قولوا له أن يتركني/بديع الآلوسي

مات زوج السيدة العنيدة قبل ثلاثة عقود .. حينها كتبت على صندوق البريد ( غير ممكن أن يطالني الأذى ) . وسط غابة الدردار والبلوط والأرز يقع منزلها ، بسياجه الحديدي ، وبتلك الصخرة التي حفر عليها الزمن شكلا ً يشبه الكرسي ، فضلا ً عن كلبها البوليسي المربوط بجذع شجرة الجوز بسلسلة طويلة .

في هذا الصباح ، استيقظت العجوز ( كوليت ) ، على أثر صوت باغتها :

ـ أنهضي قبل أن يتوارى الصباح.

ـ اتركني بحالي ، بالله عليك ، فالساعة لم تتجاوز السادسة بعد .

لكن الصوت كان حازما :

ـ لا ، لا ، أتركي الكسل ، وأنهضي .

ما أن نزلت الدرج ، حتى فوجِئت بضوء النيون ، حينها فكرت أن نسيان المصابيح طوال الليل سيزيد من فاتورة الكهرباء .

تأهبت في خضم هذه الأفكار وأطفأت الضوء ، لكنها ما إن أدارت ظهرها حتى أضاء من جديد.

تساءلت بحيرة : ماذا بوسعي أن أفعل ؟

أحست بالخيبة أمام ذلك الضوء الأبيض البارد للنيون ، لكنها لم تتكدر كثيرا ، فتحت الشباك بصعوبة ، لامس وجهها المجعد نسيم الأول من أيلول العذب ، بدأ قلبها يرتعش حين سمعت : عليك ِ أن تتأملي جيدا ً شجرة الجوز .

راقبتها بلا مبالاة وقالت بصوت عال : سأراها هذا المساء ، هل ستطير.

وبرغم أن الشمس لم تشرق عليها بعد ، لكنها شعرت بالغبطة لأنها تملك اكبر شجرة معمرة ، ما لفت انتباهها أنّ بصرها الضعيف تحسس ذلك الصباح ، المعطر برائحة غريبة لم تألفها طيلة سنوات عمرها التي تجاوزت الثمانين .

قال : أليست لك رغبة في التمتع بولادة هذا الفجر .

ـ أرجوك ، أتركني أقرر .

بادئ ذي بدء شربت كوبا ً كبيرا ً من الحليب الدسم ، حينها قل الجفاف في فمها ، وتعجبت لماذا الصوت يحثها على الخروج في هذه الساعة المبكرة .

لم يتبادر إلى ذهنها يوما ً ، أن تراقب تفاصيل حياتها في زمن غبشي ، لا تعرف لماذا كانت تود أن تكون بمنأى عن هذه التجربة .

ما يزال النهار طويلا ً ، هذا ما تبادر إلى ذهنها .

لم يكن في مستطاعها سماع صوته ، لكنها حدست ربما أنه أراد أن يقول لها : إن الوقت يمر .

لذلك ردد بصوت واضح : نعم ، سأعد القهوة وسأخرج .

بيدين مرتجفتين أعدت القهوة ، وتساءلت :هذه القهوة اللعينة تحضيرها يحتاج خمس دقائق ، لماذا كل ما نقوم به يحتاج وقتا ًضروريا ً ومحددا ً ؟.

سرحت بأفكار أكثر غرابة ، معتقدة ً أنّ الزمن فوضى وعبث مطلق ، فهو ليست له بداية وليست له نهاية . قالت له : الزمن ! ما الزمن ؟ حال أن أنام يتلاشى مفعوله .

وضحكت هههههه

وهي تتخطى عتبة دارها ، استغرب الكلب ، الذي هز ذيله فرحا ً ، أما كوليت فقد أثارها سحر النهار الذي بدأ يتنفس ، ناشرا ً بهاءه على تلك الصخرة التي تحف بها الورود الصفراء والبنفسجية ، بدا الأمر بالنسبة لها مدهشا ً ، نعم ، حال خروجها شعرت كأن حواسها صحت من رقادها أو نهضت من رماد الشيخوخة .اتجهت صوب الصخرة ، وراحت تحتسي برويه قهوتها التي تعد من طقوسها المهمة ، الزمن بتفاصيله البهيجة جعلها تنزلق نحو ذكريات يصعب الإمساك بها .

فاجأها الصوت متسائلا ً :

ـ لماذا أنت مصرة على مراجعة طفولتك .

