
كلمة شهيد لاتطلق الا.. /محمود كريدي
أن كلمة شهيد لاتتحمل المجاملة ولا على أي كان تطلق ، الشهيد لغة هو الذي يشهد
على أمر من الامور ويثبت صحة شهادته بدمه ولا يكون شهيداً اذا لم يكن استشهاده
في سبيل الدفاع عن مبادئه ووطنه وشعبه .
اما عندما نقصد بالشهيد المعنى اللغوي ، وهو انساناً معيناً : قاتل دفاعاً عن قضيته
حتى مات ، فهو شهيد قضيته .
سألو طفل صغير ما هو معنى كلمة شهيد
قال وبكل فخر لكنه شهيد
كلمة معناها كبير ، كلمة تحمل الحرية
اعادوا سألوه ... من هو الشهيد
صرخ وقال يا أمي تعالي واسمعي
سألوني من هو الشهيد
قال : الشهيد الذي يضحي بعمره ودمه من أجل أرضه وشعبه
سألوه هل تستطع توصف لنا الشهيد
ضحك وقال : من هو من لايعرف يوصف الشهيد
هو البسمة المرسومة ولا رسم فنان
هو الكلمة المحفورة بقلب مملوء
هو الذي محا كلمة خوف من قلب الانسان
هو الذي قطع عهد لشعبه ليحرر الاوطان .
----------------
الى صديقي ورفيق دربي الطويل
ياصديقي الطيب القلب العزيز النفس
والبصري الشمائل ..
التقيت به في زحمة العمر ، وفي وسط ظروف عاصفة ، لم أتعرف عليه قبل هذا الوقت
تعرفت عليه في اصعب الظروف التي مر بهاالمناضلون الشيوعيون في مدينة البصرة
حيث كانوا يلتقون لمعرفة اخر اخبار من اعتقل وخرج من المعتقل واتذكر منهم (عباس )*
وهو كذلك موظف في نفس الدائرة التي يعمل بها (ابوسناء)(ابوعلاء) حيث كان يكنى بهذه الاسماء بين
الاصدقاء في البصرة ، يعملان في كهرباء النجيبية ، ومناضل اخر كان شاب يافعاً ومفعم بالحيوية
والنشاط اعتقل اكثر من مرة وخرج من المعتقل بموقف بطولي هو (كريم ) وكان يكنى ابو دعير..
وقتها كانت البصرة تغلي نتيجة أنهاء التحالف مع حزب البعث والذي اطلقوا الاسم الرنان الجبهة الوطنية
التقدمية ، هذا التحالف المذل الذي نظرة (من التنظير) له القيادة اليمنية للحزب الشيوعي العراقي على أنه تحالف
ستراتيجي والذي دام لأكثر من خمس سنوات تخللتها تجاوزات وخروقات لأبسط شروط التحالف
ناهيكم عن التنازلات التي قدمتها تلك القيادة الى حزب البعث وكل هذا لم يجدي نفعاً
كان شهراً فيه الألم هائلا كوحدتي ... كان شهراً قاتماً ملؤه الهواجس لملمت أشيائي في داخل حقيبتي
المتعبة ، ولم اكن فرحاً باللحظة ولاحتى راغباً فيها غير أنني ترددت في توديع أعز ناس عندي وهي
والدتي ، ولكن ضرورة أن أودع اعز صديق لي وهو ابن اخي الذي لايتجاوز السادسة من العمركان من
العسير ان اتركه ...
كان قرارنا انا وعوني هو السفر الى خارج العراق بدون سابق تخطيط ، ولكن عوني كونه يعمل في دائرة
حكومية يجب عليه القيام بأجراءات لكي يستطع الافلات من هذا الامر حينها حصل على امر أدراي مزور عن
طريق احد الاصدقاء ( عرفته حديثاً انه الرفيق ابو أحسان) كونه احد منتسبي وزارة التربية والتعليم وهذا سهل عليه الامر كثيرا...
