
العَلمانِيَّة -2/ د. محمد شطب
العَلمانِيَّة/-2د. محمد شطب
SÄKULARISMUS
وهي مشتَقة من الكلمة اللاتينيَّة (saeculum) التي تعني العَالَم
2ــ السمات الأساسيَّة للعَلمانيَّة:
هناك مجموعة من المواصفات التي تعكس هوية الدولة العَلْمانيَّة ومن أهمها ما يلي:
ـــ الفصل التام بين الدين والدولة
الدولة العَلمانيَّة ضد الدولة الدينيَّة وليست ضد الدين، وهي تدعو إلى الفصل التام بين الأمور الدينيَّة والأخرى الدُنيَوِيَّة، أي السياسيَّة والاجتماعيَّة وتعمل على تحقيق كل ما يترتب على ذلك من عمليات فصل بين الأمور الروحِيَّة والأخرى المدنيَّة، وبين الأمور الخاصة المتعلقة بالفرد ومعتقداته والأمور العامة التي تتعلق بإدارة المجتمع وتحقيق طموحاته. مثل رسم وتنفيذ السياسات العامة للدولة بما ينسجم مع طموحات وتطلعات رعاياها، كما أنها تضع كافة مؤسسات الدولة وتولي عملية الإشراف عليها وتنفيذ مهامها بيد مواطنيها بعيداً عن تدخلات رجال الدين أو المؤسسات الدينيَّة.
ـــ حرية الضمير
تدعو الدولة العَلمانيَّة إلى تحرير الضمير الإنساني من كل القيود التي فُرِضَت وتُفرَض عليه مهما كان مصدرها وتُسْهِمُ بتربية النشء بعيداً عن تأثيرات الرسالات السماويَّة أو الموروثات الاجتماعيَّة البالية وكذا عن إفرازات النعرات القوميَّة والعرقيَّة وعن هيمنة وسطوة المفاهيم اللاإنسانيَّة. وهي تدعو إلى تحرير الإنسان وعقله من وطأة التأثيم ولعنة الانحراف وقساوة الخروج عن المألوف وعن الطاعة العمياء، وتدفع به إلى التصدي والعمل على تصحيح الاعوِجاجات القائمة في المجتمع وفي مختلف المؤسسات.
ـــ تَبَنِّي العقل كأساس لتنظيم شئون الحياة:
تعتمد الدولة العَلمانيَّة على ما أثمرته العقول البشريَّة، فلا سيطرة ولا سطوة ولا سلطان على العقل إلا للعقل ذاته، وهي توظِّف ذلك في إقرار وتثبيت حقوق البشر في العيش والعمل والتعبير عن آرائهم ومشاعرهم، و ترفض أي سيطرة أو تدخل أو إملاءات عليهم، كما تحرِّم وتمنع من خلال تشريعاتها أيِّ نفوذ أو تدخُّل من قبل أيَّة جهة كانت للحد من إبداعات العقل البشريّ أو فرض الوصاية عليه، وتقف ضد كل الأساليب التي تساهم في تشويش العقل أو الحد من توظيف قدراته وإطلاق طاقاته ووضعها في خدمة بني جنسه ومحيطه. ونجد في القول التالي "إمامُكَ عَقلك. لا إمام سوى العقل." للمفكر العربي الكبير أبو العلاء المعري خير دعم لهذا المبدأ العَلماني. وفي نفس السياق يقول الفيلسوف الألماني هيرمان كانت "كُنْ شجاعاً واستخدم عقلك." إن ضرورات الحياة تتطلب استخدام الشجاعة والإقدام في مواجهة الظلم والعسف واللامسؤولية ووضع حد للمخاوف والطاعة العمياء ولتبنِّي الولاءات الرخيصة والانكفاء وراء جدران الصمت، هذه الأساليب التي ساد وللأسف الشديد العمل بموجبها تحت أغطية غامضة وأجندات رخيصة وفي ظلِ تبريرات واهية. ومن أجل الاستخدام الأمثل للعقول النيرة يتوجب إطلاق الحريات العامة للناس. وتبقى الحرية الفكرية هي الشرط الأولي والأساسيّ الذي تستند عليه الحياة الديمقراطية، فلا ديمقراطية حقيقيَّة بدون حرية كاملة فكرية وسياسية ودينية. ومن أجل أن تؤدي العقول البشريَّة دورها في التصدي لتحمل تحديات مجتمعاتها الحديثة فإنَّ ذلك يستوجب إطلاق الحريات العامة وتوفير كافة المستلزمات الماديَّة والتربويَّة لإعدادها.