ـ أنا حرة ، دعني أتسلى كما أشتهي .

شعرت بنوع من الإزعاج لأنها لم تستطع أن تحدد الصور الأولى لطفولتها ، لكنها فجأة ً أصابها الاندهاش ، وكأنها عادت تتذكر و تكتشف خيوطا ً تقطعت ، على الرغم من إنها نسجت زمنا ً متحققا ًلكنه أشبه بالخيال ، نعم ، تسارعت الأحداث وأهال عليها الزمن أطنانا ً من التراب.

قالت : لماذا ننسى ، لماذا ايها الزمن تطمر ذكرياتنا ؟

اقتربت من كلبها ، واحتضنت رأسه بكلتا يديها ، قربت انفها من خطمه وأغمضت عينيها وهي تهز رأسها مداعبة ً ، أما الكلب فقد صار ينبح هلعا ً ، نعم إن أنفه قد تحسس تلك الرائحة النفاذة التي لا يمكن الشفاء من آثارها . لكنها لم تدرك ما يقوله محذرا ً ، لذلك عبرت عن انزعاجها و قالت له : ماذا شممت يا( فوكي ) .

قال الكلب في خلده : يا لهول ما شممت . وأنزوى بعيدا ً عنها مواصلا ً بكاءه المقرون باليأس والتعاسة .

تعجبت ، لكنها لم تفهم ، عيناها شغلت بالنظر إلى تلك الصخرة ، التي ما أن جلست عليها حتى داهمها الصوت : أنت شجاعة يا كوليت .

صارت ترتشف القهوة وتتذوق طعمها المحلى بالعسل ، أغمضت عينيها لتعيد الزمن إلى منابعه الأولى ، أمضت نصف ساعة تتنقل بين أزمنة لها نكهات وروائح مختلفة ، كل تلك الأحاسيس المختمرة كانت أشبه بالحلم ، ما أن عاودت احتساء قهوتها ، حتى راودها أن الطفولة والكهولة شيء واحد ، صارت ضربات قلبها تتسارع ، وللمرة الأولى تذرف الدمع كطفلة صغيرة لأنها تذكرت كل الذين ماتوا ، أرادت أن تصرخ بسبب تزاحم وتعاقب طبقات الزمن ، بأحداثه التي تسير كقطار يرفض الوقوف بأي محطة .

برغم ذلك ، كان يوما ً جميلا ً بالنسبة لها ، بكاء الكلب بدأ يشتت سلسلة الذكريات المستغرقة بتأملها . لذلك صرخت به : يكفي ، هل أصابك الجنون .

قال الصوت : دعيه ، لو عرفت ِ لماذا يبكي لعذرتِهِ حتما ً .

ما أن سمعت شدو العصافير حتى راق مزاجها ، وهرشت فروة رأسها وهي تردد : الدمية الصفراء ، الجدائل القصيرة ، المعلمة الجذابة ناتاليا ، الباب الأسود .

بعد أن هدأ الكلب تماما ً ، لم يعد من يعكر صفوة لحظتها . راقبت تشكّل الغيوم. حينها ظنت أن الزمن والريح يتشابهان ويغيران المشهد في كل ثانية .

لم تقل أي شيء ، لكن الصوت قال لها : متى آخر مرة رأيت ِ ناتاليا ؟

ـ منذ عشر ، عشرين سنه ، في الحقيقة أنها زارتني ، متى ؟ لست أدري .

ـ وما علاقتها بالدمية ؟

ـ بالدمية ؟، أجل ، لأنها هي التي خاطت لها ثوبها الأصفر .

في تلك اللحظة ، لون الدمية أيقظها وعاد بها نحو أزمنة ماتت في الذاكرة .

أجل ، الأطفال لا يفكرون بالزمن ، هكذا فكرت كوليت وأضافت : أنهم مثل الدمى . . وضحكت . نعم ، لم تفلح في تحديد إذا ما كانت سعيدة أم تعيسة في طفولتها ، لكن حدثا ً ما بعث إلى سطح المخيلة أو طفا ، هكذا امتطت الحصان ، رائحة العشب الربيعي تملأ الحقل ، لا تتذكر ما الذي أفزع الحصان ، لهذا السبب سقطت وانكسرت يدها ، وبكت بمرارة حينها .

قهقهت كوليت وكأنها لم تصدق الحادثة ، وشعرت إنها كانت كالبلهاء لأنها بكت بمرارة بسب تمزق ثوبها الحريري المطرز بالورود .