كان موعدنا في كراج سيارات نقل المسافرين بين البصرة وبغداد وكان هذا في عام 1978
تأخر عوني عن الموعد المتفق عليه كثيرا فبيقت في حيرة من امري هل اسافر وحدي ام انتظر وبينما انا
تتلاطمني الافكار والخوف وازدحمت الالاف الملاحظات المبتورة واذا به يطل عليً ووجه عابس فسألته
لماذا هذا التأخر لقد اقلقتني واذا به يطلق حسرة كبيرة ويقول لقد تشاجرنا أنا واخي وصللت الى حد استخدام السكين ضده ( حيث كان اخيه ضابط
في الجيش العراقي ومن المؤكد كان بعثياً ) واستطرد يقول يبدو انه عرف بنيتي السفروهددني باخبار الامن بذلك
ولم احتمل تهديده لهذا وقع شجار بيننا ، واذا بنا نسمع نداء ... بغداد ... بغداد ..فقلت له فلنصعد باقرب وقت ممكن
وكانت السيارة مزدحمة سوى مكان لراكبين فهمس بأذني ،لعل حضنا يحالفنا من بداية رحلتنا ، مر الوقت ثقيلا
وساد الصمت يننا واذا السيارة تبطأ حركتها نظر الواحد منا بوجه الاخر ماهو الامر واذا بنا نتوقف عند حاجز
نقطة تفتيش مهمة حيث اقتربنا من حدودالعاصمة بغداد ، صعد رجلين احدهما يرتدي الزي العسكري واخر
بملابس مدنية بدى على وجهه تقاسيم حادة وهذا ما يميز رجال الامن والاستخبارات عن غيرهم من العراقيين
العاديين ، واخذوا يتفرسون في وجوه الراكبين ، وعنداقترابهم منا توجسنا ان يلمحوا تقاسيم وجهينا او يسمعوا
خفقات دقات قلبينا ، طلبوا منا هويتنا فتناولها احدهم واخذا يطابق الصورة الموجودة على الهوية بوجهينا لم
يوجه لنا أية سؤال ...مرة تلك الدقائق كأنها اعوام ... واصلت السيارة رحلتها واذا بنا بعد مسير ليست بالقليل
تتوقف في كراج كبير يغص بالمسافرين نزلنا والواحد منا ينظر الى وجه الاخر وكأنما الواحد
يقول لللأخر انجزنا مرحلة من رحلتنا ، كانت لاتوجد لدينا وجهة معينة او هدف معين في بغداد سوى انها
طريقنا للتوجه الى سوريا .
كان وقتها في بغداد الكثير من شيوعيي البصرة ، قد انتقلوا للأختفاء اعتقادا منهم انهم سوف يكونون بعيدين
عن اعين رجال الامن والمخابرات في محافظتهم ، ولكن السلطة وخبرتها المخابراتية جلبت عدد من رجال الامن
من البصرة الى بغداد وذلك لمعرفتهم كثير من وجوه اهل البصرة من الشيوعين المكشوفين او استعانوا بالشوعيين الذين
اخذوا يتعاونون معهم أي اسقاطهم والاستفادة منهم لكشف رفاقهم ، لهذا كنا حذرين من البقاء في بغداد فترة طويلة ،
ورغم ما نحن به وضع مربك وغير طبيعي توجهنا الى احدى الحانات القريبة من باب الشرجي وشربنا البيرة العراقية وكانت هذه اخر مرة نذوق طعم البيرة العراقية ، وبعد خروجنا توقفنا في مكان لنناقش ما علينا فعله الان وبغفلة مني وضعت المحفظة التي تحوي كل وثائقي وجواز السفر على سطح احدى السيارات المتوقفة وتحركنا من المكان وبعد
وقت ليست بالقصير تذكرت اني نسيت محفظتي فعدت والارض تتلقفني الى نفس المكان وعندما شاهدتها ومن مسافة
تنفست الصعداء وعاد الدم الى عروقي وشراييني فاخذتها وضممتها الى قلبي ، لاني لو فقدتها وقتها لتغير كل مصير
حياتي .
