بين "رائحة ألتفاح" و "حين يتكلم الجسد" / د. قحطان  ألمندوي       

 مشكن 5-9-15                       

أطل علينا القاص نشات المندوي بمجموعه قصصية جديدة بعنوان حين يتكلم الجسد، صادرة من دار مسوبتيميا، 2015. أيقظت قصص هذه المجموعة بنفسي نستولجيا مرهفة أخذتني لمجموعته ألأولى رائحة التفاح الصادرة عن دار الكنوز ألأدبية عام 2000. أستوقفتني قصتان واقعيتان بعنواني ألمجموعتين لتشابه الحدث والموروث البيئي و النفسي الذان تعالجانه. وبالتأكيد ليست القصتان أفضل ما كتب ألأستاذ نشات المندوي. إضافة للغتهما المجازيه الشابة و صورهما ألشعرية البديعة وألرقيقة، تشتركان بذات الحنين لماض مرَّ كالطيف تاركا دموعا، ووشوما طللية، ورمادا بركانيا، وألوانا تسر العين، وروائحا تزكي ألأنفاس، وهموما لا يمكن تجاوزها او ألتهرب منها. وبعد هذا، تشحذ وتوقض القصتان حزنا منفيا في قلوب قراء تحملوا عذاب الغربة، وإكتوو بنارها وثلجها، وسرتهم مفاتنها، ونهلوا مرها وحلوها، وعالجتا هموم الفرد العراقي، محنته ببلاد المنفى، إنتمائه ووجوده المسلوبين، وأثر المردود النفسي وألتأريخي في تصرفاته ومصيره. تتحدثتا القصتان أيضا عن ديمومة وعيش العراقي، وبالأخص ألمرأة، في غربته، كيف يتفاعل معها، و ما تعني  له، حينما ترى نفسها أو يرى نفسه مقطوعا، منفيا، منفصما، ومنصدعا.

في "حينما يتكلم ألجسد" يتعرف القارىء على إمراة إسمها لونا، جردها القاص من هويتها المعاصرة، فلا نعرف عنها ألكثير غير أسمها الشاب ذي ألثلاث معان. وربما تجاوزت مرحلة الشباب، أو عنست، أويأست، تنظر لماضيها الغابر ألبائس، من منفاها ألقارص والقاسي، ربما أمريكا، إقامة ألقاص، بعد كم غير واضح من السنين، فترى الماضي، بصورة جلية لا غبار عليها، وتعطي إنطباعاتها وإرهاصاتها عنه، معناه و مردوداته، وما ترك في نفسها من حزن وشجون وحنين. كانت الفتاة مراهقة يوما، لا تعرف عن إسرار العيش والحياة غير واقع مرِّ عاشته مع إمها المطلقة وجدها البدوي المتزمت. واقع تداخلت به التداعيات واختلطت الموازين. وألآن تنظر له بمكبرة ثاقبة، وعين شاخصة، فيصبح ألماضي سر ديمومتها، قدرها ألحالي، حصيلة تجربتها، ومصدر إلهامها. ماذا تتذكر الفتاة العراقية من عيشها البريء في مجتمع مخنوق بطقوسه العشائرية المتعصبة، و مطوق بأسلاك ألدين غير السمح، وحيطان البيت والمجتمع القاسية، وغبار ألدروب الترابية الخائبة. ورغم ذالك نرى لونا تكتشف إنسانيتها، وأنوثتها، وحبها لأبيها ألذي تفضل ان يذهب معها لرد إعتبارها مع مديرة مدرستها التي عاقبتها لأنها نطقت كلمات، أخالتها جنسية، لا تليق بطالبة مراهقة في ألمتوسطة، فأثارت نوازعها الصحراوية المتحجرة، ونفرزت عشائريتها الساذجة، ألمتخلفة. تتحدث لونا عن إمها أولا فتقول، "أطعمتني كلمات بذيئة، صدئه، نزلت...جراها قطرات مشحونة بالخجل، غطت جبهتي....عانت طفولة بائسة و مراهقه ذليلة، وزوجا طلقها بعد ولادتي...وجدي المتزمت بألأعراف، الخائف على سمعته، يراقبها بشدة ويربيني بقسوة." لماذا يراقب العراقيون المطلقة اكثر مما يراقبون البنت ألباكر، و يربون بناتهم بقسوة؟ هل من حاجة لجواب؟ أم هذه مخلفات البادية بوأدها، وعصبيتها، ورمالها؟ ألمراة، ألأم، ألضحية ألأولى، هنا أرتدت حيلة ألذئب، وإرتأت أن "يلبسها هرٌ شرير،" تعيش متسممه بالحقد على زوج غائب "أناني ووسخ،" عاقبها بالطلاق، وحرمها من إنوثتها، وجردها من رقتها، فتعقدت، وأصبح الكره ملهمها ومحفزا لردود أفعالها. بهذا يتجلى مغزى و دور "عندما يتكلم الجسد." فهي سرد لماضي ألآم أكثر من حاضر بنتها لونا، موظحة ألأسباب التي تؤدي للكره والحقد والغضب. المراة أما صديقة، حبيبة، ملهمة، كمتيلدا لنيرودا، أو كابوس جحيمي، مسموم، كزوجة تولستوي أو أنشتاين. أمُ لونا كرهت زوجَها، وإذا قدرت أن تحكمه بالأعدام لفعلت. أما لونا فإكتشفت وجودها من خلال هذه المعادلة، و "أيقنت" وربما بعد تجارب حلوة أو مريرة، في ألوطن أو في المنفى، بأن "جسد أمي هو من يسب أبي لا فمها."