وهنا تساءلت : هل كان بورود حقا ً ؟ .

اجل، تذكر إنها كانت في السابعة من عمرها . قبل هذا التاريخ لا تذكر أية علامة داله .

لم تتركها أمها نهبا ً للعناد وحاولت مرارا ً نصحها ، لكن السلام أو راحة البال فارقاها ما أن داهمها الحيض أول مرة . أغمضت عينيها ، وكأنها تبحث عن صفاء ما ، أو للوصول إلى تلك اللحظة المثيرة ،.

في تلك الأيام البائسة باغتها الحظ بما سيهيج قلبها ، كانت مستلقية على الفراش ، وبصيص الضوء ينير غرفة النوم .

قالت كوليت وقد أشرق وجهها بابتسامة : نعم ، قلت له يمكنك أن تستلقي بجانبي على السرير .

قال الصوت : له ؟ من هو ؟

ـ أنه ، جاك بأنفه الصقري ذو عشر السنوات طبعا ً.

ـ الذي قتل في الحرب قبل خمس ٍ وخمسين سنه .

ـ لا أذكر ، ولكنه رحل منذ زمن بعيد .

هو الذي أطفأ الضوء فجأة ً ، كانت أنفاس جاك تلهث حين مد إحدى يديه بين أفخاذها .

وهي تفكر بكل ذلك قالت : لحظة لا تنسى ، تكتنز لذة غريبة .

على الرغم من أنها لا تذكر ماذا قال لها ، لكن روحها تحتفظ برائحته القريبة من نكهة الزعتر ، وما أن وضع فمه على فمها حتى اضطربت وخافت .

دون تردد قالت كوليت : أحسست بنشوة تقترب من الموت .

قال الصوت : فظيع أن يساورك شيء يشبه الموت .

ـ هكذا شعرت حينها ، لماذا لست أدري .

مر زمن، ومرت حروب ومحن ، كادت تطمرُ تلك الواقعة ، التي تستعيدها كوليت وكأنها حدثت البارحة .هكذا هو الزمن ، لا نعرف من أين يأتي او إلى أين يذهب ، قالت بثقة : لكنه طالني بالمسرات ، وغيرني آلاف المرات دون أن أدري ، وعلى الرغم من ذلك ما زلت إلى حد الآن عنيدة .

قال الصوت مؤكدا ً :

ـ مات جاك وانتهى الأمر.

ـ لا ، لا ، أنه حي حتى أموت ، هههههه .

الساعة تتجاوز السابعة والنصف ، الشمس بمقدار إصبعين عن خط الأفق ، مما لا شك فيه أن قدحا ً أخر من القهوة مع قليل من الحلوى ضروري لمواجهة نهار بصوت يصر على قضاء ساعات النهار الأولى في الحديقة .

برغم كل عنادها لكنها تذكر أنها في السنوات الثلاث الماضية، بدأت تتفاوض مع الصوت الذي صار أكثر قربا ً منها مع حلول الربيع .

قبل ثلاثة أسابيع قالت لإحدى حفيداتها : الزمن يفترس كل شيء ، لكنه إله طيب .

عادت كوليت إلى صخرتها ، ما أسعدها ، فضاء ملون ، وهدوء يسري في العروق والأوصال .قالت للصوت : يوم زفافي أذكره جيدا ً.

ـ وماذا قال الراهب في حفل القداس ؟

ـ ليس المهم ما قال ، أو بصدق لم أكن أصغي اليه ، كانت عيني شاخصة ً تراقب ذبابة خضراء سقطت في شبكة عنكبوت مفترس ، وحين عدنا إلى باحة الدار تعالت الموسيقى وبدأ الرقص ، الضجيج ، آه من الضجيج كاد يسحق روحي . رغم ذلك استمرت لحظات الفرح لثلاثة أيام كأنها ثلاث ساعات .

تركت الصخرة ، بعد أن وضعت قدح القهوة قرب الورود ، شرعت تتجول بتثاقل ، اقتربت من شجرة الجوز العملاقة ، قالت : أعتقد أن عمرك ضعف سنيي حياتي .

