اضطراب السياسة العراقية و تواصل الأمل بالتغيير/  صادق الازرقي  

يذكر المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "السنن النفسية لتطور الامم" في معرض تفسيره لمظاهر عدم الاستقرار في المجتمعات البشرية ما نصه انه "اذا حدث ان مقتضيات الحضارة حفزت اناسا الى اقصى الغنى، وما يوجبه الغنى من المعايب حتما، وانها اوجدت في اناس آخرين احتياجات عظيمة، من غير ان تجعل لهم وسائل لقضائها؛ فان الذي ينجم عن هذا هو استياء وقلق عام  يثيران انقلابات من كل نوع".

ويشير الى التحول الذي جرى في الولايات المتحدة الاميركية، من الحرب الاهلية الى بناء مجتمع جديد؛ كحل لمعضلة الانقسام المجتمعي "ومن هذا القبيل ما كان من تمزق انجليز الولايات المتحدة في حربهم الاهلية وابدائهم في ذلك من العناد والنشاط العظيم مثلما يبدونه اليوم في تشييد المدن والجامعات والمصانع، فخلق اولئك لم يتغير في ذلك وانما الذي تغير هو الموضوعات التي طبق عليها ذلك الخلق".

لا نريد ان نسترسل في اقول "لوبون" او نوضح ما تعنيه كلماته، اذ انها تفسر نفسها بنفسها، وتعني فيما تعنيه، ان المجتمع هو الذي يعين وجهته سلبا ام ايجابا، و ان الخروج من عوامل الاحتراب والفوضى والقتل، يحدده سعينا للتغلب عليها؛ وانشاء موضوعات جديدة بدلا منها فيتجه الانسان المحارب، الذي حرم من متطلبات الحياة وضروراتها الى تلبيتها، والسعي الى الاستقرار؛ و يتوجه  المجتمع بمجمله، الى انشاء متطلبات عمل ينتفع به الانسان، ويسعى من خلاله الى تحقيق رفاهه الشخصي والاسري، بالشكل الذي يمنع تكون جهات طفيلية غنية على حساب عامة الناس، الذين لا يستطيعون تلبية حاجاتهم فيفكرون بدلا من ذلك بالثورة والعنف المسلح، ويستمرئ  كثيرون الفوضى وعدم الاستقرار.

ومثل هذا حدث لنا في العراق، اذ ان ساستنا لم ينتفعوا من الاطلاع الذي يفترض انهم حظوا به في  بلدان الغرب، التي سبقتنا في مراحل التحضر بعد ان عانت ما عانت؛ فاشغلوا انفسهم ـ اي سياسيينا ـ بالبحث عن المغانم الشخصية حتى انهم ما عادوا يشعرون بالشبع والاكتفاء في ذلك، وجرب معظمهم جميع صنوف الفساد والافساد، لتحقيق بغيتهم في الوقت الذي تكاثرت افواج الفقراء ومن لم يستطيعوا توفير لقمة عيشهم الا بشق الانفس؛ فحدث الانقسام الكبير في المجتمع، رفد ذلك سعي السياسيين الى اذكاء الانقسام الطائفي والاثني، ما الغى المشتركات الانسانية؛ وانتج وضعا عقيما جامدا ضاعت وتضيع فيه القيم البشرية السليمة وينعدم فيه الشعور المشترك بالمواطنة، وتلك الامور وغيرها حققتها مجتمعات اخرى سبقتنا في ذلك بعشرات، بل مئات السنين؛ فلم نستفد من الدروس المستخلصة ووقعنا في المشكلات والكوارث ولم نزل.

 وعودة على لوبون فانه يقول في جانب آخر من كتابه وبما يدعم حجته وحجتنا "ان اكثر الناس دعة اذا ما عضه الجوع بلغ من القسوة ما يدفعه الى اقتراف جميع الجرائم حتى الى افتراس نظيره في بعض الاحيان"، ولأنه يربط التطور السليم بالقرار السليم، فانه لا يضع الامية وعدم التعلم مانعا في وجه التغيير وبناء انسان جديد، فيقول "ليس من القليل ان تجد اناسا حاملين لشهادات كثيرة مع كبير الغباوة على حين تبصر افرادا كثيرين قليلي التعليم رفيعي الذكاء".

