عام جديد .. التحديات تكبر والأمل يتجدد!

بانتهاء عام 2013 وحلول 2014 تكون قد مرت عشر سنوات على رحيل النظام الدكتاتوري المنهار وما خلفه من خراب عمقه الاحتلال، لقد كانت سنوات صعبة في اطارها العام، احد معالمها المتميزة هو ما عاناه المشهد السياسي خلالها من حالات متكررة من الاستعصاء ناجمة بالأساس عن المعركة المحتدمة بين القوى المتنفذة حول السلطة والثروة والنفوذ، وحول شكل ومحتوى الدولة العراقية الجديدة التي بدأت بالتشكل بعد 9/4/2003، مما تجعل من هذا المشهد مجالا مغلقا الى حد ما، يعيد انتاج نفس الأنساق السياسية القائمة، نتيجة غياب اعتماد مبدأ اقتسام السلطة على قاعدة الديمقراطية والمشاركة الحقيقية في صنع القرار، بعيدا عن نظام المحاصصات الذي يحدد الادوار سلفا.

وكما اكدنا في مناسبات عديدة، فقد أعطت التطورات السياسية التي عرفتها البلاد منذ 9/4/2003، وعبر كل التجارب الانتخابية والاستشارية، ديمقراطية ناقصة، مشوهة ومبتورة، لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق والتوازنات التي تحكمها تجعل منها غير قابلة للتداول بالمعنى الديمقراطي الصحيح، فالديمقراطية تقوم اساسا على فكرة المواطنة وليس على اساس الهويات الثانوية، وبهذا المعنى فان هذه البنية تعاني من تناقض بنيوي لا يمكن حله إلا بتفكيك نظام المحاصصات، فهذه المحاصصة، والطائفية السياسية، التي جرى تكريسها في عملية اعادة بناء الدولة العراقية الجديدة، هي أساس المشكلة وجذرها الرئيسي.

بالمقابل وفيما يخص الاتجاهات العامة للتحولات الطبقية – الاجتماعية في ظل أزمة بنيوية متعددة الصعد فإن بنية المجتمع العراقي ومكوناته الطبقية تعرضت إلى تبدلات متواصلة، فقد ظهرت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتداخل أنشطتها التجارية مع عمليات السطو والنهب والفساد التي ترافقت وانهيار النظام والدولة العراقية وتعاظم الطابع الريعي – الخدماتي للاقتصاد العراقي وبنيته المشوهة والأحادية الجانب، حيث وظفت "النخبة السياسية" الريوع النفطية في توسيع شبكة "الزبائنية" الاقتصادية – الاجتماعية - السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة، وهذه كله افرز استقطابا اجتماعيا وطبقيا، يهمين فيه تحالف البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية مع الكومبرادور، مقابل الاغلبية الساحقة من ابناء الشعب، وبالخصوص الكادحون منهم، الذين يعانون الفقر والعوز والحرمان، والاستغلال الظالم في ظل غياب القوانين المنظّمة للعملية الإنتاجية، والضامنة للعدالة الاجتماعية.

في ضوء هذه اللوحة المعقدة، وإزاء التحديات الكبرى في المجالات المختلفة التي تواجه البلاد، وما جرّه عليها المشروع الطائفي من أزمات، تتأكد الحاجة الملحة إلى إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية ومدنية عصرية.

تحتاج البلاد اليوم، إذن، وهي تتحضر لإجراء الانتخابات البرلمانية القادمة في 30/4/2014، الى بديل آخر يشكل نفيا لمشروع المحاصصات الطائفية - الاثنية، أي بناء نظام عابر للطوائف وخنادقها المتقابلة، فهو وحده الذي سيخلق الشروط لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية على أساس المواطنة والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية.

على هذا الطريق جاء تبلور القوى المدنية - الديمقراطية المؤتلفة في اطار تحالف مدني واسع هو (التحالف المدني الديمقراطي)، الذي يضم انصار الدولة المدنية (دولة مواطنين احرار لا تميز بين الناس على اساس الدين او المذهب او الجندر او الطائفة او الوضع الاقتصادي – الاجتماعي.. الخ)، وأنصار الديمقراطية بشقيها: السياسي بكافة اشتراطاته وليس فقط الية الانتخابات وشقها الاجتماعي – العدالة الاجتماعية، ومن المؤكد ان (التيار الديمقراطي) يشكل النواة الصلبة للتحالف المدني الديمقراطي وقطب رحاه بما يساعد في بناء ائتلاف انتخابي واسع، يساهم، على المدى البعيد ان احسنت إدارته، في تفكيك نظام المحاصصة الطائفية والاثنية، وتوفير شروط ومستلزمات اقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية.

