مدرسة ------ابراهيم جلال/ جوزيف الفارس                       

سبق وان تناولت في مقال سابق عن علاقة الفرد ونشأته في البيئة , وتاثيراتها على مسار حياته , وهناك امثلة كثيرة طرحتها من خلاله كمثال على صحة هذه المعلومة , من خلال تاثيرات الاباء والاجداد من الحرفيين والمثقفين من المجتمع , وعلى ضوء هذا الحال عاش ابراهيم جلال من خلال ظهور علامات التفوق في الخطابة والقاء القصائد الشعرية , وكما كان يعرف عنه جودة تقليد الاصوات المختلفة من الحيوانات , وحتى اصوات من معارفه واساتذته وتقليده لحركاتهم ونبرات اصواتهم , مما جلبت انتباه والده والذي كان من اشد المعجبين بهذه المواهب ومشجعا لها , مما جعلته يفتخر امام الاساتذة من اللذين كانوا يشرفون على تعليم ولده ابراهيم في مرحلة تلمذته الابتدائية , ويعتمدونه في معظم انشطتهم في احياء الحفلات والنشاطات الاجتماعية والوطنية والقومية .

تؤكد الدراسات والبحوث , ان الاستاذ الرائد ابراهيم جلال في سنة 1930 تعرف على المسرح عند زيارة عميد المسرح العراقي الرائد حقي الشبلي مدينة الحلة , وفي سنة 1939 اخذ فرصته في التمثيل والاشتراك في احدى المسرحيات , وهكذا اختار هذا الشاب لمسار حياته طريقا شقه بمثابرته وباجتهاداته وبمهاراته وبمواهبه الفنية المبكرة , والتي نضجت بعد دخوله اول دورة افتتحت في معهد الفنون الجميلة , وذالك في سنة 1940 قسم التمثيل بتشجيع من مؤسس الحركة المسرحية في العراق , وعميدها الاستاذ الرائد حقي الشبلي , والذي شدته مهارة ابراهيم جلال وموهبته المبكرة , والقدرات التي كان يمتلكها مما خلقت منه فنانا مسرحيا ومخرجا فذا سجل في تارخ حركة المسرح العراقي ريادة متميزة ومدرسة انفرد بها في عالم الاخراج المسرحي , فاقت حد التصور , وابهرت جميع الفنانين من العراقيين والعرب .

لا ارغب الدخول في تفاصيل كيفية لقائه برموز الحركة المسرحية في العراق وقادتها , انما ساتناول ابراهيم جلال كمدرسة خاصة متميزة في تجربته ورؤيته الاخراجية وما قدمه للحصول على شهادة الماجستير في اطروحته ( نظرية التغريب في مسرح برشت ) .

الفنان المبدع والمخرج الكبير الاستاذ الرائد ابراهيم جلال , هو مدرسة ذاتية الابداع , وحضورا متميزا على الساحة العراقية والعربية , لقد جاء بثقافته زادته تالقا وابداعا بعد عودته من دراسته في شيكاغو , اضافة انه كان قد تتلمذ على يد المخرجين من الفنانين الايطاليين في الاخراج السينمائي في ايطاليا , انما عاد الى العراق بعدما علم بانه ماتوصل اليه وماعنده من العلومات اكثر مما يكتسبه في ايطاليا , ولهذا فضل العودة والرجوع الى العراق .

في المرحلة الثانية من مراحل دراسته في الاخراج المسرحي في شيكاغو عاد ليتفرغ للاعمال العراقية الشعبية , ويدعم من يجد لهم القدرة والموهبة في التاليف المسرحي ,  ولهذا نراه في هذه المرحلة بالذات اخذ يبدع ويزداد تجربة من خلال اعماله الشعبية العراقية , وتعاونه مع المبدعين من كتاب الدراما العراقية منهم الكاتب عادل كاظم , والاستاذ المبدع طه سالم , وتمخض تعاونهما عن مسرحيتي ( عقدة حمار ) للكاتب عادل كاظم , ومسرحية (فوانيس) للكاتب طه سالم , وباسلوب انفرد به بالاخراج وحداثة التكنيك , وتجسيد المشاهد المتلاحقة برؤية انفرد بها , مما زاد من اعجاب الصحافة والنقاد , وغيرت من نوعية الجمهور المشاهد , والتي كان يحرص على متابعة اعماله وعروضه المسرحية .