في "رائحة ألتفاح" تتشابة ألرؤيا ويتككر المشهد. عبر لواعج وإرهاصات شاب مغترب، جرده القاص من إسمه، ساسمية هنا ألشاب. تلخص القصة العلاقات ألشرقية، بالأخص ألعراقية، بين أخوين شتتهما الغربة، وتفاوتا بالطموح وألرؤيا، فأضحا "قطبين متضادين...و(نسيا) في خضم ألغربة (خوتهما)." تجاهلت "رائحة ألتفاح" البعدين الزمانكيين، لكنها صورت، بدقة متناهية، سفرة التحدي، عناء الغربة، وتيتم شاب، لا يخلو من الطموح، من وطنه، ماضيه، أهله، وصحبة، ليصبح فريسة لأوهام ليست دولاريه، لأنه ما جاء ليغتني ككثيرين، بل تزويق حضاري زائف، تحلت به أمريكا، فابهرت بتبرجها، ومداها ألواسع، وأرضها الخضراء وبحيراتها، ملايين الموهومين الذين انجرفوا بتيارها، وضاعوا بزحمتها، وخُدعوا بما قال البحارةُ عنها. أمريكا أرضٌ، "أباحت بكارتها لقراصنة دجنوها ثم صاروا سلاطين....لها مدن مجنونة ينبت فيها ألشعر ألأصفر، وتهاجر لها ألعيون ألزرق، (تكاثرت) ألحكايات حولها كالأساطير ألتي تناقلتها جداتنا بلا وعي لنا كي تكتمل مفاتن صورها." لهذا قرر ألشاب ألسفر "حاملا بعض أمنيات دستها أمي سرا بين ملابسي." لم يدرك ألشاب في ألبدأ أن عالمه ألمزيف "يجلس على حافة ألوهم الحقيقية، عالم يتمرد بين ألعبث وألجدل." ولكن بعد وفاة أمه، أعز ما يربطه بوطنه، وضياع أخته ألصغيرة، ألتي لا نعرف مصيرها، ولم يعد يتذكرها، فقد نصف إنتمائه لوطنه ألعراق ألذي لم يذق به غيرَ المرارة وألحرمان وألحزن والخوف وألعذاب. وما يتبقى من ماضيه ذكريات داكنه، مشوهه، ضيعت ذاكرته المنفية نصفها، وألنصف ألآخر غناء على شواطىء دجلة، وبكائية لنخلة بيته وأطلاله.     

