حكاية صبي /  بوسف عبود جويعد

قصة قصيرة     

 حدث ذلك منذ كنت صبياً يافعاً قد تجاوزت الثانية عشر من عمري الذي تجاوز الخمسين الآن . كان ابي رحمه الله يشكو فقراً ازلياً  مدقعاً في زمن ( الفلسان ) والدراهم المعدنية . طلب مني ان اعمل

- أين اذهب انا لااعرف اماكن العمل

- اذهب الى علوة الخضار او المجزرة

توجهت صباحاً (بدشداشتي ) المخططة الحمراء وحزامي العريض وانا انظر بغرابة لكل من حولي لكونها تجربتي الاولى ان اخرج الى مساحة اكبر من خارطة البيت والمدرسة . علوة الخضار كأنها خلية نحل عمل وحركة دؤوبة عربات تدفع باليدين وعربات اخرى تجرها الخيول ومركبات كبيرة وصغيرة وهناك من يحمل اكياس الخضروات على ظهورهم ( حمال ) واخرون يصنعون قطعة من القماش تشبة العباءة يضعون فيها الخضار ويحملونها على ظهورهم وقد جلبت واحدة منها وما ان دخلت العلوة حتى نادتني احدى النساء

- حمال . حمال

هرولت نحوها بفرح غامر ( استفتاح خير انشاء الله ) كانت هناك كمية من الباميا اكبر من حجمي  طلبت مني نقلها وسرعان ما فرشت عباءتي ووضعت فوقها كمية الباميا وشددتها باحكام .حملتها بعد ان وضعت اطرافها على جبيني كان الحر شديد والعرض يتصبب مني غزيراً جداً .  وكانت المرأة تسير امامي وانا اتبعها بكل حرص .ازداد العرق فوق جبيني . انزلقت شدة العباءة من فوق جبيني لتنزل على عيناي فلم اعد ارى احداً . حاولت جاهداً رفع شدة العباءة من عيناي وبذلت جهداً كبيراً حتى استطعت رفع العباءة الى فوق كانت ثقيلة جداً . وعندما تراءت لي الاشياء وبدأت انظر بوضوح اختفت المرأة ولم اعد اراها فتشت عنها وانا احمل كمية الباميا وادور وسط الزحام لاكثر من ساعة . وما هي الا برهة واذا بالمرأة تصرخ بصوت عال ومعها شرطي

- هذا هو الحرامي .يريد ان يسرق الباميا

امسك بي الشرطي من ياخة (دشداشتي ) وسحبني الى مدير العلوة . كان مدير العلوة يجلس خلف مكتبه بوجه ابيض يميل الى الاحمرار . ظلت المرأة تشكو له ما فعلت حتى انها قالت بأنني فعلت ذلك اكثر من مرة . وبما وان مدير العلوة يعرف الجميع فقد قال

- هذا الصبي لاول مرة اراه . لم اراه من قبل

وبهذه الشهادة استطعت ان اتخلص من هذه المرأة التي رفضت اعطائي الاجر . كنت خاوي الوفاق جائع ولا املك نقوداً تسد رمقي . دخلت وسط الخضار والفواكه والناس فصاح علي احدهم

- حمال –حمال

هرعت اليه وانا افكر بانه سوف يعطيني اجري وسوف اتناول طعام الفطور . كان كيس من الباذنجان ( ابو الخط الاحمر ) كيس كبير جداً .كان الكيس مفتوح . بمساعدة احد الرجال حملت كيس الباذنجان وسرت اترنح يميناً ويساراً من شدة ثقل الكيس .بقيت انوء بهذا الحمل حتى وصلت باب العلوة .وفي وسط الباب وسط الزحام الهائل للمارة الداخلين والخارجين سقطت مع الكيس وتبعثرت حبات الباذنجان في كل مكان وبدأوا الاطفال يلمونها ويركضون بها وصرت اطارد هذا وذاك حتى جاءني صاحب الباذنجان وجرني من ياختي مرة اخرى وقدمني امام المدير ثانية . تأفف مدير العلوة وسمع شكوى الرجل وقال

- اتركوه

تركوني بعد ان صفعني صاحب الكيس ورفض اعطائي الاجر . كانت من نصائح ابي اذا جاءت احدى المركبات تحمل الطماطة او أي نوع من الخضروات فعلي ان اهرول نحوها واحمل مافيها مع العاملين . جاءت مركبة تحمل صناديق من الطماطة . هرولت نحوها وحملت صندوقين وسرت وراء رجل اسود هذا ما توضح لي وانا ارى قدميه السوداوين امامي . كنت اتابع اقدامه واسير خلفه وما ان وضعت الصندوقين حتى امسك هذا الرجل الاسود الضخم ورفعني الى الاعلى وهو يقول

 - من انت ؟

كنت خائفاً مرعوباً ارتجف تصطك فرائضي . الا ان هذا الرجل لم يكتف بذلك وللمرة الثالث وقفت امام مدير العلوة . كان يأكل وامامه (صينينة ) مليئة (باشياش المعلاك ) مع الصمون والطماطة المشوية والبصل المشوي كنت اركز على مائدة الاكل لاني كنت  جائع جداً . ترك الطعام وصاح بي