صدفة ً وقع نظرها على بيت النمل ، ذلك الهرم من القش بدا لها كأنه عالم متكامل ومحكوم بقانون التعاضد ، وهي منشغلة بتلك التفاصيل رأت رجلا ً بجوار المصطبة ، ارتعش قلبها ، لكنها ما أن تقدمت بضع خطوات حتى اختفى . قال لها الصوت : لماذا قتلتيه ؟

قالت والحيرة قد ترتسم على وجهها :

ـ تقصد زوجي ؟

ـ هل قتلتِ شخصا ً آخر دون .... ؟

اعتراها الخوف ، جلست على المصطبة ، محاولة تذكر اسم المسحوق الذي كان سببا ً في قتل زوجها . قال : نعم ، أنه السيانيد . لكني لم اقتله كرها ً ، كنت مأخوذة بدافع الحب له ، لكن هو الذي زرع غيرة القتل في قلبي ، في ذلك الصيف سخر مني ، كان يقضي أجمل الأوقات فوق الإرجوحة برفقة عشيقته( لورين )، ونسى واجبه كأب ومسؤول عن عائلة .

كانت كوليت ينتابها شعور مقزز وهي تنظر إلى وجه زوجها ، سألته بلطف : هل تريد قدح الفواكه بالويسكي ؟

ما إن شربه كالمجنون ، حتى بصقت كوليت على الأرض ، مرددة ً : إلى الجحيم .

لكن الصوت لم يصدق هذه الحكاية لذلك سألها :هل مات في اليوم ذاته ؟

ـ أنك لا تقدر مفعول السيانيد إذن .

نعم ، زوجها كان مفعما ً بالحيوية ولم تهدأ غرائزه المحمومة ، قالت بحزن : ما أن ازرقت شفتاه حتى توقفت أذرعه عن الحركة ، هكذا فارق الحياة مختنقا ً .

غابت عن بالها كثير من التفاصيل التي كان الصوت يود سماعها ، لكن بعد صمت طويل قالت وهي تعود بخطى متثاقلة نحو الصخرة : على أيه حال ، إنا لا أستحق أن أكون زوجة .

عند الصخرة ، أختلط في ذهنها من جديد الوهم بالحقيقة ، وعادت غير قادرة على تذكر سوى جزئيات يومها ، أما ماذا أكلت بالأمس ؟ أو من زارها ؟ ، أو ما هو فلم السهرة ؟ لم تسعفها ذاكرتها بشيء ، لذلك اعتراها الخوف من جديد ، عاد الزمن وطمر كل شيء ، حاولت إعادة لعبة التذكر لكن كل المنافذ قد سدت ، لذلك قالت بوجل :لا دمية صفراء ، ولا معلمة جذابة ، وربما أن يدي لم تكسر ، وربما لم التق بجاك سوى بلذة المخيلة .

صمتت للحظات وبكت وهي تتساءل : هل أنا قاتلة حقا ً .

ولكي لا ينطفئ بريق الطفولة في ذهنها ، غمست إصبعها في القهوة ، وبدأت تمصه كما كانت تمص إبهامها منذ الولادة حتى أتاها الحيض .

شعرت بوخزات حادة تحت الثدي الأيسر ، ما أن حاولت ان تنهض حتى داهمها الصوت محذرا ً : كوليت ، كوليت ، انتبهي قبل فوات الأوان .

بدا الأمر صعبا ً ، لم تعد تشعر بأية لذة ، ما عدا عزلة تشبه الكارثة .

لم تعد تصغي إلى الصوت ، تخدر لسانها ، وشعرت أن أقدامها قد تجمدت ، حاولت النهوض ، لكن الصخرة صرخت بها :هل حقا ً لم تستوعبي ما سيحدث ؟

صارت اللحظة الأخيرة دهرا ً، والعجز طوقا ً ، تمنت أن ترى أمها لتسألها : هل ساعة النوم قد حانت ، تمنت أن ترى أباها لتقول له : لم يعد بوسعي القفز مثل الأرانب ، أليس كذلك ؟ ، تمنت إن تحضر أبنتها كي تغسل شعرها .

فجأة ً نطقت بذلك السؤال : أين أنا ؟

أجابها الصوت : لا وقت لدي ، فالساعة الثامنة وخمسُ وعشرون دقيقة وتسع عشرة ثانية .

تجرأت بعد أن جمعت كل قواها وتمتمت : قولوا له أن يتركني ؟

صار الكلب ينبح كالمسعور حتى قطع السلسلة . أما هي فقد تكورت على الصخرة ووضعت إبهامها في فمها ، وأغمضت عينيها .

تذمر الصوت حين رفسته مرتين قبل أن تتداعى كشجرة منخورة .

ألتفت الصوت إلى الكلب وقال له : يا لها من عنيدة .

 

2 / 12 / 2012

© 2013 Microsoft