 في بداية لقائهما، يحذر ألأخ الكبير من مغبة الرحلة ألجديدة ومردوداتها، و ينتهي بالجزم على أن الحياة "عصارة تجربة يقبع بزواياها الخير وألشر.... ألأحلام تتشكل في صبواتنا، تخلق لنا ألأمان وإن لم تتحقق، ولذة الدنيا في ألأحتواء وألنضج." و"ألغربة مهنة شاقة.... والمنفى ولادة متأخرة تتأرجح في موت مؤجل." لكن الحياة تستمر بديمومتها، وليس فيها من جديد، فتكون نهايتها مثل بدايتها. فماذا قدم ألأغتراب وألنفي للشباب ألعراقي المهاجر؟ ومتى بدات هجرتهم للمنافي؟ ألجوب بسيط جدا؟ لم يغادر العراقي وطنه يوما، لا طمعا بالمال ولا ألشهرة، ولم يعشق بلدا سواه. يظل ألباعث السياسي، مسببابته ودواعيه، والحروب، و"حبُ ألسلامةِ"، كما قال ألطغرائي، ألمحفز ألأول الذي دفع أعدادا كبيرة من العراقين للنزوح. لماذا لم يفرح ألشاب بيوم سفره وخلاصه من واقع طاغوتي، سادي، مرعب؟ هل لفقده القدرة على ألتمييز بين ألحزن وألفرح؟ وبقدر ما تجرع من لوعات وهموم وجودية وسياسية كأي عراقي آخر، ليس بالضرورة وصول المغترب لمرفا ألأمان بعد نزوحه. ربما ألعكس هو ألصحيح. لذا ظلت علاقات ألشاب في "رائحة ألتفاح" بالغربه كعلاقاته بوطنه- هشة وركيكه، خالية من المودة والجوهر. لا سيما إنتقاصه للمادة وأللغة. عالمه ألأمريكي العجيب لا يكترث للغرباء، ولا يتماهى مع لواعجهم، ولا يحمل من صور الماضي ونبله ولا حتى أوهامه طيفا، فإصتدم الشاب بواقع أكثر بطشا وسادية من ذي قبل. وهنا جاءت نصائح ألشقيق الكبير ألذي حذر أخاه من مجتمعه وتجربته ألجديدة.  ولا غرابة بعد ذلك أن يجد ألمغترب نفسه ضائعا تقوده أحلام يتيمة وتدفعه نوازع بلهاء، "بمنعطفات ألطرق، وأمواج بشرية كادت تلتهمني" وكابوس مرعب، ودروب مكتئبة، جامدة ألأوردة وألشرايين ليس فيها من دفأ ألعراق وشمسه غير بصيص نور خافت يصارع الحياة. يتقعر ألشاب بغربته ويغرق بأمواجها،  ودياجيرها، ومتاهاتها. عالم لا يكترث لمطامح ألأنسان البسيط او ينتبه لمظلوميته، متخم بالجهل، الركض وراء الدولار، والتكرش وألضياع، يجرد ألأنسان من نبله، يمنحة لقمة العيش بعد نكد شاق، ويحرمة من لذة المودة والصدق والخير. ألعالم ألرأسمالي قذر يعيث به الفساد ويشوبه التصدع والنخر والموت البطىء. لكن الغريب في "رائحة ألتفاح" لايدرك مصيبته بعد في عالمه الجديد الذي يباع به الحب بالقيراط وألأقصاد كما يباع الهروين والكوكين وأفخاذ راقصات الستربتيز.

وكما أصتدم المنفي الشاب بجدار عالمه ألدولاري، الفولاذي، عالم هيو هفنر، وجورج بش، وصدى راسماليته، تضاد وإختلف مع عالم وعقلية أخيه الذي يكبره سنا وتكيفا وثقافة. هنا جسّد القاص المندوي كارثية العلاقة ألأخوية في الغربة، وخلق منها صورة منكرة يتمرد عليها الشاب وعلى أخيه الذي إحتكر القرار، "فاشعرني بعقدة التفوق المكتسبة، وأرث الكبر الشرقي ألمتربص.... حقدت على هذه ألأمتيازات المجانية الممنوحة لأبطال من ورق." فلم يكن أخاه سنده ودليله ومعلمه في الغربة، بل كابوسا شرقيا يجثم فوق صدره ويجرده من حريته التي إكتسبها من مجتمعه ألأمريكي ألجديد. ألتناحر بين ألأخوين في "رائحة التفاح" له مردودات وأبعاد أنسانية جمه تطرقت لها القصة ولم تعالجها. ألعلاقة بين ألأخوين تشبه لحد كبير علاقة لونا بأمها بالقصه السابقة. كلاهما مبنيتان على أوهام سلوكية تنقصها ألموازنه وحسن ألنية. ألشاب في "رائحة ألتفاح" مسير من قبل أخيه كما لونا مسيرة من قبل أمها. وكلا العلاقتين مرتبطتين بنوازع عشائرية، بدوية، غير قابلة لأخذ وألرد، فليس غريبا أن يتصادم ألقطبان، ويولد التمرد، بعد ان يحس أحدهما أن ألآخر يجردة من إرادته وإستقلالييته. تتشوه صورة ألأخ ألكبير بعين أخيه ألشاب، فيتقزز من صلعته، "ألزاحفة ببطأ ألى الجنبين." ويتفاعل مع مواعظه بإنفعالية و تشنج مبالغ فيه، محاولا الأنتقاص منه، ناسيا أن، "للحياة قانونها الخاص الخالي من ألأستثناء." بنفس الوقت يتوجس ألأخ ألكبير حرمان أخيه ألصغير، فيعطف عليه مدركا إنحداره وسذاجته، مبديا له ألنصح، ويخاف عليه من المجهول، والسقوط في منحدر ألأقدار، وغثيان ألتهميش و الضياع والجماد في مدن ألجليد وألشهوات وألعيون الزرق، كما يخاف جد لونا "ألمتزمت بالأعراف ألخائف على سمعته،" على لونا وأبنته المطلقه من العيون، والضنون، والنفاق، وضياع الوجه، فيقسو عليهما.

