قراءة في المجموعة القصصية ( دوائر الاحزان ) علي القاسمي/ جمعة عبدالله

نقف امام عمل ابداعي بحق . يحمل بصمات فكر ية وثقافية ,  متعددة الجوانب , من ميادين الحياة والواقع , بشكل واضح ,  لذا فأن المجموعة القصصية , تحمل نكهة ابداعية وخلفيات تقف وراءها , من الرؤية الثقافية والفكرية , في مميزات وسماتها الخصوصية  , بأن تحمل موقف ورأي  من القضايا الساخنة  , التي تناولتها احداثيات المتن القصصي . وهي تغوص في اعماق هموم الواقع والانسان .وحاول الاديب القدير بابداع , ان يعطي اهمية في تناول اهم معضلات التي تجابهنا وتدغمنا في حقيقتها الظاهرية    , لذلك عمل ان  يسكب قريحة المخزونة من المعارف بكل انواعها ,  وسكبها وصياغتها في قوالب قصصية , تبرز بشكل خاص مثبطات ومحبطات وخيبات واحزان الواقع الفعلي  , او الوطن والاوطان , التي تعمل على تدمير الانسان داخلياً , في محاصرته بالاحباطات المتكررة , او  في سيمات الواقع , في امتهان اساليب تعاطي  ,  النفاق والزيف والغش والانتهازية الوصولية , او التباهي الفارغ والخاوي والمتهرئ  ,   في واقعنا الاليم المحبط , الذي سلك سكة الانحرافوالزيف  , في دوائر الاحزان التي تقع على رأس الانسان , في متاعب يتجرعها بصور  شتى ,  هذه زبدة حصيلة الثيمات الحبكة الفنية , في محطاتها التعبيرية الدالة , والتي طرحتها بكل تداعياتها السلبية  في المجموعة القصصية ( دوائر الاحزان ) , في اسلوبية  تحمل مميزات خاصة , في البناء المعماري في المتن النص   , في توظيف  التقنيات المتعددة بانواعها  , التي استخدمت خاصية المحفزات في حكاياتها السردية , التي تحمل الاثارة والتشويق في جذب القارئ واغواءه في متعتها السردية الجميلة  , ولكن رغم هذه  الجمالية التبسيطية في لغتها الراقية ووضوح مسار سردها , في الحبكة الفنية الاحترافية بحق  , لتجعل القارئ يبحث ما وراء النص  , ويفتش عن الغاية والهدف والمقصود ,لقد  اعتنى بها الاديب القدير بشكل خاص في اظهارها  , في سبيل  تحديد هوية النص ودلالته الدالة , التي هي حصيلة انتاجية من مخاض الواقع بكل تجلياته . ان المتن السردي , مشحون بعدة وسائل تعبيرية وفنية  بليغة الاداء  , منها الانزياح في عقلية الموروثات , وكذلك الانزياح الى الاسطورة وتوظيفها في المضمون والمحتوى , في ابداع في فن القصة الذي  يتجاوز الواقع المألوف في القصة الحديثة , فهي تعتمد على جملة اسس متينة في الاداء  والتعبير والبلاغة  , في التقنيات السردية التي اتجهت  الابتكار المعاصر  , في صوغ العبارة السردية  , التي تحمل ممزات وخصوصية . في التركيز على الفعل  الداخلي , وافرازه الى الظاهر بالكشف المنطقي  , اي  اننا امام عمل ابداعي مرتب بهندسية التنسيق و الانتظام والاختيار , حتى في  العناوين المختارة  , ومنها عنوان ( دوائر الاحزان )  . التي تحمل فعل استفهامي , قابل للتفسير والتأويل . . لابد ان نسجل بعض الملاحظات في خصوصيات وسمات المجموعة القصصية ( دوائر الاحزان ) .

1 - توظيف المتن السردي , لغاية وغرض بما يحمل في طياته معارف ثقافية وفكرية , في استغلال لغة جميلة مبسطة , في ارتكازات على المحفزات  التشويقة  , التي تعمل  في تحفيز  أثارة  العقل  ,  في مدخلات ,  لكشف مواضع الايحاء والترميز , ومعنى التعبيري المثار  .

2 - استخدام الاسطورة والتناص في النص  , في اسلوب التراجيدية الكوميدية , او السخرية الانتقادية , في ترجمة خيبات ومحبطات  الواقع .

