قرار صعب/ سمير الأسعد                                          

قصة قصيرة :

التقيتها في مثل هذا الصباح الشتوي الشاعري ، مطرٌ خفيف دون رعدٍ أو برق ، الشوارع مبللة بالماء ونسمة هواء باردة تلفح الوجوه وتطير الشعر وتداعب الأحاسيس والمشاعر.

لم اعرف كيف تطورت العلاقة بيننا ولكن ابتسامتها الصغيرة دغدغت عروق قلبي ، مجرد ابتسامة ، تبعها حديث ولقاء وحيد ، وها أنا الآن في الطريق الى بيتها كي أخطبها .

رفض أهلي ان يأتوا معي بحجة أنني صغير السن على الزواج ، وان العلاقة التي جمعتني بها كانت سريعة جدا ، ولكن إصرارها وموافقة أهلها شجعني ودفع قدمي على الإسراع والوصول بسرعة الى باب بيتها الذي فتح بعد ان قرعت الجرس.

صكت مسامعي ضحكة من وراء باب مقفل وأنا اجلس على كنبة في صالون البيت . البنت الصغيرة التي فتحت الباب اختفت دون ان تتفوه ولو بكلمة واحدة ، مرت ربع ساعة وأنا جالس مكاني .. تحيط بي خيالات من البهجة والسرور وخيوط غزلت مستقبلا أراه أمام عيناي مليء بالسعادة والمحبة وراحة البال .

مرت ربع ساعة أخرى وبدأت اشعر بالقلق والملل ، ولكني عزيت الأمر الى ان التحضير لاستقبال عريس في العادة يأخذ وقتا أطول من المعتاد .

أخيرا سمعت الباب الخارجي يفتح وصوت أقدام تقترب من الصالون ، وفجأة اقشعر جسمي ووقف شعره عندما رأيت وجه كلب يطل علي من وراء الستارة التي تفصل الصالون عن ممر الباب الخارجي .

كان له رأس كبير وهو يلهث كاشفا عن أنياب طويلة داخل فم عريض ، أصابني الذهول لأنني توقعت ان يطل احدهم برأسه من وراء الستارة بعد ان سمعت وقع تلك الأقدام البشرية ولم أتوقع كلبا بهذا الحجم ، وبرغم الموقف الحرج الذي أنا فيه الا أنني لمحت طوق الكلب الملتف على عنقه لا يربطه رباط او حبل ، إذن الكلب حر دون قيود إضافة الى شراسته وحجمه الذي فاق كل توقعاتي .

اقترب الكلب مني قليلا ثم نبح بصوت هائل جفف الدم في عروقي وتردد صوته في تلافيف مخي الذي طار من مكانه ووقع على الأرض تحت قدميّ .

رأيت قبرا رسم على شاهده رأس كلب ضخم تحته اسمي ، المرحوم صريع سعار كلب من سلالة حيوان الماموث المنقرض.

اقترب الكلب اكثر وأنا متجمد في مكاني وليس لي سيطرة على أي عضو من أعضائي ، وبدأ يتشممني ثم وضع قائمتيه الأماميتين على ركبتيّ وقرّب وجهه من وجهي وشممت رائحة أنفاسه ، في اللحظة التي اطل شخص كبير الرأس من وراء الستارة ونهر على الكلب الذي قفز بسرعة وانطلق نحوه ثم اقعى على الأرض بجواره .

ربت على رأسه وهو يوجه الحديث لي سائلا : ما رأيك بجوجو؟ لطيف ها ؟ نحن نرغب دائما بقياس قوة وبأس وشجاعة من يتقدم لخطبة بناتنا . الظاهر انك تخاف كثيرا وهذا مزعج .

 نحن لا نعرف الخوف أبدا وبناتنا تحتاج رجالا لا تهاب شيئا كي تحميها .