ـــ تبني العلم والمعرفة رغم نسبيتها:
تَتَبَنّى العَلمانِيَّة الاعتماد على المبادئ العِلمِيَّة في كافة مجالاتها وعلى التجارب التي أفرزتها العقول البشريَّة مع تعاقب الأجيال رغم إدراك العَلمانيين نسبيَّة هذه المعارف ومعرفتهم من كون لا شيء فيها يرقى إلى صفة الإطلاق، إلا إنهم يؤمنون بعملية التطور الديالكتيكِيَّة الجارية بشكل مستمر وفي كافة مجالات الحياة. وبالمقابل فإنَّ القوى الدينِيَّة تَصُر في أغلب الأحيان على التمسك بالقديم وإلغاء منطق التقدم والتحضر والتمدن، ووضع العراقيل أمام ذلك كله، ارتباطاً بعدم تمكنها من استيعاب مقومات العصر المتمثلة في الاعتماد المستمر على التطور العلمي والفني والتكنلوجي والمعلوماتي، والركون إلى مبادئ الديمقراطية الحقة في إدارة دفة شؤون الدولة والمجتمع، واحترام الرأي والرأي الآخر وعدم إلغاء الآخر، والتزام مبدأ الحوار والجدل العلمي للتوصل إلى حلول مقبولة للمشاكل القائمة وعدم إحلال التناحر والإقصاء والتحجيم محل ذلك كله، حيث إن إهمال هذه المبادئ يترتب عليه توقف لعجلة الحياة والعمل والتقدم والإبداع. ومن الأمور المعروفة تأريخياً فإنَّ المؤسسة الدينية وقفت ولا زالت تقف في الدول المسيحية وكذا في الدول الإسلامية وغيرها، بالإضافة إلى مواقفها المعادية للعلم والتطورات العلميَّة، ضد حرية الفكر والإبداع والعقيدة.
ـــ التشريع بشري وليس إلهي:
ترى العَلمانيَّة أنَّ هناك ضرورات مُلِحَّة أفرزتها التطورات العِلمِيَّة الجارية منها اجتماعية وأخرى سياسية تدعو لفصل التشريع والقوانين والدساتير والسلطات القضائية عن الدين. وهناك إصرار على الانعتاق التام من تأثيرات القوانين الدينية المستنبطة من الكتب السماوِيَّة (التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها) وما تدعو إليه أو تُبَشِّر به، وأن تُسْتَبْدَل هذه كلها بقوانين مدنية يتساوى في ظلها كافة المواطنين بغض النظر عن انتمائاتهم الدينِيَّة أو المذهبيَّة أو القوميَّة. وقد أرغَمَت التطورات الجارية في العالم الكثير من الدول على إعادة النظر في تشريعاتها بحيث اقتنع الكثير منها بإلغاء العقوبات المستنبطة من الشرائع السماويَّة مثل القتل للقاتل أو القصاص أو قطع اليد للسارق أو الرجم بالحجارة للزانية، كما تم إلغاء ومحاربة تجارة الرق، والتمييز على أسس دينيَّة، فمثلاً ميّز الإسلام بين المسلمين وغير المسلمين، أي من مناصري الأديان السماوِيَّة الأخرى وفرض عليهم الجزية، أما المشركون فقد تم تكفيرهم وصاروا مطاردين مخيرين بين حدّ السيف أو اعتناق الدين، كذلك فرّق الإسلام بين الأحرار والعبيد وبين المواطنين على أساس الجنس، أي بين الرجال والنساء. وتستمر عملية التفريق هذه في مجالات أخرى كثيرة حيث يمنح الدين المزيد من الحقوق إلى الرجل على حساب المرأة في مجالات الزواج والطلاق وتربية الأطفال وفي الإرث والتعاملات التجارية ... إلخ. وتدعو الدولة العَلمانيَّة إلى ضرورة التشريع المبني على الأدِلة والإثباتات والحقائق ومنطق العلم والجدل بدلاً من الإيمان. وأن تكون التشريعات مبنيَّة على أسس المواطنة والمساواة بين الجنسين باختلاف انتمائاتهم القومية والدينية والفكرية، وأن يصار إلى منع أية تفرقة أو تمييز بين المواطنين.
