الحاج عبد السلام / كريم حيدر                                 

في منطقة التواهي في عدن وتحديدا في عمارة بيكاجي قهوجي (بيكاجي قهوجي هو تاجر هندي تم تاميم ممتلكاته بعد قيام الثورة في اليمن الجنوبي  30 نوفمبر 1967 فهرب بجلده الى الهند تاركا وراءه كل ثروته) , في تلك العمارة التي هي بالاساس كانت فندقا تم تحويله الى سكن وذلك بسبب نقص المساكن ,كنت اسكن في غرفة مع زميلين اخرين .

كان يسكن قبالنا استاذ مصري مسن يدعى عبد السلام المصري ( او الوالد عبد السلام كما كان يسميه اليمنيون ) مع زوجته الحاجة التي لم يكن لديها اسما تنعت به سوى الحجة او الوالدة. كان الاستاذ الحاج عبد السلام المصري يعمل مدرسا للغة العربية في احدى المدارس النائية الواقعة خارج عدن وتبعد عنها اكثر من ساعة, لذا كان على الحاج عبد السلام الخروج من المنزل مع ساعات الصباح الاولى لكي يصل مدرسته في الوقت المحدد .

بعد ان تعارفت بالحاج الوالد الاستاذ عبد السلام المصري سألته عن سبب قبوله بتلك المدرسة النائية وعدم بذله الجهود لتحويله الى مدرسة داخل مدينة عدن حتى تنتهي معاناته اليومية ,أجابني الحاج من ان عقده مع وزارة التربية " عقد كويتي " كما ان مدينة عدن تعج بمدرسي اللغة العربية لذا كان عليه القبول والسكوت ( كان الاساتذة من اصحاب العقد الكويتي يتقاضون اكثر من ضعف ما كنا نتقاضاه نحن اصحاب العقد المحلي كما انهم كانوا يتقاضون 13 راتبا شهريا في السنة اضافة الى تذكرة سفر لشخصين ذهابا وايابا الى اية نقطة في العالم , كل هذه التكاليف كانت تدفعه الحكومة الكويتية كدعم منها للشعب اليمني).

كانت الحاجة زوجة الحاج عبد السلام في حالة صحية سيئة , حيث كانت تعاني من تقدم العمر, السمنة, القلب, الضغط, السكري , الربو وامراض اخرى وكانت الحاجة لاتقوي على المشي بسبب انتفاخ ارجلها وصعوبة التنفس . كانت لاتفارق العمارة الا في حالتين , اولهما لغرض السفر الى مصر والثانية للذهاب للدكتور . اما التسوق وما شابهه فكان جزء صغير منه يقوم به الحاج والجزء الاكبر ابتلينا به نحن.

كانت الحجة دائمة الطرق على بابنا وتسأل ... معليش الحج لسه مرجعش من الدوام ... ملائيش عندكو بصلة , ملائيش عندكو رز , ملائيش عندكو سمنة , ملائيش عندكو طحين , ملائيش عندكو ثوم , ملائيش عندكو خبز واما الباقي " معليش اتعبك معايا وتجيبلي لحمة, معليش اتعبك معايا وتجيبلي فرخة , معليش اتعبك معايا وتجيبلي سمك " .... وهكذا دواليك . كانت الحاجة الوالدة تتذكر شراء اللحمة والفراخ والسمك ولكن بقية الامور المكملة للطبخ كنا نحن من نورده لها وعلى نفقتنا الخاصة ( عبالك فاتحين دكان ) .

كانت الحجة تتبجح وتردد على مسامعنا من انها طبخت للحج عبد السلام ملوخية بالفراخ اكل اصابعه وراها ولكن للاسف لم نذق يوما ملوخية الحجة ولا صوابع الحاج , بالرغم من ان في كل طبخة كانت تطبخها كانت نصف محتوياتها او اكثر من لحم اكتافنا.

عندما كانت الحاجة تسافر الى مصر او تذهب للدكتور كان علينا ان نحملها طابقين الى اسفل باب العمارة او الصعود بها طابقين , حيث كانت هذه من اشق المراحل كما انها كانت تمشي بصعوبة كالبطريق وذلك بسبب ثقل ارجلها وصعوبة التنفس والخفقان الذي كانت تعاني منه.

كان الحاج عبد السلام وزوجته كثيري الكلام عن اولادهم الاربع ( انا ابني محمد دكتور أد الدنيا وابني احمد مهندس أد الدنيا وبنتي خديجة استاذة أد الدنيا وبنتي عيشة (عائشة) محامية أد الدنيا.

بعد مضي اربع سنوات على وجودنا في اليمن استطعنا انا وزملائي ان نجمع مبلغا قدره 100 دينار يمني ( حوالي 350 دولار امريكي ) وبشق الانفس وذلك من اجل شراء مكيف " اركندشن " مستعمل للتخفيف من الحر القاتل لليمن , وبينما كنا نقوم بتنظيف المكيف من اجل نصبه وتشغيله اطل علينا الحاج عبد السلام مباركا لنا شراء المكيف . بادرته بالسؤال عن سبب عدم شراءه هو الاخر مكيف خاصة وان الحجة مريضة طوال الوقت فاجابني " أنا جاي اكيف ؟ انا جاي ألم أرشين ( قرشين ) واروح " حينها كان قد مضى على وجود  الحاج عبد السلام في اليمن قرابة العشر سنوات براتب عقد كويتي ولم يفلح المسكين في لم الارشين بعد.

