الغائب الحاضر الروائي (غائب طعمه ).../محمد المنصور
في الأمسية الإستذكارية التي أقامها المركز الثقافي العراقي في السويد، بالتعاون مع إتحاد الكتاب العراقيين في السويد، التي أدارها الشاعر أحمد العزاوي، كان الروائي العراقي (غائب طعمه فرمان)، حاضراً بين طيف من الأدباء والفنانين والمهتمين بالشأن الثقافي، كان حاضراً بفكره وأعماله وكتبه، المتوزعة بين القصة والرواية والصحافة والترجمة، وبين حياة المنفى والحنين إلى الوطن والأهل، وقد سلط المتحدثون بعض الضوء على حياة هذا الكاتب الكبير، وعلى إرثه الأدبي الإبداعي المتميز، الذي جسد فيه جوانب عديدة من خصوصيات المجتمع البغدادي وحياة المجتمع العراقي عموماً.
كان أول المتحدثين في هذه الأمسية، (الدكتور أسعد راشد) مدير المركز الثقافي العراقي في السويد الذي قال: "أتمنى أن تكون هذه الأمسية، مسكاً للكاتب والروائي العراقي الجميل غائب طعمه فرمان، وكنت أتمنى أن تتطلعون على بعض من صور هذا الكاتب، الذي شكل مفصلاً مهماً فيما يتعلق بموضوعة الرواية العراقية، صحيح أنها ليست جنساً أدبياً محلياً، وكتبت أيضاً بطريقة الرواية الأوربية في الإسلوب الواقعي الأوربي، لكنها دفعت الكثير من المختصين للعمل عليها، ودخلت عالم الفن مثل: النخلة والجيران في المسرح، وخمسة أصوات في السينما"، وأستعرض راشد بعضاً من محطات حياة الراحل غائب طعمه فرمان معززة ببعض الصور، ومن هذه المحطات صور في بغداد مع والدته ومع الفنان (خليل شوقي)، وصور في فيتنام مع (هوشي منه)، وصور أخرى مع مجموعة من الأدباء السوفيت آنذاك.
ولد غائب طعمه فرمان في بغداد عام (1927)، وأنهى دراسته الأولية فيها، وقد ازدادت معاناته مع مرض (التدرن الرئوي) الذي أصيب به في سن مبكرة، الأمر الذي دعاه للتفكير جدياً في العلاج والدراسة معاً، في بلد تتوفر فيه هذه الفرص، فاختار مصر لسببين: تقدم الطب فيها، ومكانتها العلمية والثقافية آنذاك، ولم تقتصر علاقات غائب على الوسط الطلابي في كلية الآداب في القاهرة، بل امتدت إلى المجتمع الثقافي القاهري، فكان من رواد مجالس أشهر الأدباء المصريين مثل: (مجلس الزيات، مجلس سلامة موسى، ومجلس نجيب محفوظ ظهيرة كل جمعة في مقهى الأوبرا)، وكانت لغائب محاولات في كتابة الشعر، لكنه لم يوفق في ذلك، ففضل العمل في الصحافة الأدبية، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي.
تحدث (الروائي كريم السماوي) بتفصيلات دقيقة عن حياة وأعمال فرمان، وعن رواية النخلة والجيران، التي قرأها بعين الناقد وكتب عنها بإيجاز في كتابه (مئة رواية ورواية)، وقال: "كتبت عن الأديب غائب طعمه فرمان، وعن روايته النخلة والجيران في سنة (2003)، عندما كانت القنابل تتساقط على بغداد، أخترت هذه الرواية لأنها تحاكي واقعنا بالأمس واليوم، وقد نشرت ما كتبته عن هذه الرواية في جريدة البيان الإمارتية في (21) أبريل، أي بعد الإحتلال الأمريكي للعراق بـ (12) يوماً، والرواية تحمل الرقم (62) في الكتاب، وهي مختصر لحياة فرمان وأعماله وروايته النخلة والجيران"، وعن التعددية الصوتية في أعمال فرمان قال السماوي: أن "في معظم أعمال فرمان الروائية والقصصية، تحدث عن متغيرات الحارة البغدادية وعن متغيرات الزمان والمكان، ولجأ إلى تعدد الأصوات الإجتماعية، التي تحمل في طياتها ألوان الصراع السياسي لمجتمع متعقد التركيب والإتجاهات، معولاً على ما يمكن أن تفرزه هذه التعددية الصوتية من مفارقات فنية تثري العمل الأدبي، بحيث يعكس صورة واقعية للحياة الإجتماعية والسياسية، حتى دون أن تكون هناك مواجهات بين الناس والسلطة، وإن كانت هذه السلطة قمعية أجنبية محتلة، كما في رواية (النخلة والجيران)، كتب حوار الرواية التي ترسم مصائر بشرية بائسة باللهجة العامية العراقية، وهي لهجة عسيرة الفهم على القارئ العربي، خصوصاً في عالمه المغاربي منه".
إن أهم الأعمال القصصية والروائية لغائب طعمه فرمان هي: (حصاد الرحى) مجموعة قصص (1954)، (مولود آخر) مجموعة قصص (1959)، (آلام السيد معروف) مجموعة قصص (1980)، (النخلة والجيران) رواية (1966)، (خمسة أصوات) رواية (1967)، (المخاض) رواية (1973)، (القربان) رواية (1975)، (ظلال على النافذة) رواية (1979)، (المرتجى والمؤجل) رواية (1986)، (المركب) رواية (1989).