تسوء ألعلاقة بين ألأخوين عندما يطلب ألأخ ألكبير من شقيقه ألزواج من قريبة له لا يحبها. فتاة تخلو من ألجمال، وخفة الدم، وفتنة ألمراة ألمثال التي يجدها ربما بالنساء ألأجنبيات حوله. إمراة "لعلها تملأ ألبيت بالصبية وألبنات، وتعيد صياغة ألعالم حولك...وتنسيك ألماضي." لكنها بدنت بسرعة، وفقدت "رشاقتها" و أنوثتها. فلم يسعفه أو يفرحه حتى ولادة طفليه، مثل فشله بالفرح يوم سفره. تكون صدمته أشد وأكبر، فينزوي، "بمدينة صغيرة مسكونة بالأرق والعصافير،" بعد أن، "أحطت نفسي...بطوق شفاف من ألامبالات...وإنظممت لبشر ما حلمت بوجودهم...." ورغم محاولة ألأنتماء تلك، يظل الغريب يتيما، معزولا، مطرودا، لربما لعائق اللغة، أو ألعوز المادي، أو ألقلق النفسي، أو مطاردة ألراسمالية وتحميلها الغريب بعبأ إقتصادي ونفسي ليس بالضرورة أن يكون مؤهلا له. لذا يتيه ألشاب، وتتلقفه، "ألشوارع ببرودة مقاهيها، (أو باراتها) وألثلج يصبغ وجوه ألمحلات فيها...إرتميت بأزقتها، أفتش عن حقيبة ألأحلام ألمنسية ورائحة ألتفاح في وطني علّي أجد من يطفأ غربتي ولو بدفا زوايا عينيه." بهذا ألحزن ألكربلائي والعيون ألدامعة يتامل المغترب ألشاب ألأنتماء لواقعة ألظالم وألمظلم ألجديد حالما برائحة ألتفاح، فلا يجد غير ألألم والبكاء على وطن نفاه وجرده من قيمه ورماه لمنفى أكثر رعونة وبرودة وقسوة. ألشاب الذي تركه ألقاص نشات المندوي بدون أسم، يمثل جميع ألعراقيين ألذين غادروا وطنهم مجبرين، وضاعوا في دهاليز الغربة ورعونتها، يطمحون لأحلام خائبة لن تتحقق، وسعادة مفقودة، عالم لا يمت بصلة لعالم عراقهم القديم، وهم يحلمون برائحة تفاحه وريحانه، يسمعون صرخات بناته المغتصبات، ودماء شبابه ألبريء المسفوك بالكره ألأرعن، وولادته القيصيرة ألآتية، ويعيشون مع ألموت والقتل أليومي المجاني، و ألحقد الطائفي، ألديني، ألبغيض، الذي نبشته أمريكا من قبره وسباته وأرادت به أن يتقاتل ألأخوه ويتطاحنوا للخمسين سنه القادمة.

 يروح المغترب المجهول يلعن حاضره و قدره ألذي بعثره وأفقده ألحنين والأنتماء، كما لعن ماضيه الذي أورثه الحزنَ وألمنفى، وتركه عرضة للهواجس وألأوهام ألخادعة، وتضارب ألمشاعر، وفقدان ألهويه، يركض ألى ما لا نهاية باحثا عن ألأمل ألمجهول ألسعادة أليتيمة. وما أن جاء الليل وغطاه بحلكته وهزعه ألأخير، غلبه ألنوم، بأحلام دينكوهيتيه، مؤجلا ولادة أو موتا جديدا، مدركا، أن" ألأنتماء ألغير واضح بين ألعلاقات يخلق ألأرتباك في المفاهيم وألتصورات." لكنه نام حتما، وبمنخريه رائحة التفاح ألصيفي ألعراقي ألأبيض. وعندما يستيقظ من غفوته أو كبوته، سوف لن يجد شيئا غير شبح الماضي وسمومه  ترقص فوق جدثه اليتيم المغطى بالثلج.

 

دكتور قحطان محبوب مندوي

أستاذ ألأدب ألعالمي، جامعة مكوم-مشكن