ومن جانب آخر فإنه وعلى طريق بناء اصطفاف سياسي مدني - ديمقراطي واسع تزداد الحاجة الموضوعية لنهوض اليسار العراقي وزيادة فاعليته في الظروف الراهنة، وتبيّن التجربة أنه ليس هناك من سبيل أمام قوى اليسار للوجود الفاعل والمؤثر في المجتمع العراقي سوى توحيد صفوفها والعمل الجاد نحو الوحدة في اطار التنوع، و لا طريق أمام هذه القوى غير إعمال العقل والحوار المتفتح بهدف الوحدة وبدون مواقف مسبقة أو مقاربات تحمل أجوبة معلبة وجاهزة تجاوزها الزمان!.

وعندما نسترجع دروس الانتخابات السابقة، سنجد أن أحد الاسباب التي أثرت على حضور القوى المدنية والديمقراطية واليسارية، مما سمح للكتل الاخرى المستأثرة بالسلطة، من السعي لتهميشها، هو التشتت، وكثرة العناوين والألقاب التي ساهمت في الانتخابات السابقة، ويتعين على الجميع عدم نسيان هذا الدرس الهام، فالمعركة الانتخابية القادمة هي في الواقع معركة بين مشاريع سياسية متناقضة وبدائل متنافرة، وعلى هذه الخلفية يتعين خوض هذه المعركة وقبول التحدي وتجنب محاولات الانجرار بحرف قوى التحالف المدني الديمقراطي عن مهمته النبيلة المتمثلة بتكوين بديل عابر للطوائف والاثنيات، إنه تحالف ضروري لخلق توازن سياسي جديد يساعد على كسر التوازن الحالي القائم على الثنائية القطبية الطائفية، ويقطع الطريق على هذا الاستقطاب بتقديم بديل وطني وديمقراطي في الوقت نفسه.

إن تجربة السنوات العشر المنصرمة تتيح بلورة جملة من الدروس والخلاصات من بينها:

أولا: ان مشروع الدولة الحديثة، الديمقراطية العصرية، هو المخرج الوحيد، الممكن والمقبول، من الأزمة البنيوية الراهنة المتعددة الصُعد التي تواجهها البلاد، فقد دللّت تجربة السنوات العشر الماضية أنه لا وجود لوحدة وطنية حقيقية وراسخة خارج مشروع الدولة الديمقراطية العصرية، ويستدعي هذا من ضمن ما يستدعيه تبلور الكتلة التاريخية القادرة على انجاز هذه المهمة علما ان هذه عملية وليس لحظة.

 

ثانيا: إن تجاوز المشهد المأساوي الراهن وتحقيق مشروع الدولة الديمقراطية العصرية يمر عبر إلغاء الطائفية السياسية، وضمان حرية كافة المكونات الاجتماعية وحقها في الشراكة بتقرير الخيارات الكبرى للدولة والمجتمع، وبالتالي إطلاق حركة المواطنية بتجاوز الشكل الطائفي عبر جعل المواطنين سواسية، فعلا لا قولا فقط، أمام القانون في الحقوق والواجبات.

ويعني ذلك ان الحل الصحيح يكمن في الخروج من دوامة المحاصصة، اي ضرورة بلورة حل جذري وليس حلا ترقيعيا يرتكز على اعادة اقتسام الحصص والمغانم، اي مجرد اعادة انتاج الازمة وليس تجاوزها.

   

ثالثا: ثمة حاجة ملحة الى ثقافة ديموقراطية حقيقية وهذه غير ممكنة بدون ديمقراطيين حقيقيين، ولهذا يبدو أن التحدي الأكبر الذي يواجه بلادنا والذي يتأكد يوما بعد يوم هو في تجميع "القوى العابرة للطوائف"، من ديمقراطية ويسارية ووطنية ونخب ثقافية، حول العناوين الكبرى والأساسية لبناء الدولة الديمقراطية العصرية، دولة المواطنين الأحرار المتحررين من أية هيمنة طائفية أو قومية أو عرقية.

رغم كل الصعوبات نستقبل العام الجديد، 2014، و العام الحادي والستين من عمر (الثقافة الجديدة) متسلحين بالأمل ومضاء العزيمة، نحمل مشاعل الشهداء والأحياء ممن جعلوا المجلة منبرا للفكر العلمي والثقافة التقدمية، نسير على دروبهم المضيئة، ونردد:

إن الدماء التي أرخصتموها والجهود التي بذلتموها هي خلاصة المحبة، والوعي، والإرادة الصادقة والعزم الذي لا يلين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثقافة الجديدة العدد 363

كانون الثاني 2014