فيخطىء من اتهم ان الراحل كان برشتيا , وقد صرح اكثر من ذالك وعلى مسامعنا , في محاضراته بالاكاديمية وفي اللقاءات الخاصة  , ونحن متعجبين من هذه التصريحات , بعدما كان في اعتقادنا , انه كان متاثرا بمدرسة برشت , وقد جاء بهذه المدرسة بخصوصيتها وتجربتها ونقلها الينا , ولم نكن نعلم بان الراحل ابراهيم جلال , انه كان بحد ذاته مدرسة خاصة به , وهذا ماكان يصرح به ويذكره امامنا اكثر من عدة مرات , وقد تجلى هذا في الكثير من اعماله المسرحية حيث كان يبدع في تحريك الممثلين , وتحريك المجاميع بشكل فيه من الجمال والابداع , مهتما في الالقاء وتناغم الاصوات مابين الممثلين مستغلا الفضاءات الواسعة في رسم حركاته الاخراجية , ويحرص على خلق العلاقة الجمالية والتكوينية مابين الممثل ومابين الاكسسوارات والديكور , فكان دائما يبحث عن الجديد والحداثة في المسرحية الشعبية , محاولا تجديد العلاقة مابين هذه الشخصيات واضفاء عامل الجمال في الحركة ورسم معالم الشخصية , وتحفيز كل شخصية على تجسيد احاسيسها الداخلية , وخلق علاقة جمالية مابين الشخصيات في المشهد الواحد , ولا يمل من التكرار والاعادة اثناء التمارين المسرحية الى ان تحصل عنده القناعة التامة بالاداء والتجسيد للممثل لشخصيته , ويعجبه ويبهره كل تشكيل فيه من تعبير الجمال والابداع , وتتناغم في اذنه الاصوات المختلفة في اختياراته للممثلين , حيث صرح اكثر من مرة , انه يبحث عن السمفونية في الصوت والالقاء في اختيار الشخصيات , مراعيا في اختياراته تجانس الاصوات فيما بينها .