وإذا لم تكن رجلا تحميها نلقنك درسا لن تنساه أبدا  .. ... جوجو ! قفز الكلب وشعرت بثقله وهو يرميني على الأرض وأنفاسه الساخنة تداعب انفي وخيط من الزبد يسيل من فمه اتجاه وجهي ثم استيقظت وأبي يهزني بقوة وأنفاسه الساخنة تهاجم وجهي ويقول : "هيا استيقظ ، العرق يغمر وجهك ، هل كنت تحلم ؟ ساعة فقط تفصلنا عن الموعد لطلب يد تلك الفتاة التي أعجبتك وتريد خطبتها" .

كان الإحباط والخوف والاشمئزاز هو الملازم لنفسيتي التي تحطمت ونحن نسير على الرصيف باتجاه بيتها .

الكابوس الذي عشته والذي أعطاني إشارة قد تكون حقيقية او مجرد وهم او خوف من حياة متغيرة كيلا ارتبط بهذه العائلة او حتى بغيرها في الوقت الحالي ، ولكن يجب توفر مبرر قوي خاصة أننا على موعد مسبق ولا مجال للتراجع الا .... اذا كنت معاقا او مصابا ، واتخذت القرار... وفي اللحظة التالية تعالت عدة صرخات وأنا أتدحرج أمام تلك السيارة المسرعة والتي ارتفع صوت فراملها تحتك بالأرض ، ولكن فات الأوان على سائقها كي يتفادى الاصطدام .

 

  • قاص من فلسطين

 

قصة قصيرة :

على باب الله

كان ذلك من ثلاث سنوات بالضبط في مثل هذا الوقت ، لم تزح عينيها عن عقارب الساعة التي تدور بلا توقف وتأخذ معها جمالها وشبابها ، لم تمقت في حياتها اكثر من هذه العقارب السامة التي تكشف عورات  العمر قبل أن تلدغ وتنفث سمها الذي يؤدي حتما الى الهرم ومن ثم الموت .

عاشت مع أمها وبعد وفاتها ومقتل أبيها على يد مستوطن أثناء عمله في حقله الذي صودر فيما بعد وبني عليه جزء من جدار الفصل ، امتهنت حرفة الخياطة لملابس النساء ، والآن صار لها من العمر الكثير وقل زبائنها وتطورت آلات الخياطة وزاد عدد الخياطين ، في ذلك اليوم من رمضان دخلت عليها جارتها أم الزين تحمل لها قليلا من الفجل ورأس ملفوف ومبلغ بسيط من المال.

- من خير الله

- ما لوش لزوم . ربنا ساترها

- رمضان كريم ، والخيرين كثار

- بس أنا مش محتاجة

- يا ستي ، أنت أولى الناس

من ثلاث سنوات وهي تقبل الصدقات وكلما زاد تقبلها كلما زاد مقدارها وتنوعت بين المال والطعام واللباس وغيرها من الهدايا والعطايا .

هي الآن في الثامنة والخمسين من عمرها تعيش وحدتها من رمضان إلى رمضان الذي يأتي ومعه طوفان من الخيرات .

في البداية كانت تخجل وتطأطئ رأسها كلما تسلمت شيئا من احد مع الكثير من الدعاء والشكر ، ومع مرور الأيام جف لسانها وسال قلمها الذي يكتب الأسماء ويدون الكميات والمقادير في دفتر كبير منتفخ أخفته تحت سريرها داخل بقجة من الملابس القديمة .

  • زينب صارت تخاف عالقرش

    - والله يا جارتنا زينب ما في عندها لا ولد ولا جوز يصرف عليها لازم تحسب حساب المستقبل .

    -   بس أنا مش عاجبني عفش دارها ، قديم ومخلع وشبابيكها مخلعة وحمامها لازمو تغيير ، عارفي أنا لازم أشوف جوزي خلينا نجمعلها شوية تبرعات .

- بس يا جارتي أنا بتهيألي إنها بتبخل على حالها وما بتوخذ بالها من صحتها .....

وتستمر أحاديث النساء وثرثرتها وفي الغالب تميل إلى جهة الانتقاد والسخرية .

