت حينها كركوك من الطغمة الدكتاتورية ، ولتفتح أبواب انهيار الجبروت العسكري للنظام المقبور ، وليدخل العراق في مرحلة نضالية جديدة كان للشيوعيين مساهماتهم الفعالة .
وهنا بودي أن أشير أن الكاتب لم يتجاوز تلك الجريمة التي ارتكبت ضد الأنصار في بشتاشان لمراعاة ظروف معينة بل تطرق إليها برؤية نقدية في مراجعة التاريخ وهو يتذكر رفاقه الذين أحبهم وهم يواجهون رصاص الغدر من قبل الاتحاد الوطني لكنني أتساءل : ألم يحن الوقت الآن كي يقدم مرتكبو تلك الجريمة الاعتذار لعوائل الشهداء ورفاقهم الأنصار، خاصة وأن مرتكبيها يدعون الى التغيير والديمقراطية ، وقد مرت عليها ثلاثة عقود ؟!
هذا الكتاب الذي كتب بجهد كبير عن واقعية حركة الأنصار ليس كتابا نظريا بل لمعاصر ومشاهد عيان ومساهم منذ بداية الحركة يعطي مدلوله الغني الكثيف بتفاصيله وفصوله التسعة عشرة يعتبر من الكتب المهمة ليس فقط للمكتبة العراقية أو تلك الحركات التي خاضت غمار حروب التحرير من الدكتاتوريات والفاشيات بل وللقارئ مهما كان انتماؤه لأنه سوف يدرك كم هي الكلمة الحرة جميلة ! وكم تعرض النصير الشيوعي الى المعاناة ، وهو يرفع سلاح التحرر من الدكتاتورية ! وكم يؤلمنا أن لا يكون الأنصار الأحبة بيننا ونحن نتسلل إلى شيخوختنا ، وقد فارقونا باستشهادهم البطولي !
وها هي ذكرى الشهيد الشيوعي ، فلك أيها الشهيد الشيوعي تحية إجلال ، فأنت صنعت معجزة بطولية في التاريخ ، وملحمة نضال سيتذكرها كل من تعز عليه كلمة حرية ، وكلمة التحرر من سلطة الاستبداد .
سلاما على روحك الطاهرة البهية ، فألف سلام لخلودك البهي !
في نهاية هذه المقالة أشد على يدك أيها النصير الشيوعي فيصل الفؤادي أن تواصل الكتابة عن مفخرة الشعب العراقي ببطولات أبنائه الأمجاد الأنصار الذين صنعوا ملاحم نضالية مع إخوتهم البيشمركة في مقاومة الظلم والاستبداد ، وليضيفوا إلى تاريخ الحركة الوطنية قصيدة حب إلى وطنهم وهم يناضلون من أجل وطن حر وشعب سعيد.