3 - اسلوب ابداعي  في جر القارئ بالمغريات التشويقية السردية  , في سبيل وضعه امام معضلات الواقع العام , الذي يسير بشكل اعوج في قضايا الملحة  ,  الحرية والحقوق والتربية التعليمية  , والعقلية السائدة , في الاستعلاء  . في الجهل والتجهيل , في الزيف والغش والتزوير , وكذلك في الانتهازية الوصولية , التباهي الخاوي والفارغ , وكذلك خطل منهاج التعليمية , في انتاجيتها التي تخلق الانسان ,  الهزيل القابل للانهزام في اول خطوة في نشوب  الاحداث الطارئة , لانه لايملك حصانة ومناعة الوعي بالعقل الناضج , الذي يكون مؤهل وقادر على  مجابهة الاحداث الطارئة التي تمس حياته ووجوده .

4 - اعتمد على لغة عربية فصحى راقية وجميلة في اسلوب بناءها ومفرداتها  , وغياب بشكل كامل استخدام او تطعيم النص باللهجات العامية والمحلية

5 - اعتقد من خلال مطالعتي على  الكثير من القصص الاديب القدير ( علي القاسمي ) بأنه من انصار طهرانية النص القصصي , اي  الابتعاد كلياً عن  الاجواء الايروسية والايروتيكية , وعدم الاقتراب من حافاتها .

لنأخذ عينة من قصص المجموعة , رغم ان كل قصة تحمل جمالية الابداع ,  والرؤية الفكرية والمضمون المعبر  .

1 - قصة ( فطور الصباح ) : بحجة يأخذنا في جولة صباحية , لكي يرسم لنا  الواقع الحياتي بكل تفاعلاته , ومثبطاته في الغش والسرقة والانتحال كأنها مظاهر يومية عادية وروتينية  , وضجيج الكسل والبطالة والمقاهي بين مقهى ومقهى , مقهى ,  لتعج بالموظفين والعاطلين عن العمل , في واقع روتيني موبؤ بالزيف , ودس الاخباربالكم الهائل ,  في مظاهرها الدموية العاصفة , التي تجعل الانسان في حالة احباط وحيرة واستغراب وضياع  من هذه المثبطات , التي تهجم عليه في اسراب غربانها السوداء

2 - قصة ( الخطر ) :  رمزية القصة وايحاءه البليغ  , تؤكد بأن الانسان في  واقعنا , غير مؤهل لمجابهة الطوارى , وفحص الحكايات والاشاعات والظواهر الطارئة فجأة   , لانه لايحمل الثقافة الواعية , التي تتحرى في فحص دقائق الاشياء الغرائبية بالتحليل المنطقي  , بسبب عقليته المبنية على الهزيمة  ,  والهروب في اول  مجابهة الطوارئ المستفزة , يعني  فشل ثقافة المجتمع , التي تعتمد على الجهل والتجهيل , وكذلك فشل مناهج التعليمة , التي تخلق الانسان اللامنتج , ليس له  مناعة وحصانة في مجابهة الاحداث المستفزة الطارئة  , ان انساننا العربي مدجن على روحية  الانهزام  , ورفع الر اية البيضاء , في هول الخوف وتعظيمه بالمبالغات الغرائبية  ,  يعتمد على الجهل في تحليل ومجابهة الامور  , وليس على تحليل  العقل الواعي والناضج , ازاء مجابهة شتى الطوارئ بما فيها الاشاعات . وحكاية في بساطتها السردية , بأن ثلاثة من الطلبة المدرسة الابتدائية , شاهدوا شيء غريب يتحرك قرب ضفة النهر , فأثار في نفوسهم  وروعهم الخوف والرعب والفزع , ونقلوا  الخبر الى مدير المدرسة , وسرعان بث الخبر ,   الخوف والرعب في صفوف اهل القرية من تداوله وتأويله في الاضافات في  المبالغات الغرائبية المفزعة  , بعضهم رحل من القرية , قبل وقوع الخطر الجسيم  القادم , وبعضهم اغميَ عليهم من الفزع ونقل الى المستشفى . وخلال انتشار الرعب والفزع , قرروا  المفاوضة الاستسلامية  ورفع الراية البيضاء  لهذا المخلوق العجيب والغريب , وربما تقف  وراءه مخلوقات من كواكب اخرى ارادت الانتقام من القرية  , او  لتثير الفزع والموت , وجعل القرية تعيش على  كوابيس الموت  , وفي النهاية , اتضح حقيقة  هذا المخلوق الغريب , بأنه ذكر السلحفاة , تضعنا القصة في اسلوب الساخر بالانتقاد اللاذع لموجودات الواقع الهزيلة