في رابع أيام رمضان حملت زينب سلتها البلاستيكية على رأسها ونزلت إلى السوق وفي طريق عودتها ناداها أبو عدنان  من وراء بسطة الخضار فالتفتت إليه وأفلتت يدها الممسكة بالسلة لتشير إليه بالسلام في اللحظة التي اصطدم بها أحد الأشخاص فسقطت السلة إلى الأرض وتبعثر ما فيها ، وفي تلك الليلة أبدى أبو عدنان لزوجته استغرابه من احد الأشياء التي سقطت من سلة زينب والذي كان يلتف بقوة حول جسم دائري صغير. استغربت أم عدنان بدورها كثيرا وجافاها النوم وهي تفكر ماذا تفعل زينب بهذا الشيء .

 فكرت وفكرت إلا أن عقلها لم يتوصل إلى فائدة ذلك الشيء لامرأة عانس وتعيش وحدها .

لم تعاني زينب من أية أمراض رغم تقدمها في السن واحتفظت بخصوصيتها وحددت علاقاتها وكانت تخاف كثيرا من العتمة ، إذا سئلت عن حالها تقول جملتها المعهودة " على باب الله " .

كلنا على باب الله ننتظر رحمته وجوائزه وكلنا لا نملك لحالنا شأنا ترافقنا إرادية ولا إرادية الحركات وتحكمنا أقدارنا في الفشل والنجاح .

لم تنجح في استدراج الحب لقلبها في شبابها وعندما هرمت هاجمها صدفة فيض من عشق للمال الذي يشكل بديلا للدماء داخل العروق.

 توصلت أم عدنان الى فكرة راقت لها وضحكت عليها كثيرا عن محاولة زينب تغيير نمط حياتها في الحب للبشر وأنها يمكن أن تكون قد توصلت الى احدهم ممن عاف النساء في صغره او ماتت زوجته عنه وتركته وحيدا يقاسي الوحدة أو ممن لم يجد الوقت المناسب لتشكيل أسرة في خضم الأعمال والأشغال ، او ممن كانت لديه عقدة من النساء عندما عاش ذكرى إحداهن وهي تخون ما وجده في داخله ضد الخيانة والغدر ، وإلا ماذا يعني وجود تلك الصورة في حوزتها تغلف تلك الكرة ؟ هي فعلا تنقصها الملذات وتنقصها لذة الاستمتاع بكل خيرات هذه الأرض الفسيحة إلا أن متعتها كانت في قضاء أيام الجمع في الحديقة العامة في طرف الحارة تراقب الأطفال الصغار وهم يلعبون ويلهون ، وكانت لا تكلم احدا الا ما ندر، ولكنها كانت تقضي وقتا أطول قليلا من المعتاد عندما كانت تشتري البليلة من العربة المزركشة والبائع ذو الوجه الجامد والعبوس.

احترم الجيران صمتها وحبها للعزلة وكانوا كثيرا ما يترحمون عليها في أحاديثهم ويثنون عليها بعبارات الشفقة والعتاب أحيانا على بخلها في المال الذي يمطر عليها في كل الفصول ، وكان كثير من شبان الحارة يتندرون عليها ويسبغونها بصفات أسطورية مخيفة ويحاول بعضهم مضايقتها والتحرش بها علهم يكسرون الهالة التي أحاطت بها نفسها .

مشى رمضان ببطء اتجاه منطقة العيد الذي فرش ظلاله على أطراف الشهر الفضيل وازدادت حركة الصدقات التي تسقط على بيت زينب كما هو الحال في كل عام ، ثم فجأة .. اختفت زينب ، في اليوم الذي يسبق وقفة العيد اقفل باب بيتها تماما ولم يعد يفتح ، الجميع يطرق كل منافذ بيتها دون جدوى . في يوم الوقفة استنفرت كل الحارة التي بدأت في البحث عنها في كل مكان ; داخل آبار المياه والآبار المهجورة وفي الكهوف وداخل خزانات المياه دون جدوى .

الاستغراب سيد الموقف ولم تفلح أية تكهنات في معرفة لغز اختفاء زينب .

شعر الجميع بالحسرة ولم يعد انتظار العيد يضفي كل البهجة والسرور ، حتى الأطفال الصغار بدا عليهم الوجوم والتحفز لسماع أي خبر طالعه شر .