أما (المخرج فاروق داود)، الذي كتب وأخرج فيلم (ذاكرة وجذور)، عن حياة وأعمال الكاتب والأديب الراحل (غائب طعمه فرمان) قال: "إن الفيلم الوثائقي يتطلب دراسة معمقة لموضوعة الفيلم، ودراسة لكل الوثائق التي تتعلق بهذه الموضوعة، وكان من الصعوبة بمكان الحصول على أية وثيقة، ولذلك قلت لغائب أريد أن أقرأ النخلة والجيران، وكنت قد قرأت سابقاً إحدى مجموعاته القصصية (آلام السيد معروف)، فقال غائب: (غالباً ما يأتي الشباب لزيارتي ممن لديهم رسائل ماجستير أو إطروحات دكتوراه، ويأخذون من كتبي ما يساعدهم على ذلك ولم يعيدوها، ولكن لدي نسخة من النخلة والجيران، وهذه استنسختها بيدي صفحة صفحة)، وقد أهداني هذه النسخة من رواية (النخلة والجيران)، ونسخة أخرى بخط يده من رواية (المركب) وكذلك مجموعة من الصور، وكأنما لديه أحساس أن هذا الفيلم هو آخر عمل عنه وله، ولم يتولد لدي هذا الإحساس إطلاقاً، لكني وجدته متعباً جداً ومثقلاً بآلام كثيرة، إن غائب هو عبارة عن عصارة ثمينة لأساس بناء المجتمع العراقي، ترى فيه العراق لكن أي عراق؟ إنه العراق المنتفض الآن، والذي جذوره معروفة للجميع ومعروفة في أعمال غائب، وقد بدأت بهذا الفيلم عام (1989)، وقد أطلعت غائب على الشكل النهائي للفيلم، ثم سافرت وعدت ثانية بعد وفاة غائب عام (1990)، إن فيلم (ذاكرة وجذور)، هو أنا لكن مادته هي غائب، فأنا وهذا الأديب الكبير توحدنا في هذا الفيلم".
نال غائب طعمه فرمان العديد من الجوائز الرفيعة والقيمة، تثميناً للجهد الذي بذله في ترجمة كتب وأعمال العظماء من رواد الأدب السوفيتي مثل: (أعمال تورجنيف في خمسة مجلدات، القوزاق لتوليستوي، مجموعة قصص لدستويفسكي، مجموعة قصص لغوركي، المعلم الأول لايتماتوف، مجموعة أعمال بوشكين، لاشين عملاق الثقافة الصينية).
كان غائب طعمة فرمان، حاضراً دائماً مع الكتاب والنقاد العرب، في دراساتهم النقدية وفي كتبهم وأحاديثهم، وتمثل ذلك الحضور في إطروحة الدكتوراه للطالب: (زهير ياسين شليبه) في معهد الاستشراق الروسي عام (1984)، الذي تناول بالبحث والتحليل نتاجات غائب طعمه فرمان، ووصف رواية (النخلة والجيران) بأنها "رائعة الأدب العربي الحديث" معتبراً إياها أول رواية عراقية فنية تتوفر فيها مقومات النوع الروائي بمواصفاته الأوربية الحديثة). وكتاب (الأستاذ أحمد النعمان: "غائب طعمه فرمان .. أدب المنفى والحنين إلى الوطن"، في عام (1996)، الذي أحتوى على مجموعة من المقالات لكتاب عراقيين معروفين كرست كلها للأديب الراحل غائب طعمه فرمان وذكرياتهم معه)، وكتاب (الدكتور زهير ياسين شليبه): "غائب طعمه فرمان .. دراسة نقدية مقارنة عن الرواية العراقية" عام (1996).
وتحدث عنه (جبرا إبراهيم جبرا) قائلاً: "يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي الوحيد، الذي يركب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيباً حقيقياً"، أما (محمد باروت) فقال: "كان غائب عراقياً في كل شيء حتى في الرواية التي رآها (برلمان الحياة الحقيقي)، إذ كثف في هذه الرواية كل فهمه لطبيعة الرواة ووظيفتها، ففي قاع الحياة الشعبي، وقائعه وأحداثه وعلاقاته وتفاصيله ومشاهده، تنهض رواية غائب وتتكون، وكأنها ترتقي بنثر الحياة اليومي، هذا الذي يبدو معاداً ومكروراً وأليفاً إلى مستوى الملحمة والتأريخ، أي إلى مستوى الكلية"، وتحدث عبد الرحمن منيف عن غربة غائب قائلاً: (لا أعتقد أن كاتباً عراقياً كتب عنها كما كتب غائب، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول وفي كل الأوقات، وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على أواخر الأربعينات والخمسينات، لابد أن نعود إلى ما كتبه غائب"، وتقول الدكتورة (يمنى العيد) عن رواية المركب: "المركب وسيلة عبور وعنوان مرحلة للمدينة التي غادرها غائب ولم يعد إليها، المركب لا تحكي الماضي، بل الحاضر المكتظ بالمعاناة التي تدفع راكبيه إلى الالتفات إلى ماضيهم بحسرة"، ونشر (محمد دكروب) ذكرياته مع فرمان. وكتب (سعد الله ونوس) عن العلاقة التي كانت تربطه بالراحل غائب طعمه فرمان.
بعد عرض فيلم (ذاكرة وجذور) للمخرج فاروق داود، أختتمت هذه الأمسية الثقافية وسط دهشة الحاضرين، وظل السؤال يدور في الرؤوس، في أي من الأزمان نحن ندور؟ وكأنما التاريخ يعيد نفسه، أو كما يقول (فيصل دراج) في تقديمه لرواية النخلة والجيران: "إنها رواية عن الأمس بقدر ما هي رواية عن اليوم، فقد يختلط الأمس باليوم حتى الذوبان".
كانت هذه الأمسية آخر نشاطات المركز الثقافي العراقي في السويد، بعد قرار وزارة الثقافة العراقية بإلغاء كافة المراكز الثقافية في الخارج.
نشرت هذه المادة في شبكة الكومبس الإعلامية.