سلوى الجراح..بين ضنك الترحال ... /نجم خطاوي

في حديث صحفي تجيب على السؤال..أنت فلسطينية ماذا يعني لك العراق ؟ بأن فلسطين أمها التي ولدتها والعراق أمها التي ربتها ...

هي سلوى جراح الاعلامية والصحفية والروائية ابنة مدينة حيفا, الفلسطينية المولد والعراقية الطفولة والمدرسة والصبا والمنشأ حيث حطت رحلها للعيش في البصرة عام 1950 قادمة من فلسطين يوم كانت في الرابعة من عمرها, وبرفقة الوالد القادم للعمل مهندساً في شركة نفط البصرة.

نستضيفها اليوم في رابطة الانصار الديمقراطية في السويد امتناناً واعتزازاً بسعيها وجهدها ومنجزها الثقافي الأدبي, والإعلامي الابداعي ولسنوات طويلة ومنذ ابتدأت خطواتها الأولى مذيعة ومقدمة برامج في البي بي سي وعبر أسماء برامج متميزة ( موزائيك- الواحة - لكل سؤال جواب - ندوة) .

نستضيفها ايضاً كروائية مثابرة ومتميزة تعبيراً واعتزازاً برواياتها الست وبكل بالمنجز الروائي العراقي, الذي بدا في الارتقاء والتميز في السنوات الأخيرة وعبر مجموعة من الأسماء لكتاب وكاتبات يحق لنا الفخر بهم.

بين بحر البصرة وشمسها وكركوك وقلعتها وأسواقها وبغداد بكل سحرها وأسرارها تنقلت ومرت بذكريات الصف والدراسة والصداقات, ومن ثم دراسة الأدب الانجليزي في جامعة الحكمة في بغداد- الزعفرانية..

في الاذاعة والتلفزيون في بغداد كانت لها رغبة وحلم أن تواصل العمل الذي أحبته ولكن الممنوع كان أكبر من الرغبة..

غادرت العراق الى بريطانيا عام 1977 لتعمل لاحقاً كمقدمة ومعدة لبرامج في هيئة الاذاعة البريطانية ولمدة زادت على 22 عاماً.

تجربتها في كتابة الرواية تمتد لعشرة سنوات مضت, ومنذ صدور روايتها الأولى ( الفصل الخامس) عام 2005 والتي ضمنتها تجربتها في العمل الاعلامي.

في عام 2007 أرادت أن تنقلنا لاستذكار فلسطين أيام عشرينات القرن الماضي وعبر روايتها ( صخور الشاطئ).

بعد عامين وفي 2009 تعود لتغور في تفاصيل محنة وعيش الفلسطينيين في لندن بعيدا عن الوطن والجذور.

ولأن العراق وأهله ومدنه ظل هاجسها ووشماً في ذاكرتها, ولقربها الحميم من مجاميع العراقيين الذين اتخذوا من لندن وغيرها أوطاناً يوم عز العيش في الوطن, شرعت في الكتابة عن عوالم وفضاءات العراقيين في المهجر وعبر رواية ( بلا شطآن ) الصادرة عام 2012.

(صورة في ماء ساكن) الصادرة عام 2014 هي روايتها الخامسة

(( تمتد أحداث هذه الرواية الى خمسينيات القرن الماضي إلى ما بعد احتلال العراق عام 2003، لتروي حكاية الجمال والخير الذي استكان في ماء لم تعد لديه القدرة على الحركة والترقرق، بعد أن فقد لحظة الصفاء الأولى.  الشخصية المحورية في الرواية، رسامة عراقية تروي للقارئ حكاية عمرها في بلد تصف أحداثه المتلاحقة وتأثيرها على حياة الناس بأنها تفوق كل ما يمكن أن يتفتق عنه الخيال، حـتى يجبر الكثيرون على هجر الأوطان.  )). 

أخر ما كتبته الروائية سلوى جراح كانت روايتها السادسة ( أبواب ضيقة ) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2015, مع الأمل الكبير في أن تواصل الكتابة و اغناء المكتبة الروائية العربية والعالمية بأعمال ابداعية متميزة قادمة .

نحلق طويلا في حلم الشخصية الرئيسية في الرواية ( نوار حمدي الصاحب) وهي تكتب في ألم وحرقة وعذاب روحي لتصف لحظاتها الأولى وهي وسط مدينتها بغداد التي عادت اليها في عام 2003 بعد فراق قسري دام سنوات طويلة :

(( جلست في السيارة صامتة, عيناي تبحثان عما تركت ورائي)).... وهي صور ولحظات نتذكرها جيداً نحن الذين عدنا للوطن ثانية بعد 2003 وبعد غياب قسري طويل, صور ولحظات عذبتنا جميعاً نحن الذين اكتوينا بنيران الفراق وهجر الوطن والبعد عن الجذور الأولى, وبقيت ملامح صور تفاصيل جغرافيا الأمكنة ورائحة الأحداث عالقة في الذاكرة أينما حللنا وأقمننا في أرض الله.