 اقترب صباح العيد وما زال الكل يترقب كون حدثا غريبا مثل هذا يقلب أمور الناس ويلملمهم  وينسيهم أحقادهم وخلافاتهم ، وفي عقل ابو عدنان لمعت شرارة بوهج ذلك الشيء الذي كانت تحمله زينب وسقط منها شعر بثقل عقله في رأسه وهو يحاول تقليبه وحثه على محاكاة ذلك الشيء دون جدوى .

في السابعة صباحا وقبل صلاة العيد بقليل بدأت الحياة تدب في الأفواه والوجوه المقطبة والحزينة وانتشر خبر رمته إحدى النساء من شرفة منزلها أن الراديو يبث خبر عمليات طعن كبيرة داخل إحدى مدن الداخل المحتل وأنباء عن إصابات بالعشرات .

 تناسى الجميع بروتوكول العيد وأسرعوا إلى بيوتهم وارتفعت أصوات التلفزيونات وهي تنقل صور المئات يتدافعون في كل مكان وسادت حالة من الهرج والمرج والفوضى وصوت الناطق باسم الجيش يفيد بأن الأنباء الأولية تشير الى عمليات طعن خاطفة داخل احد الأسواق المكتظة نفذتها امرأة فلسطينية أدت الى مقتل وجرح العشرات والغريب في الأمر هو الطريقة الإبداعية التي استخدمتها في القتل .

- زينب !! صرخت أم الزين

- آنت مجنونة ... مستحيل

في هذه اللحظات أظهرت الكاميرات صورة جثة ملقاة على وجهها في طرف إحدى الشوارع غطيت بأوراق صحف مشربة بالدماء وبصورة تشريحية.

- هي زينب ، عرفتها من شكل رأسها ومن الصورة التشريحية التي يغطون بها قدميها.

ويستمع مذيع القناة الإخبارية من الأستوديو إلى حديث المراسل العسكري في الميدان بقوله :

هذه من أكثر العمليات التخريبية دموية وحنكة ، لقد ابتكرت الإرهابية طريقة عجيبة في القتل حيث ربطت حول وسطها ماسورة من الألمنيوم المقوى ولحمت بها سكينا حادة جدا من الأمام وحملت طفلا صغيرا في حضنها تبين انه لعبة بلاستيكية وقامت بالاندفاع بسرعة وتظاهرت بأنها اصطدمت بامرأة وغرست في بطنها السكين وما إن وقعت على الأرض حتى صرخت هي بأعلى صوتها بالعبرية "مخرب " ، " مخرب يطعن بالسكين" فتدافع الناس بكل اتجاه وهي تركض معهم وفي كل اتجاه تمشي به يسقط احد الأشخاص مضرجا بدمائه ، وقد جن الجميع وهم يرون العشرات يسقطون دون أن يشاهدوا الفاعل .

صدقوني إن قوات الأمن وبعد فوات الأوان استطاعت أن تحدد القاتلة وتجهز عليها .

حالة الرعب السائدة لم أشاهد لها مثيلا من قبل .

وكيف لم ينتبه لها احد قبل أن تقوم بعملها مع أنها عربية و .... ؟ سأله المذيع

قاطعه المراسل : " لباسها يطابق لباس أية امرأة عندنا طاعنة في السن تلبس بنطال وقميص تفتح أزراره العلوية وتصبغ شعرها المفرود على كتفيها إضافة إلى أنها تكلمت العبرية دون أخطاء.

إذا استطاعت امرأة عجوز تقارب الستين من العمر اختراق أمننا بهذه السهولة ، فما بالك بالشباب ؟"

- إنها كارثة قومية بكل كلمات الخزي والإحباط .

نزلت دمعة من عين أم الزين متأثرة بالموقف ورفعت يديها إلى السماء تطلب الرحمة بعد أن عرفت أن الحب الذي كنته زينب آخر حياتها لم يكن اتجاه الرجال ..... أبدا .

  • قاص من فلسطين