ان الفنان الرائد والمخرج المسرحي المبدع , لم تكن لديه قاعدة ثابتة في الاخراج , ولم يتمسك بمدرسة واحدة في عملية التجسيد والتسخير , بقدر ماكان يتناول ويتبع في اخراجه جميع المدارس والتي فيها من الابداع وتجسيد الجمال والتي كانت تعبر عنها رؤيته الاخراجية , كان لمسرح ابراهيم جلال عشقا للحرية ومحبة في طرح الافكار وتجسيدها بمختلف المذاهب والاساليب التي يعتقدها انها تخدم عرضه المسرحي , كان يهتم بالشكل وتجسيد المضمون , كان يهتم باللون , بالاضاءة المسرحية وبالفضاءات الواسعة , انه اخذ من برشت كيفية تحرير العقل والمنطق في مناقشة ما يعرض امامه , ومبتعدا عن الارسطوطاليسية في طريقة المعالجة والتجسيد , اخذ من ستانسلافسكي حرفية التمثيل والاندماج والتقمص في بعض الحالات والتي يستوجبها عرضه المسرحي , وكذالك لم يبتعد عن المدرسة الرمزية والايماءات في طرحه لبعض الاشارات والتلميحات , وبعض الرموز التي كانت تساعده على تجسيد افكاره ورؤيته في الاخراج , كانت النصوص المسرحية هي التي تختاره لتجسيدها من قبله على المسرح , وخاصة بعد ان اكتشف الكتاب المسرحيين مايعجب ابراهيم جلال وتفهمهم للعالم الذي يحب ان يعيشه في عملية الاخراج , ولهذا تلاحمت كتابة عادل كاظم في مسرحية عقدة حمار , ومع رؤية ابراهيم جلال , ومسرحية فوانيس ل طه سالم , حيث كان ايمان ابراهيم جلال بعملية التغيير تستنبط مفاعيلها من جوهر الفن , وتاثيره على تغيير المجتمع ونبذ العادات والاعراف والتقاليد البالية والتي تقيد المجتمع , وتمنع عملية التحويل باتجاه الافضل , ولا سيما ونحن نعيش الحياة المعاصرة والتي يجب ان تتغير مع تغير مجريات الحياة ومتطلباتها الاجتماعية والمتغيرة باتجاه حرية التعبير , والمعايشة الديموقراطية الاصيلة والنابعة من متغيرات الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية , وايمان ابراهيم جلال بان الفرد هو عنصر فعال في تغيير المجتمع , ولا يمكنه الانفصال عن واقعه الحياتي , ليستمد منه ديمومة الحياة والتواصل والتفاعل من اجل التغيير والتجديد , كانت الحياة التي يؤمن بها ابراهيم جلال حياة بعيدة عن الزيف والخداع , كان يملئه فرحا لمشاهدة طفل مسكين يبتسم ابتسامة امل للحياة وبالرغم من ان منحدره الطبقي كان منحدرا ارستقراطيا انما هذا لم يتجلى باعمال ابراهيم جلال بقدر ما تجلت افكاره اليسارية والمتلاحمة مع الطبقة الفقيرة والمعدمة في كل اعماله , ولا سيما في مسرحية البيك والسائق والتي قدمت من على مسرح الفرقة القومية للتمثيل , كانت التعرية عند ابراهيم جلال واضحة في معظم اعماله لا يحب التستر على ماهو متناقض بقدر ماكان يرغب بتعرية هذه المتناقضات ومناقشتها عقليا والابتعاد عن العاطفة والتي لا تجدي نفعا في معالجة واقعنا الاجتماعي اذا ماعلمنا بان العاطفة تقتل العقل وتبعده عن مناقشة متناقضات الحياة الواقعية , كان بعيدا عن الطرح الارسطوطاليسي الا فيما يخدم تجسيد فكرته ورؤيته الاخراجية ليستخدمها جسرا يوصله الى الهدف والذي يرغب في تجسيده وتقديمه للجمهور المتلقي للاستفادة وللاستنارة منه .

ان المسرح من وجهة نظره كان متاثرا ومؤثرا , متاثرا بالتاريخ وبالماضي ومؤثرا في الحاضر و المستقبل  مستمدا تاثيراته من التغيير الحاصل للواقع الاجتماعي من خلال رؤية مستقبلية يعالج تناقضاتها معالجة منطقية وعقلية ,وانه كان يؤمن ايمانا مطلقا بان العاطفة لا تخدم الانسان فكان يبتعد عنها ولا سيما في المسرحيات التي كانت تعالج القضية الاجتماعية معالجة عاطفية  , وخاصة تلك التي كانت تقتل العقل وتمنعه عن حرية  التفكير ,ويخطىء من كان يعتقد بان ابراهيم جلال يتعامل مع عواطفه في معالجاته المسرحية , وانما كان انسانا عقلانيا ووجدانيا يتناغم مع الحياة , وياخذ منها جمالها ويضيف من رؤيته لها مايتحسسه ويشعر به , ومن ثم كان يتفاعل مع الغرائز الانسانية لديمومة الحياة الذاتية ومبتعدا عن المادية , وعن معرقلاتها لديمومة الحياة .