3 - قصة ( في الهواء الطلق ) : احداثيات السرد , تضرب عصفورين في حجر واحد , تجاه الواقع وعقليته وثقافته التربوية , الاب يهدي الى  طفلته  الناجحة في مدرستها , قفص ابيض  فيه عصفورين ( كناري ) كهدية تسلية لطفلته , وتضعهما في غرفتها , لكنها تلاحظ سلوك غريب من العصفورين . بأنهما يرفضان الدخول الى القفص , في حالة احتجاج ورفض  إلا بعد جهد متعب ومرهق , ثم تبيض احدى العصفورتين , بيضة صغيرة الحجم بصورة غريبة , يعني عدم التكيف للجو الذي يسلب حقوق حريتهما . ثم الشيء الغريب الاخر , حينما يسمعان الموسيقى , يصيبهما الهدوء والسكينة والاصغاء المتشوق  , وهي تدل دلالة بالغة , بأن الموسيقى غذاء روحي , لا يمكن الاستغناء عنه , وتعبت الطفلة من السلوك الغريب من العصفورين , فأشار والدها , بأنهما لم يتعايشا مع الجو المحاصر والقفص السجن  , اي سلب حريتهما , وحين فتحت باب القفص , حتى طارا العصفورين  في الفضاء , بعيداً عن سجن القفص . ان الدلالة الرمزية , هي الخطل في اسلوب  التربية  في ثقافة  الطفل وتنمية عقليته , كما يفعل بعض الاباء في خطأ فادح , في شراء الالعاب النارية والمسدسات , بحجة ادخال الفرح والسرور عند الاطفال , غير متبصرين  العواقب الناتجة  في السلوك والتصرف فيما بعد .

4 - قصة ( الكاتب الكبير ) : احداثيات السرد , تحرث في المفاعل التعبيرية , للواقع المنخور بالثيمات , في الغش والزيف والتزوير والانتحال وسرقة  جهد الاخرين , والتباهي الفارغ , التي تقود الواقع الى الخراب والتحطم , وانتهاج سلوكيات انتهازية ,  لضحك على الذقون , وهي تؤدي بالنتيجة  خيانة المسؤولية . في تقمص زوراً  دور المثقف العليم وكاتب الشهير والكبير  , او صاحب الشهادة العلمية الرفيعة , هو في حقيقة الامر من هؤلاء المزيفين  , الذين يشترون ألقابهم العلمية الرفيعة بالمال  , او شراء جهد الاخرين بالمال , وانتسابه اليهم في  جهدهم الكبير والرفيع , وهم لم يكتبوا حرفاً واحداً  , ان ايحاءات هذه القصة في دلالتها البليغة , تنطبق تماماًِ على الواقع العراقي , اكثر من اي واقع اخر , في شراء الشهادات العلمية المزورة  , او الرسالات الاديبة العلمية بالشراء  المالي , وكم من اعضاء البرلمان العراقي , اشترى شهادته الموزرة , او زور شهادته الابتدائية او المتوسطة , بشهادات علمية رفيعة المستوى , مما خلق عندنا  النائب الغبي والجاهل , وحتى لو كانت شهادته المزورة تحمل لقب  الدكتورا , وهو اصلاً ,  خريج ابتدائية او متوسطة . هذا التزوير حطم الواقع العراقي بالخراب , ولكن المصيبة ,  يتم كل ذلك تحت سمع وبصر الحكومة والقضاء العراقي  , مثل هذا الكاتب الكبير والخطير والشهير  , وهو لا في العير ولا في النفير , وانما عنده القدرة على دفع المالي , ليسرق جهد الاخرين . وكم من الكم الهائل من حملة الشهادات المزورة , يتولون مناصب رفيعة وحساسة في الدولة

