الرمز البريدي للنوم / محمد اسماعيل
قصة قصيرة
لم يطرق الباب علينا، عندما دخل، انما هكذا، انزاح شيء ما، من اركان الصالة، ولم يتحرك الباب. كان ملفوفا بالضمائد، من رأسه، الى اخمص قدميه، تنبعث منه رائحة المشرحة، زكية وطازجة. كاد اخي ان يسأل : (( من انت ؟ وكيف تقتحم الدار بلا استئذان ؟ ))
الا انه طرحه ارضا، وذبحه.
شاهدت الباب.. يوارب.. نصف مفتوح؛ فخرجت الى الحديقة؛ لأنني لا اقوى على مشاهدة اخي يذبح، ولم يسبق ان رأيته، يذبح من قبل.
لمحت في الحديقة مكانا شاغرا، كنا قد غرسنا فيه قلم ورد، تفتح منذ ليلتين، عن فحل مكين، له جذور ضاربة في رمل الحديقة الطيني، عميقا.
عدت الى الصالة؛ كي اسألهم عن فحل الورد، الا ان الباب انغلق دوني، وامحت فواصله.. إلتأمت مع الجدار.. لم يعد ثمة باب.
تحكي لنا امي قصصا جميلة، ظلت تحكيها حتى بعد ان توفيت، ورحت استحضرها، وسط نداوة الحديقة، حيث بت الليل. فجرا …
… صات الصبح صائحا، فتكشط رتاج الباب، وهب أهلي، من ورائه، كل يسوق كسله الى العمل، ناشطين.
خطروا امامي، واحدا واحدا، ونظراتهم تستنكر مبيتي خارج الدار، ساردين بوجهي شزرة استهجان، تروي مواعظ مسهبة، من التعب الطويل، بما فيهم اخي الذبيح، الذي اغلق الباب بيده اليسرى، وهو يزرر بدلة العمل، باليد اليمنى، مبتئس النظرة، بعيني.
قالت امي :
- طلق الدنيا، ودعى ربه : (( - رب هبني التوبة، والذهاب الى بيتك الحرام )). فذهب ولم يعد؛لأنه نسي ان يكمل الدعاء : (( - والاياب منه ))؛ لذلك اقام في البيت الحرام عاجزا عن العودة.
في مساء وحشي، اقبلت حسناء فاتنة، ممشوقة القوام، ذبيحة، رأسها يتدلى للخلف، وعيناها تدوران في محجريهما. تواصلان التحديق بالمقلوب، صدرها مندفع، ربما في الموت، وربما في الحياة، غاض النزيف في نسيج ثوبها الحريري الأحمر، الذي نتأت حلمتاها من ورائه، بنفور شهواني شبق.
بت ليلتي في الحديقة دافئا؛ لوجود غلاف بلاستيكي تحت جدار الروح، يقيني البرد.
خلت الدار من الجميع، وبقيت فيها، جائلا وحدي، ثم انكفأت على السرير، كأنني انكفئ على المهدور من حياتي.. حياتي، تلك الانثلامات المتلاحقة، هدم يتبع هدما، حتى امحى اثري، وتهت في الدعاء، تهت بين اركان بيت الله، في اروقته الحرام.
خرجت هيفاء برأسها الذبيح، مقلوبا، يحدق من دبر، الى عناء ليلة تحت الندى، حيث ما زال وجيف البرد ينبثق من عمق فرائصي المرتعدة.. امواجا.
ولجت دفء الفراش، ارتق تهرؤات الغلاف البلاستيكي الذي شفه السهر.
لم الحظ فحل الورد الملقى باهمال، تحت شماعة الثياب، عندما داهمني النوم، وغلق منافذ الصحو. من حولي.
رجل لايخرج جيدا، وفتاة ذبيحة، رأسها ( مفهوق ) للوراء.
كنت من النعاس، بحيث لم اقو على متابعة خروجهما؛ فيمكثان ( أنى ) انام.
والباب يوارب.
- لكل فارس غفوة …
… قالت امي :
- … وقد غفا سليمان للأبد، وهو يسخر الجن والانس، وظل على سخرتهم شاخصا، حتى نخرت الأرضة عصاه؛ فبان موته منكشفا؛ ليستفيقوا من كابوس السخرة …
… عندما تاه في بيت الله الحرام، لم يكن قد القى اية محاضرة في حياته، برغم ضخامة عدد الذين ادعوا بأنهم كانوا من طلابه.
- تهت في بيت الله، وكان بأمكاني ان اؤسس حياة جديدة في التية، الا ان شيئا ما تكسر في داخلي، ولم اعد اصلح لشيء، سوى التسكع في شوارع الله.. انام على ارصفته الحرام. حول بيته.
شاهدتهم يبصمون ميتا على وثيقة، وهم يوصونه : (( لا تلتفت )).
حكايات امي تتراكم، تتقاطع اكثر من حكاية في وقت واحد.
تركت صوتها معلقا على زجاج النافذة، من الخارج، واغلقتها؛ لأستمع الى حكاية مازالت تواصل قصها، مذ كانت حية، في عنفوان نشاطها، وحتى هذه الساعة من الموت المترسب في يجاويف عظامها المنخورة :
- ارسل خدمه محملين بالهدايا، تهنئة للملك، بعيد ما، فقص الملك اذيال ثيابهم، من دبر، حد السوءات، واعادهم اليه حليقي الرؤوس.. طافوا حول الكعبة، ثم تقهقروا، لا اذيال لخيبتهم، فيجرجرونها.
حملت فحل الورد من اسفل الشماعة، الى موضعه الشاغر، في الحديقة، عائدا، لمواصلة النوم.. ورد ذو رائحة تشبه رائحة المشرحة، اخترق زجاج النافذة بقوة، فتناثرت شظاياه.
حزت احدى اوراقه عنق اخي. شاهدت الباب يوارب. كان ملفوفا بصوت امي، عندما دخل، مضمدا رأسه الى اخمص قدميه، يجرجر بيده ثوبا حريريا احمر، خاليا من مغناج ذبيحة، رأسها يتدلى على ظهرها وهي تحدق بعينين مقلوبتين، لكنني كنت متعبا؛ فنمت، لا اقوى على الخوف.. تائها في المسافة الحرام، المسافة المقدسة، بين سرير النوم الذي هدني السهر والبرد والظلام، وبين الباب الموارب، ما ينفك مواربا،ورجل عاجز عن الخروج .