ـــ الحُكم بشري وليس إلهي:
تعتمد الدولة العَلمانيَّة في تشكيل حكوماتها على ممارسة حق الانتخاب الذي يتم من خلاله اختيار ممثلي الشعب من مجموع مكوناته الاجتماعيَّة بغض النظر عن انتمائاتهم القوميَّة والدينيَّة والمذهبيَّة والسياسيَّة والفكريَّة. ويتم إعداد وإقرار الدساتير والقوانين بصورة ديمقراطيَّة وبالتصويت العلني من قبل ممثلي الشعب المنتخبين ارتباطاً بحاجة المواطنين وبحاجة البلد وانسجاماً مع مجمل التطورات الجارية على مختلف المستويات. وبالاعتماد على هذه الإجراءات يصار إلى تسمية السلطات الأساسيَّة في إدارة الدولة وهي التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة وفصلها عن بعضها البعض، وتثبيت مبادئ حريتها في اتخاذ القرارات واستقلاليتها عن سيطرة ونفوذ أيَّة قوى تتواجد على الساحة. يجري ذلك كله بعيداً عن تأثيرات الدين والشريعة والفقه الديني والفتاوى المستقاة من الأديان السماوية منها وغير السماويَّة ضمن إطار فصل الممارسات الحكومية عن الأديان المتواجدة في البلد حيث في هذا ضرورات اجتماعية وسياسية و ....
ـــ الدولة العَلمانيَّة تعتمد مبدأ المواطنة:
فهي لا تتخذ لها ديناً معيناً، ولا تعادي الأديان، ولا تفرض على مواطنيها أيّ دين، ولا تدافع عن دينٍ بعينه، لا تحمي ديناً معيناً ولا تعاقب تاركيه، كما إنها لا تراقب تنفيذ أوامر دين معين أو تعليق نواهيه، ولا تعطي الأديان أية امتيازات أو أية مساعدات خاصة أو عامة، وهي تؤمن وتُصِرّ على الانعتاق من فرض المؤسسات والحكومات الدين، أيَّ دين، على الناس. إلا أنَّ الدولة العَلمانيَّة ملزمة بحماية المتدينين كما أنها ملزمة بحماية الأقليات الدينيَّة ضد جبروت الأغلبيَّة الدينيَّة. فقد تعددت الأديان في عالمنا فمنها السماوِيَّة مثل (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام) وغير السماويَّة (الزرادشتِيَّة والمجوسيَّة والبوذيَّة والسيخيَّة وغيرها) وكذا أصحاب الديانات الطبيعيَّة أو البدائيَّة أو الساذجة مثل ديانات الهنود الحمر في أمريكا ومثلهم من الشعوب البدائيَّة في القارة الأفريقيَّة وقارة أستراليا وأماكن أخرى، حيث تفتقر هذه الديانات إلى كُتُب مقدسة ترتب عليه محدوديَّة في انتشارها، فهي على الأغلب تتواجد في إطار العشيرة أو القبيلة أو المنطقة الجغرافيَّة المحددة، بالإضافة إلى ذلك لا توجد لديها مؤسساتها الاجتماعيَّة. وبحكم الانفتاح الحاصل في العلاقات الدوليَّة والتطوارات الجارية في العالم وتشابك العلاقات بين الدول وتوافد آلاف اللاجئين إلى أوروبا وغيرها والذي ترتب عليه تواجد أعداد مختلفة من منتسبي أو مناصري هذه أو تلك من الديانات في الدول الأوربيَّة ومساهمتهم بتشكيل نسيجها الاجتماعيّ المتنوع والمتعدد الأديان والطوائف والمذاهب، فهم جميعاً يتمتعون في ظل العَلمانيَّة بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
ـــ الدولة العلمانيَّة حيادية فيما يخص موقفها من الدين:
تتخذ الدولة العَلمانيَّة موقفًا حياديًا في قضايا الإيمان، وكذا يكون لها موقف حيادي تجاه كافة الأديان، بحيث أنها تقف على مسافة متساوية من الجميع، وهذه الحياديَّة لا تعني تجاهل الأديان أو ازدرائها، فالدولة العلمانيَّة، وانطلاقاً من جوهرها الإنسانيّ، تهتم بتوفير الحريَّات والأمن والأمان للجميع، وتترك لهم أمر اختيار الإيمان والاعتقاد والالتزام بما هم يقررون، وتُضَمِّن في دساتيرها وتشريعاتها وقوانينها احترام التعدديَّة الدينيَّة وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية والتردد على أماكن العبادة والحق في حرية المعتقد وإنشاء المنظمات الدينيَّة دون تكفير أو تهميش أو إقصاء. فلا ملاحقات للمواطنين لأسباب دينيَّة ولا مطاردات أو اعتقالات لرجال الدين. يجري ذلك ضمن إطار احترام التعدديَّة داخل المجتمع. كما أنّهَ ليس للمؤسسات الدينيَّة الحق في التدخل أو التأثير على الخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها. بينما نجد الدولة الدينيَّة تتعامل مع مواطنيها بأشكال مختلفة وتفضل هذا على ذاك لاعتبارات عديدة منها الدينيَّة ومنها القوميَّة ومنها الطائفيَّة وحتى على أساس الجنس ذكراً كان أم أنثى.