كل هذه العوامل خلقت من ابراهيم جلال فنانا ومخرجا مستقلا بتجربته وريادته اسلوبا ومدرسة لا ترتبط بالمدارس التي سبقت تجربته في العراق وفي العالم العربي , انما كان مهتما بابراز معالم الجمال , , ولهذا كان ابراهيم جلال واقعيا ارسطوطاليسيا , وبرشتيا , ورمزيا , وكلاسيكيا , اي انه كان فنانا شاملا يستخدم كل ماكان يخدم تجسيد رؤيته وتنظيراته عبر تجاربه الاخراجية في المسرح .

كان ابراهيم جلال يهتم بالجسد وجمالية تعبيراته , وكان يؤمن بان هناك طاقة تعبيرية بستطيع ان من خلال الجسد ان يكون تكوينات جمالية تعبيرية , تعبر عن وجدانية العواطف الانسانية , كان يؤمن بالصوت ونبراته في ايجاد التلوين وتجسيد موسيقية الكلمة في الالقاء , مستخدما ومستنفرا ماكان مخزونا في داخل احاسيس كل ممثل في اداء شخصيته , حيث كان ياخذ ويعطي اكثر مما ياخذ , لم يتوانى عن خلق العلاقة مابين الشخصيات والديكور , لان الديكور المسرحي كان جزءا من عملية تصميم الحركة مع الممثل  ومعبرة عن فكرة ما , ضمن صورة جمالية ابداعية فيها من التعبير والرمز لخلق فكرة معينة تساعد على ابراز الفكرة الرئيسية للمشهد , اضافة الى كل هذا كان يهتم بتفاصيل الملابس والوانها , ورمزية كل لون وتاثيراته على المتلقي ,محولا من خلال هذا استحضار الجو العام لمعايشة المتلقي مع الحدث للمشهد الواحد , كان يسخر من خلال شخصياته الواقعية ويدين من خلالها بعض الظواهر البرجوازية , منتقدا عملية التغيير اللامنطقية والتي لا تؤدي الى خدمة المجتمع ورفاهيته , كان يتهلل بالنكتة وتعجبه والتي من خلالها يحرك عامل الانتصار والتفوق على بعض افراد المجتمع من الذين يروجون للحرية وللديموقراطية المزيفة , انه كان اشتراكيا في نظرته للواقع الذي يعيشه ويؤمن به على انه الملاذ الامن للانسان المعدم لبستطيع من خلالها ان يستزيد سعادة ورقيا باتجاه حياة افضل , لم تكن المادة تصنع منه شخصا مؤثرا بقدر ماكان يصنع من المادة شيئا يؤثر في الحياة الولقعية .

كان الفنان ابراهيم جلال في طبيعته لا يستكين ولا يهدا له بال لانه كان مشغولا في البحث والاستنتاج , وكثيرا ماكان يبتسم ومن خلف نظاراته الجميلة حينما يصل الى نتيجة تعجبه وتبهره لمسالة شغلت افكاره ولمدة طويلة , كان يطير فرحا وينشرح مسرورا لما يتوصل بافكاره الى نتائج تسعده .

لقد كان المخرج الفنان ابراهيم جلال ميالا الى الطبيعة بجمالها ويتخذ منها محركا لاحاسيه الانسانية النبيلة , وساخرا بالنقد اللاذع لكل منغصات الحياة الانسانية , داعيا الى الرفاهية والانفتاح وحب الحياة , مهتما باثارة المناقشاة التي تعتمد على حرية التعبير , معتمدا على تحريك العقل والمنطق والاهتمام بالغرائز الانسانية على انها هبة من عند الله ,  كان يعجبه ان يجعل المتلقي في حالة من اليقظة والوعي والادراك الحسي لما يشاهده , ارجو انني اوفيت من كلمات واراء معتدلة بحق صرح عملاق من صروح واعمدة المسرح العراقي , انه الفنان المخرج والرائد العملاق ------- ابراهيم جلال  .