عودة مظاهر الاستبداد / صادق الازرقي

 من الايجابيات الرئيسة التي انبثقت عن الوضع العراقي الجديد، الذي تمخض عن اسقاط النظام المباد، بوساطة القوات الامريكية؛ هو اجواء الحرية التي تمتع بها الناس بعد عقود من سيادة الرأي الواحد والحزب الواحد.

 و طيلة السنوات العشر منذ التغيير في نيسان 2003 كان عامل الحرية و الشعور بالكرامة الانسانية يعتمل في صدور الناس، وهم غير مستعدين للتخلي عنه بأي صورة؛ لأنه اساس الوجود البشري، اذ بلا حرية يتحول المجتمع البشري الى مجتمع حيواني غير منتج.

 نقول، كانت الحرية ابرز منجزات الوضع الجديد، فالحالة الاقتصادية مثلا برغم تحسنها النسبي، وزيادة القدرة الشرائية لدى الناس بعد سنوات طويلة من الحرمان، فان البناء الاقتصادي في البلد ظل مشلولا؛ ماتت الزراعة والصناعة وعم الفساد في دوائر الحكومة وتواصلت اعمال القتل والموت.

 وبالعودة الى المكسب الكبير الذي تمخض عن التغيير اي الحرية؛ فان هناك محاولات محمومة تجري الآن لإخماد الشعور بالانعتاق لدى السكان، وجعلهم يرسفون في خوف مستديم، حتى من مجرد قول رأيهم في اي شأن من شؤون الحياة، و تحاول تنظيمات متطرفة لاسيما الدينية منها بشتى الوسائل فرض آرائها على الشارع؛ اما من يقول رأيا يراه بعض افراد تلك التنظيمات غير متوافق مع نزوعها؛ انطلاقا من ممارسة حريته التي غيبتها الانظمة السابقة وتسببت في خراب البلد؛ فانه يتعرض الى تهديدات كبيرة، ويبيت قلقا على مصيره و مصير اسرته و مستقبله.

 ان ما جرى لصحيفة "الصباح الجديد" انموذج على فوضى الحياة السياسية والامنية في البلد، و بغض النظر عن الموقف من الرسم "البورتريتي" الذي تضمنه الملحق الاسبوعي لجريدة الصباح  الجديد، الذي ادى الى مهاجمة مقرها من قبل مسلحين، واستهدافه بالعبوات الناسفة، واغلاق الصحيفة وقطع ارزاق عشرات المنتسبين، الذين اضطروا الى الجلوس في بيوتهم او مغادرتها خشية على حياتهم؛ فاننا نجزم، ان الرأي يجب الا يواجه بالتهديد والتفجيرات، اذ كان الأولى بمن وجد ان الرسم يسيء الى رموزه، ان يرفع القضية بوسائل قانونية الى الجهات المختصة ومنها محاكم النشر، لعرض ظلامته وإحقاق الحق.

  اننا اذ نحذر من ان يلجأ افراد المجتمع الى اخذ زمام الامر بأيديهم لتطبيق وجهات نظرهم، فلنا ان نتذكر ما قاله المفكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد " ونصه "أنّ صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد.."

 وهكذا فان النظام الذي يأتي عن طريق الانتخاب، لا يعصم الناس من عودة الاستبداد والدكتاتورية، كما لا تنتفي صفة الاستبداد عن السلطة المنتخبة اذا كان الحاكم لا يتمتع بالمسؤولية المطلوبة؛ بل رأينا الكواكبي يحذر من ان الاستبداد يكون في الحكومات المنتخبة اخطر، لأن هناك توافقا بشأنه من قبل المجموعات المنتخبة، فيستطيع اي كان من الذين يحسبون انفسهم او يتهيأ لهم انهم محسوبون على الزعماء السياسيين والدينيين المنتخبين؛ ان يحاول فرض مشيئته على الناس وعلى الشارع بذريعة انه منتخب .

 ان اللجوء الى الاجتهادات الشخصية في معالجة المشكلات العراقية، اوقع البلد في مأزق خطير، ليس من السهل الفكاك منه، وتسبب في اهدار دماء الوف، وقبل ذلك في ظل النظام الدكتاتوري السابق ملايين الناس، بافتعال الحروب وكذلك فتاوى التكفير وكره الآخر والسعي للقضاء عليه ، وبالنتيجة ولوج العراق الى مستقبل مجهول، كما ان تدخل دول الجوار في الشأن العراقي ومحاولة فرض سياساتها على مجريات الامور في البلد تسبب في ادامة دولاب الدم العراقي، لأن دول الجوار تسعى لإبقاء العراق جريحا مدمى؛ حفاظا على مصالح بلدانها، ولن يعنيها من امر الشعب العراقي شيئا. 

 ان لنا ملاحظة رئيسة بشأن ما جرى لصحيفة الصباح الجديد تتعلق بأمن الناس والمجتمع وحرياتهم، وكما قلنا بصرف النظر عن الموقف من الرسم "البورتيريت" فانه كان على القوى الامنية ان توفر الامن لمقر الصحيفة حتى يتم البت في الخلاف القائم مع افراد يرون انهم ظلموا بنشر البورتريت؛ كما ان على قوى الامن انطلاقا من مسؤوليتها في حفظ سلامة الناس والمؤسسات، ان تتصرف بمهنية وان تحافظ على مسافة واحدة من جميع الاطراف، لذا فان اداءها تعرض للانتقاد كونها وفرت الحماية للتظاهرة المنددة بصحيفة الصباح الجديد، ولم تطلب من منظميها اجازة مثلما فعلت في مرات سابقة في تظاهرات؛ كانت مطالبها وشعاراتها اقل حدة مما جرى في التظاهرة ضد الصباح الجديد.

 وبصراحة فان العراق يتعرض الى مخاطر نكوص حقيقي نحو فرض المواقف و الآراء على الناس والتفريط بقيم الحرية، التي لن يستطيع المجتمع ان ينظم حياته من دونها؛ و ان الناظم الوحيد لتلك الحرية هو قوة القانون وليست قوة السلاح، وان الحرص على الديمقراطية وتكريس مفهوم وممارسة الحرية بحاجة الى قوة القانون والدولة وذلك يجري في جميع الدول المتحضرة، والا لكانت الفوضى.

 اما  محاولة كل مجموعة لتنفيذ ما ترتئيه بالقوة فانه سيدخل المجتمع في مرحلة جديدة من الاحتراب، نحن في غنى عنها، بل نحن احوج ما نكون الى رص الصفوف، والتخطيط للولوج الى هذا العالم، الذي اختصر لنا بمنجزاته العلمية المسافات، وان نركن لغة القوة والعبوة الناسفة والتفجير جانبا؛ وندخل مسيرة البناء والرخاء والتقدم، فشعبنا لم يزل متعطشا لكل ما يربطه بمنجزات الحضارة ويجلو انسانيته، التي اخفاها الحقد والكراهية والغاء الآخر؛ التي ورثناها عن عقود من الاستبداد، فلن نريد بالتأكيد ان نعيش وضعا استبداديا آخر.