ونحن في اليوم المقرر الى السفر التحق بنا(وسام ) شاب بصراوي مندفع ليست لي معرفة مسبقة به وانما كان عوني يعرفه وكان
لايحمل جواز سفر فاخبرناه بقرار السفر فما كان منه الا ان يقول انتظروني لبعض الوقت وسوف التحق بكم ، يبدو انه مهيأ
بذهنه خطة للاستحواذ على جواز احد المصريين الساكنيين معه بالفندق وبالفعل لم يتاخر علينا كثيرا واذا به يأتي مزهوا وفرحا وبحوزته الجواز ومن حسن الصدف ان الصورة التي بالجواز تشببه كثيرا ولايحتاج الى اية تعديلات ،
كان وقت ذاك السفر بين العراق وسوريا يتم بحدود معينة بيسر نتيجة لتحسن العلاقات بين البلدين ،وكانت هناك
وسائط نقل حكومية على ما اتذكر اسمها ( النقل البري ) وكانت سيارت مريحة واعتقادا منا لكونها حكومية سوف
تكون الاجراءات القانونية غير مشددة حجزنا اماكننا كنت انا وعوني على كرسيين متجاورين اما ( العراقي الجنسية وحامل الجواز المصري ) يبتعد عنا قليلا وذلك لكي لانثير الشكوك كوننا نحمل وثائق عراقية وهو يحمل غير ذلك ، ومن المفارقات كان الباص فيه الكثير من المصريين وصادف جلوسه الى جانب احد المصريين ، كنا انا وعوني قلقين عليه
اكثر من قلقنا على انفسنا ، كنا نراقب وضعه ونسمع بعض احاديثه من الذي بجنبه ولكن ليس بوضوح ، ولكنه
خرج من هذا الامتحان بنجاح والتفصيلات هو اعرف بها ..
وصلت السيارة التي تقلنا الى اخر نقطة حدودية بين العراق وسوريا حيث يتم فيها تفتيش جوازات السفر فصعد شاب
ذو شاربين مفتولين يكاد يشكلان قوس ويخفيان شفتيه وذات تقاسيم وجه حادة تحدث بصوت أجش ، المصريون يجمعون الجوازات سويتاً .. وقعت عيني بعين عوني والتفت الينا صديقنا العراقي الحامل الجواز المصري كأنه يقول لنا ها لقد فزت
عليكم ففرحنا له بهذا الانتصار ، رغم قلقنا على وضعنا .
وواصل بصوته الاجش اما الباقين ينزلون الى المكان المخصص للتدقيق حينها تبدل وجهينا وبدأ عليه الرعب رفعت يداي
وغطيت عيني كما لو اني لم اعد احتمل رؤيته ثانية ...باقي الركاب لاينقطعون عن السير امامنا تأملتهم في شرود وألمحت
بعض التجاعيد قد قفزت الى وجه عوني الذي عهدي به طول رحلتنا لايخلو من الدعابة .. حبه لعوض الدوخي وددنته ببعض اغانيه ، تملكني يأس جارف وتطلعت بشكل ادق الى التجاعيد في وجه عوني كما لو أنني اردت ان انقل كل ما
احسست به هناك ... تزاحموا امام بوابة غرفة صغيرة كدست بها اوراق وملفات بحجم يحتاج حاملها الى جهد كبير لكي
ينزلها من على رف وضعت فيه وانها مرتبة حسب الحروف الابجدية فنودي علينا سويتاً واخذ يسال عن تفاصيل دقيقة مهمة ولكننا كنا نحمل كل ما يقطع الشك ومع هذا أخذ يتفرس في وجوهنا كأنما يريد ان يعد عدد شعر وجوهنا وبعد سؤال وجواب دام ثلاث ساعات حصلنا على جوازتنا ... فملت بجسدي النحيف الى عوني وهمست في أذنه بصوت خفيف
(سلمنا ) ...