اذن فنوار وبنفس العينيين اللتين تمتعا طويلا بمشاهدة صور المدينة والأصدقاء والشوارع والأزقة والصداقات والضجيج, تريد أن تعيد بعضاً من لذة ومتعة التبصر لهذه التفاصيل, والتي تبدو قد تلاشت وأصبحت ركاما, ولتحل محلها صورا لم تألفها عينا نوار وخيالها... وتمضي في سرد هواجسها :

(( انشغلت صديقتي وشقيقها بحديث طويل يكاد لا ينقطع. درت بعيني في كل ما حولي علي أجد ما علق بذاكرتي ولم تعد عليه السنين. استوقفتني هذه الرمادية البشعة, الجدران الكونكريتية التي تعلو فوق البيوت, وتحجب الطرقات والأحياء وقد تجمعت قربها دوريات الجيش بملابسهم الجديدة التي تشبه ملابس الجيش الأمريكي ...بدوا غرباء عن الذاكرة ...راعني هذا الغبار الذي تراكم على كل شيء الشوارع والبيوت والأشجار ووجوه الناس. قلت لنفسي مواسية هل نسيت الطوز ؟)).

ربما سيكون طرق الأبواب الضيقة ودخول عوالمها أكثر سهولة في ما لو أتيحت للقارئ والمتتبع فرصة اكتشاف وقراءة عوالم سلوى جراح الروائية الخمسة التي سبقت ( أبواب ضيقة ), إلا أن من المؤكد أن الكاتبة في هذه الرواية قد راكمت كل خبراتها العملية والروحية التي استمدتها من عوالم الكتابة الروائية, ومستفيدة من مدى إحساس و تباعد وتقارب القارئ معها, سوية مع نضوج ووضوح تفاصيل الخوض في تجربة العمل الروائي وبكل ما يعنيه من قراءة بعيدة النظر وحساسة للماضي وتجلياته ارتباطاً بتشابك الحاضر وتعقده وضبابية القادم المستقبلي.

عشر سنوات تفصل بين كتابتها لعملها الأول ( الفصل الخامس ) وبين كتابتها لروايتها الأخيرة (بواب ضيقة ), وهي فترة طيبة أمدت الكاتبة بفيض ثري من الوضوح وقدرة الرؤية للأشياء والظواهر ولأمكنة مع اتساع في ما تمنحه الحياة من خبر وتجارب يومية مع الاطلاع المستمر لخفايا وأسرار وعوالم عوالم العمل القصصي والروائي عالميا, والذي اتسع ويتسع يوميا وهو يطفح بالكثير من التجارب والطرق التي تذهب بعيداً في تقديم الأنضج والمثير والممتع.

في الرواية تبتعد سلوى جراح عن الشكل النمطي التقليدي في الكتابة, النمط المعد سلفا ومعه مفردات لغته وصوره وطريقة سير الأحداث, حيث تمزج وبدون تصنع وكلفة بين أزمان مختلفة ومتلاحقة, ومعها بالتأكيد تضاريس أمكنتها وأريج لحظاتها, وعبر سرد قصصي يبدو بسيطاً وبمفردات تشبهنا ونشبهها, إلا أنه يحمل بوضوح شحنات متدفقة من طاقة وبريق المفردة وقدرات اللغة في التعبير والإيحاء.

بعيداً نمضي مع الكاتبة لتحدثنا عن سنوات الطفولة في البصرة وبكل تفاصيل وجمال اللحظات وهي تؤرخ لرائحة البحر والشط والسفن والمراكب والبلامة والبحارين والصيادين والأسواق والناس البسطاء, ثم لنواصل معها الرحلة الى مدينة النار والقلعة والشوارع العريضة كركوك حيث ينتقل والدها للعمل في شركة النفط هناك, حيث نتعرف على زميلة نوار في رحلات الدرس (فاتن), وأبيها وجدها وتلميذات الدراسة اللواتي رافقن ( نوار) في دراستها وحياتها هناك.

وفي بغداد يكتمل فصلاً أخر من فصول الرواية حيث تحط العائلة رحلها للعيش هناك, اذ تصور الكاتبة وببراعة وحميمية عوالم وفضاء الأجواء الدراسية الطلابية العراقية في واحدة من أعرق الكليات هناك كلية الآداب, وبكل ما تحمل من ثرى ونضوج وقيمة فكرية وثقافية يندر أن نجد مثلها اليوم.

رغم مرور الرواية في سرد وعكس الكثير من الأحداث السياسية التي طبعت تلك الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية إلا أن هم الكاتبة من وجهة نظري لم يكن يبغي سرد وقائع وتفاصيل تلك الأحداث بالقدر الذي توخته من أن هذه الأحداث قد سبب الكثير من الأذى والألم لشخوص الرواية وللعراقيين جميعا, ومنها الافعال الشنيعة التي ارتكبت بعد شباط 1963 المشئوم وحوادث العنف في زمن قاسم, ومن ثم اضطرار (فلاح المشعل) (ونوار) لترك العراق عام 1977 لخوفهم من أن مصيراً كالحاً ينتظرهم.

سلوى جراح تواصل الخطى بين ضنك الترحال وتشابك الأزمنة ووسط دخان الحرائق في المدن البعيدة, وهي تمنحنا في ما تكتب الفرصة والوقت للتمعن طويلا في سلسلة ومتواليات الأحداث والمصائر التي مرت بأوطاننا, وصراخها واحتجاجها صرخات بدون أحقاد وضغائن ضد كل أصحاب الجاه والسلطة الذين يريدون دوما تعكير نقاء الأشياء.