لقد تخاذلت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003 عن الاضطلاع بمسؤولياتها في احداث التغيير المنشود، والتمهيد لمجتمع جديد على انقاض المجتمع المخرب منذ عقود، فانشغلوا بصراعاتهم السياسية؛ ولم ينشئوا موضوعات جديدة ، يتفاعل معها خلق الناس لبلورة اوضاع نفسية سليمة، تمهد الطريق لإنشاء مجتمع الوفرة والعدالة، الذي سيقفز بنا سريعا الى مصاف الرفاه والتحضر.

لم يلتفت السياسيون والمسؤولون الحكوميون، الذين توالوا على المؤسسات الحكومية الى القوة الكامنة لدى ملايين الشباب، التي سنحت الفرصة لتوفيرها بعد الغاء التجنيد الاجباري بعد 2003، فلم يسارعوا الى اقامة المؤسسات المطلوبة لاستثمارها، لاسيما في المصانع وفي مجال الزراعة؛ لم يبنوا مؤسسة صناعية واحدة لا فتة، حتى في المناطق التي تشهد استقرارا امنيا ملحوظا، ومنها السماوة والديوانية والناصرية، وحتى البصرة، وكثير من المحافظات والمناطق الاخرى، و ألجأوا الشباب كرة اخرى الى محاولة ولوج المؤسسة العسكرية؛ بعد ان ضاقت بهم سبل العيش فاضطروا الى الانتساب "تطوعا" هذه المرة الى سلكي الشرطة والجيش، من اجل اعالة عائلاتهم، لينشأ بذلك نمط استهلاكي بغيض؛ ما الغى شرطا مهما لتغيير الحياة وتثبيت نمط اخلاقيات جديدة ايجابية.

لم يشعر المسؤولون بضرورة احداث الوشائج بين افواج الشباب ومتطلبات العمل والقفزات العلمية الجديدة، التي سهلت كثيرا من امور انتاج السلعة والغت حلقات ومفاصل الانتاج غير الضرورية والزائدة، وقللت بذلك من كلف الانتاج، واخفقنا في استغلال ميزات الثورة العلمية، واحداث النقلة الحاسمة المطلوبة في مجتمعنا؛ والسبب الرئيس في الإخفاق برأيي، ان السياسيين لم يكونوا ـ ولازالوا ـ معنيين بحل اشكالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، بقدر ما يحرصون على استغلال السنوات الاربع التي يؤمنها لهم وجودهم في المؤسستين التشريعية والتنفيذية، لتطوير اوضاعهم الشخصية، اما بعد الفراغ من تلك السنوات فليكن ما يكون، وفي الحقيقة فانهم بذلك التصرف غير معنيين ان يتصرفوا كسياسيين مثلما عرضوا انفسهم؛ وكل ذلك خلاف لمنطق العقل الذي يوجب انتاج متطلبات الحياة السليمة، وصياغة موضوعات واخلاق مجتمع مغاير نشعر فيه بالتفاؤل والاطمئنان على يومنا ومستقبلنا.

لم تك ما تعرف بالسياسة معنية بذاتها ولذاتها، فلقد اتفق معرفو مصطلح "السياسة" على ان احد التعريفات الرئيسة لها، هي "القيام على الشيء بما يصلحه"، وبالنتيجة فان عدم اصلاح الاشياء التي يشرف عليها السياسيون يعني بالضرورة انتفاء المغزى منها فتكف السياسة عن ان تكون وسيلة للإصلاح.

ليس من المنطق ومن المعقول ان نبدأ من الصفر في كل مرة، فنقول ان ما حدث لنا في سابق الايام كان خاطئا، وان علينا ان نشرع الآن بإصلاحه، ثم نعاود ارتكاب اخطاء جديدة ينتج عنها تضحيات وخسائر جسام لا تعوض؛ الواجب يستدعي منا ان نمحص قضايا البلد الرئيسة منذ الشروع في العمل السياسي، و لا ضير بعد ذلك ان ننقيها من الشوائب في كل مرة نشعر ان اضطرابا ما قد حاق بها.

واخيرا، وكي لا يكون كلامنا عموميا، نود ان نشير الى ان الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها في اقل من ثلاثين يوما، عليها ان تضع منذ البداية حلا لإشكالية العلاقة بين هذا التدهور المجتمعي الحاصل، وبين سعي العراقيين الى الاطمئنان على اوضاعهم في ظل حياة هادئة مسالمة رخية، وبخلاف ذلك سنظل ندور في دوامة الحلقة المفرغة من الضياع والخراب والهلاك.