5 - قصة ( التحقيق ) وهي ترمز الى عقلية الاجهزة الامنية ( الشرطة ) التي تطبق الاوامر والتعليمات  , بشكل جامد ومتحجر بالانغلاق التام ,بذلك يتحول شعار .  الشرطة في خدمة الشعب , الى شعار .  الشرطة في معاناة الشعب وقهره واستلابه , في عدم سماع شكاوي المواطن , احترام المشاعر والحرية , هذه العقلية الجامدة, هي في واقع الحال تحطيم وثبط العزائم , وتلعب دوراً سلبياً  في تخريب المواطن ,عكس واجبه المعروف  . وحكاية القصة في بساطتها الجميلة , ذات بلاغة تعبيرية بليغة . بأن فتى مكافح وطموح ( راجي ) عمل المستحيل في جهده المضني , في سبيل مواصلة دراسته , بان يحصل دائماً على  الاولية في المدرسة , حتى وصل الى الحصول على الشهادة الثانوية , في ترتيب الاول في مدينته , مما ادرج اسمه ضمن اسماء البعثات الدراسية في الوزارة التي ترسل الى  الخارج , ليحصلوا على الشهادات العلمية على نفقة الدولة , وبقى على موعد الاختبار والمقابلة,   ربع ساعة فقط , لتبدأ رحلة الحلاوة المصير والمستقبل الزاهر , لكن سوء الحظ والقدر . استوقفه الشرطي بذريعة التعرف على الجاني , وساقه عنوة الى مركز الشرطة , رغم توسلاته , وذكر بأنه ينتظر مقابلة حاسمة تقرر مصيره , وطلب منه ان يتفهم الموقف  الانساني ,  ان لايقف عقبة في طريق مستقبله بحرمانه من المقابلة المنتظرة بربع ساعة   , لكن كل  توسلاته وتضرعاته , صبت في الفارع , وفي مركز الشرطة , بعد ساعتين من الاحتجاز اطلق سراحه , بعدما ذهب جهد السنين , والمكافحة المتوصلة , في تحقيق الطموح , تخلف عن موعد المقابلة , واختير اسماً اخر بدله   ,وضاع حلمه بالحصول  على شهادة علمية , , وعاد خائباً يلوك الدمعة والحسرة والحزن  على سوء القدر , الذي وقف حجرة عثرة في مواصلة طريقه الدراسي  .

6 - قصة ( دوائر الاحزان ) : استلهام مبدع في استخدام الاسطورة , وتوظيفها , لكي تنطق بمخالب وثيمات واقعنا , المتحطم , الذي يقود الى  ثبط العزائم  بالهزائم والاحزان , بأن يصيبنا  الانحراف والتيه والضياع ,  منذ الطوفان وسفينة نوح , عندما فرقت بين حبيب وحبيبته , وتأخذنا القصة في اسلوبها التراجيدية الكوميدية , لسخرية والانتقاد من واقعنا من  التاريخ القديم ولحد الان , نبحث عن حبنا الضائع في تلاليف الزمن المضاد لنا , كأنه يرفضنا ولا يتقبلنا  , وعوضنا بالاحزان والمعاناة , نلهث وراءها  كالوهم والسراب , بأننا نبحث  على حقيقتنا , الضائعة كحبنا الضائع  , ولم نجد سوى العثرات والمرارة الحياتية  , ولم نحصد سوى الخيبات والفشل والانهزام  , وتراكم المحن والشدائد , والكوارث الدموية علينا من كل صوب وحدب  , التي لم تنقطع فواجعها المدمرة  منذ موت ( دموزي . جلجامش . أنكيدو . أبراهيم . الحسين ) هذه المصائب والمحن التي نتجرع لوعتها الحزينة , في شهر محرم , شهر الموت والنكبات , التي تلاحقنا في هزائمنا , تلاحققنا في تخبطنا في الفوضى والضياع , تلاحقنا في الخراب , كأننا مسلوبي الارادة , كأنه  تسيرنا قوى خفية نحو حافات الهاوية  , الى حافات الخيبة والاحزان , هذه ايحاءات القصة , يعني ضياع الحب والهوية , ولكن في  اسلوب بارع في التعاطي الكوميدية ساخرة  في لون  تراجيديتها ,  التي تلاحقنا دون فكاك عنا