ـــ العَلمانيَّة تَعْتَمِد مبدأ التسامح الديني:
الدولة العَلمانية، هي ليست دولة مؤمنة كما أنها ليست دولة ملحدة، وإنما هي دولة تلتزم الحياد التام إزاء كافة الأديان، وفي مثل هكذا دولة يكون بوسع المواطن أن يؤمن بأي دين أو أن لا يؤمن على الإطلاق، أن يبقى على دينه الذي آمن به وربما توارثه عن آبائه وأجداده، أو أن يتحول إلى دين آخر بكامل حرّيتة وبملءِ إرادته. وتتوفر لدى الطلبة في مدارس الدول العَلمانيَّة فرصة الاطلاع على أفكار كافة الأديان السماويَّة والطبيعيَّة وكذا على الأفكار الفلسفيَّة والأخلاقيَّة المختلفة غير الدينيَّة، المثاليَّة منها والماديَّة، وتُتْرَك لهم حريَّة اختيار المعتقد الذي ينسجم مع تطلعاتهم وطموحاتهم. وتسمح دساتير وقوانين الدولة العَلمانيَّة بممارسة نقد الفكر الديني، لأيِّ كان من الأديان، بالاعتماد على المعطيات العِلمية والتكنلوجيَّة ومنجزات العقل البشري ولا تعاقب من يمارس هذا الحق إلا في حالة إخلاله بالسلوك العام والقوانين المرعيَّة.
ـــ في الدولة العلمانيَّة لا سلطة للزعماء الدينيين على النظام السياسي:
في الدولة العَلمانية لا تقرر الأديان ولا ترسم القوى الدينيَّة وأحزابها السياسيَّة ومؤسساتها المختلفة شكل ونوع ومضمون السياسات العامة للدولة، ولا تتدخل في رسم العلاقات الاجتماعيَّة بين مكونات المجتمع أو التأثير عليها، حيث في هكذا دولة تتم مراعاة المصالح العامة والمشتركة لجميع المواطنين بغض النظر عن انتمائاتهم الدينيَّة والعِرقيَّة والفكريَّة والمذهبيَّة ...إلخ. كما أنَّ الأنظمة العَلمانيَّة لا تسمح للقوى الدينيَّة ومؤسساتها المختلفة من القيام بأيِّ تدخلات في أجهزة الدولة أو التأثير على أعمال منشئاتها ومؤسساتها المختلفة من باب إصدار الفتاوي المناهضة أو إلقاء الخطب التحريضيَّة أو تعبئة المواطنين ودفعهم في مواجهة أجهزة الدولة أو تحريم التشريعات الرسميَّة التي تصدرها السلطات القضائيَّة ... وإلخ.
وقد تَرْفَع القوى الدينيَّة في الدول الإسلاميَّة والعربيَّة منها بشكل خاص شعارات من قبيل "الإسلام هو الحل"، وتغازل وجدان الشعوب وتدغدغ عواطف الجماهير وتدعو من خلال ذلك إلى ترغيب المواطنين في ضرورة إعلاء كلمة الدين ليكون هو الحاكم والمتحكم بالأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة، ومن جانب آخر إلى ترهيبهم من عقاب الله ومن سيطرة قوى غير مؤمنة على زمام الأمور وانتشار أفكار دخيلة ومستوردة من الغرب الكافر والملحد، دون أن تقدم برامجها السياسيَّة والاجتماعيَّة الملموسة التي تسمح للمواطن من محاسبتهم على عدم تنفيذها. إلا أنه وفي حال تسلمت هذه القوى لمقاليد الأمور مستغِلة بذلك العواطف الدينيَّة للمواطنين البسطاء وتأييدهم الأعمى لهم، فإنها تُسْرِع التَحَكُّمْ بمسك زمام السلطة وفرض السيطرة على شؤون البلاد والعباد، وهي وبحكم تركيبتها وتوجهاتها وطموحاتها المعلنة وغير المعلنة، تحاول وبكل ما أوتيت من قوَّة من فرض هيمنتها وإعلان دكتاتوريتها باسم الدين ورب العالمين.