- لا عمل لدي غيرك . لا احد يريدك ان تعمل هنا اذهب ولا اريد ان ارى وجهك ثانية

وهكذا خرجت من علوة الخضار خالي الوفاض جائغ تعبان ولم اجني أي شيء . تذكرت حديث والدي اذا لم اجد عمل في العلوة فعلي ان اذهب الى المجزرة وهي قريبة من العلوة . وقد فعلت ذلك . دخلت المجزرة . لم اجد احد . الابواب موصدة .هناك ناس فوق السطوح . المقهى مغلقة .رغم اني ارى الناس داخلها . عرفت سبب ذلك يعود الى ان هناك ثور هائج وقد امسك به احد الجزارين الا انه لم يستطع كبح لجامه . وقفت لمسافة انظر الى الثور والى عينيه الحمراويتين . وكان الجزار يصرخ

- ابتعد ايها الصبي . ابتعد

الا انني لم اعر اهتماماً لصراخه وبقيت واقفاً اتأمل الثور الهائج . انفك من يدي الجزار وهجم نحوي . عندها انتبهت وهربت مسرعاً افتش عن ملاذ امن فلم اجد الا المقهى التي كانت تفتح بطريقة ( السلايت ) سحبت الباب ودخلت بقوة الى داخل المقهى وقد غلق الباب خلفي احد الجزارين . اما الثور فقد هجم على صناديق ( البارد ) الفارغة وكسرها حمدت الله على سلامتي . ودخلت قاعة المجزرة . كانت عملية الذبح تتم على وجبات وكانت الوجبة الاولى ذبح قطيع الخراف . كانوا العاملين يحملون اكثر من جثة يصل عدد حمل كل واحد منهم الى ستة (لشات) . صاح احد الجزارين

- حمال – حمال

اقتربت منه وانا اتمنى ان تنجح مهمتي هذه المرة .وسرعان ما بدأ يضع على كتفي الايمن واحدة واخرى على كتفي الايسر واخرى على الايمن  واخرى على الايسر وانا انزل من الثقل وهو يضع حتى سقطت على الارض مع ما احمل صرخ الجزار

- اخرج

خرجت وقد احسست بالحزن وبكيت من الجوع ومن حظي العاثر ومن عدم قدرتي على العمل . انتظرت حتى انتهت عملية ذبح الخرفان وجاء دور ذبح البقر ( والعجول ) . دخلت ثانية الى  المجزرة وسط نهر من الدم ورفس البقر اثناء الذبح . كانت الدماء لزجة زلقة كل من يدوس عليها يزلق ويسقط وكنت انظر  الى احد ( العجول ) بعد ذبحه والدماء تسيل منه لزجة فانزلقت وسقطت فوقه وهو يرفس فوق وجهي انقذوني اثنان من الجزارين وطلب مني عدم الدخول . انتظرت نهاية  ذبح البقر  ودخلت اثناء ذبح الابل  الا انني وجدت الحمل ثقيل فخرجت من المجزرة وقد ارتفعت اشعة الشمس وصار الحر شديد ولا زلت جائعاً وكأن الارض خلت من النقود والناس لا يعطون شيئاً لمن يشتغل هكذا احسست وانا حزين بائس . ما ان خرجت من باب المجزرة حتى وجدت احد الرجال يدفع عربة وقد وضع عليها بعيراً كبيراً وكان يسير بالعربة فيتحرك البعير ويسقط على الارض فينادي الناس لمساعدته وحمله واعادته الى العربة .كنت مع الناس الذين هرعوا لمساعدته .وبعد ان استقر البعير فوق العربة .تركته وهممت بالسير الا انه امسكني من يدي وقال

- ساعدني في ايصال هذا البعير وسأعطيك نصف اجري

- كيف اساعدك

- اصعد فوقه ولاتدعه يتحرك . لكنه بعير كبير وقد يقلبني

- لاتخف .افعل ذلك

صعدت فوق البعير .رجل على رقبته والاخرى فوق بطنه كان البعير قوياً جداً وكان يدفعني بكل قوة وانا ارتجف فوقه واعيده بجهد جهيد . وهكذا يدفعني واعيده . يدفعني واعيده . حتى  خارت قواي ولم استطيع مقاومته .فدفعني بقوة وقلبني على ناصية الشارع وانقلب علي ولم يظهر مني الا رأسي

- النجدة . النجدة

هرعوا الناس لنجدتي واعادوا البعير الى وضعه . حاولت الافلات من صاحب العربة الا انه امسكني وقال

  - كمل مشوارك ارجوك

وهكذا اكملت مشواري واوصلت البعير الى المكان المقرر وقد اعطاني نصف اجره . واسرعت مسروراً الى ساحة النهضة وهناك كان الباعة المتجولين يعرضون انواع الطعام واتذكر اني احببت ان اكل اللوبيا الخضراء مع البصل الاخضر والطمامة والخيار والخبز الحار وكان المبلغ زهيداً جداً .بعدها قررت ان اعود للعلوة كمحاولة اخيرة . وفي داخل العلوة سقطت من احد المركبات (ركية كبيرة ) اردت  اعادتها الا ان صاحب المركبة قال

- خذها

اخذتها وبعتها .ثم اشتريت اخرى وبعتها . ثم اشتريت اخرى وبعتها وكان المبلغ يزداد . واخيراً اشتريت (ركية كبيرة) لااكاد احملها وعدت الى البيت سيراً على الاقدام . كانت رحلة الصبا عالقة في ذهني وانا تذكرها دائماً