في احد المرات وفي نهاية السنة الدراسية لعام 1987 طلب منا الحاج عبد السلام مني ومن زملائي المدرسين الاخرين ( انا مدرس رياضيات والاخران احياء وكيمياء ) ان نساعده في تصحيح دفاتر الامتحان ( المتلتلة ) لديه وذلك بسبب تأخره كثيرا عن تسليم النتائج النهائية الى ادارة المدرسة ,كما انه كان يشعر بالتعب والمرض وان الحجة هي الاخرى كانت مريضة كعادتها .

اخبرنا الحاج عبد السلام بعدم امكانية مساعدته لسبب بسيط كوننا مدرسين لمواد علمية ومن ان المادة ليست ضمن نطاق تخصصنا علاوة على اننا لم نكن نفقه كثيرا في اللغة العربية وقواعدها ولهذا اعتذرنا له . الحاج عبد السلام الح في طلبه متحججا بمرضه وامكانية فقدان عمله وبالتالي خراب بيته ان لم نساعده , لذا طلب منا الاشفاق عليه وتقدير ظروفه وعمره الكبير ( كان الحاج عبد السلام يبلغ من العمر 70 عاما ).

طلب منا في البداية ان نصحح حسب ضمائرنا ولكننا رفضنا واقترحنا عليه تصحيح بعض الدفاتر النموذجية كي نعتبرها كمراجع لنا اثناء التصحيح وهذا ما تم فعلا حيث زودنا الحاج ببعض منها.

شرعنا في تصحيح الدفاتر ولكننا تفاجأنا بوجود ظاهرة بين جميع اجابات طلاب الحاج من انهم يبتدأون الامتحان بكتابة عبارات التحية والسلام والتعظيم للاستاذ عبد السلام مظافا لها الادعية والايات القرانية لاجاباتهم وهي من الامور التي ليست لها اية علاقة بالامتحان.

من العبارات التي كان يستخدمها الطلاب هي:

" الوالد الحاج الاستاذ عبد السلام, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته راجيا يا سيادة الوالد ان تنظر بعين الرحمة والشفقة الى ورقة الامتحان وان ينصرك الله على اعدائك وان يعطيك الصحة والعافية وطول العمر ... يا افضل استاذ في الدنيا ويا والدنا ... بارك الله فيك دنيا وآخرة وانشاء الله يكون مكانك في الجنة مع الصحابة والمرسلين ... الخ من هذه الخزعبلات" .

كان الحاج " يتختخ "  ويتلذذ بعبارات المديح الطنانة وكان يمنح طلابه علامات مجانية مجزية جراء ذلك وعلى قدر المديح له وليس على قدر فهمهم والمامهم بالمادة واجاباتهم على الاسئلة.

مالم يحسب الطلبة حسابه هذه المرة هو ان دفاترهم الامتحانية وقعت في ايادي اخرى غير ايادي والدهم الحاج ومن ان مجموعة المدرسين الذين سيقومون  بتصحيح دفاترهم هم من الذين لايؤمنون بالمديح والخزعبلات.

قمنا بتصحيح الدفاتر مسترشدين بالاجوبة النموذجية التي اعطانا اياها الحجي وقمنا بترسيب الكثير من الطلاب الذين لم يجيبوا على الاسئلة لانهم كانوا واثقين من الحجي وكرمه الحاتمي.

بعدها قمنا بتسجيل العلامات الكارثية في السجلات الرسمية وحساب المعدل العام , ولكننا فوجأنا وبالرغم من تشددنا في التصحيح من عدم وجود اي طالب راسب في مادة اللغة العربية بعد ان قمنا بحساب المعدل النهائي.

ايقظنا الحاج الوالد من نومه واستدعيناه الى غرفتنا لتسليمه الدفاتر المصححة وكذلك الكشوفات النهائية , كما اعربنا له عن استغرابنا الشديد لعدم وجود اي راسب لديه وان كان مرد ذلك يعود الى فصاحة ونباغة طلابه في اللغة العربية.

اجابني الحاج عبد السلام مستغربا طالبا مني ان اريه الكشف النهائي

الحاج الوالد عبد السلام : الله ازي مفيش رسوب ؟ وريني "البتاع "

حسين: والله حجي مثل مدا اكلك ماكو ولا واحد راسب

الحاج الوالد عبد السلام : الله ازاي؟ هنا في راسب , وهناك في راسب , وهنا في راسب ( بعد ان قلب الصفحة)

حسين : حجي ممكن سؤال ؟ كم سنة صارلك اتدرس باليمن ؟

الحاج الوالد عبد السلام : صارلي كتير .. 10 سنين .. انت بتسأل ليه ؟

حسين : يا حاج عبد السلام  انت صار لك  10 سنين مدرس ومتعرف للان من انه درجة النجاح باليمن 40 وليس 50 مثل مصر والعراق

الحاج الوالد عبد السلام : الله ده محدش ألي يا ولاد ( قال لي ) , ده انا الي كنت فاكر انه في عندي رسوب , بس معليش السنة الجاية حوريهم .  

الخلاصة: ان كان استاذك في اللغة العربية هو عبد السلام , فلا داعي بان تجيب على اي سؤال.