قال مداعبا : قلباً يبكي وعيناً تضحك ...
فأجبته : (كلاهما يبكيان ياعزيزي ) ...
دندنة مع نفسه ونحن نسير باتجاه السيارة ... امنحني صلابة الحديد لكي اواجه هذا العالم .
استقلبنا صديقنا العراقي الحامل (الجواز المصري) بابتسامة ممزوجة بالفرح لأننا كذلك نجونا ... وبشيء
من التحدي لانه خرج من هذا الامتحان ناجحا ... حينها لم نعيربعد اهمية لوجود بعض الركاب المصريين مثلما كنا طول رحلتنا في توجس وحذر من الحديث معه ...
اخترقت السيارة فضاء الصباح بعيدا ... تراءت لنا عاصمة مدينة عربية حيث اننا لأول مرة تطأ ارجلنا تراب غير تراب الوطن ..كنت مرهقا وحزيناً بما فيه الكفاية وكذلك صديقَي ، ورددت مع نفسي هل انا اقوم بتجهيز تلك الزاوية العتيقة من راسي لملاقاة المصير ... انه الزمن الذي تغير عندها منحني حياتي ..
قال عوني ما بك ؟
ضللت صامتاً ...
كرر ما بك ... ؟
قلت لاشيء ... لاشيء ..الاصرار أفضل الالاف المرات من أي شيء أخر... الاصرار اهم ميزة بالانسان ...ان الدنيا كالداومة تنقلب فيها الاراء والاقوال دائما ولكن الزمن يطحن كل شيء الكاذب منها يتطاير كالقشوروتبقى الحقائق الدامغة كالحبوب الصلبة ... لاشيء ياعزيزي لقد أقتحمني وجه:
الرفيق فهد ...البندقية ..!
فأجابني ان الكفاح يرفع قدر المناضل ولايخفضه ،ها هي الافكار تسبح في ذاكرتي وتخترق نفسي
قلت مندهشاً : ان الواحد منا لفي حاجة ما سة لقدر كبير من الجهل ياعزيزي ... ها نتناول بعض الخمر في اقرب حانة ، اعترض واقترح ان نتبضع الخمر من السوق ونشربه على طريقتنا الخاصة .
بددت افكاري تاكسيا قد اوقفها عوني لتصلنا الى مكان عنوان متفق عليه كان هو الوحيد بيننا يعرفه وهو حلقة الاتصال بالحزب الموجودة في دمشق وهو عيادة للدكتور نبيه رشيدات فذهب لوحده ولم اعرف تفصيلات ما حدث بينهما ،بعد عودته اخبرني اننا سوف نغادر دمشق ، وبالفعل لم يطل مكوثنا في دمشق فانتقلنا الى بيروت وبطريقة غير شرعية ، اجتزنا الحدود مشيا على الاقدام ولم تكن المسافة بالقصيرة ، بعدها استقلينا سيارة فاخذ الركاب يتفرسون في وجوهنا واحسسنا بالفعل نحن ليست من اهل هذا البلد .
قلت : يالها من بلاد جميلة كثيرة الالغاز كل شيء يشد انتباهك الانطباعات الجديدة تتراكم في زوايا من اعماقك بسرعة غير معهودة ، مواقع الفدائيين، مخيمات اللاجئين الفلسطينين ، شوارع المرور بها حذر ،بوابات محلات مغلقة وكتب على ابوابها شعارات بالرصاص حدود مصطنعة في دولة واحدة .
سألت عوني : ما هذا البلد الذي يعيش مواطنيه في حذر ولكنهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي ... فكيف عندما يكون هناك سلام حقيقي ؟
فأجابني ستشاهد ما هو اكثر من هذا !!
مكثنا فترة قصيرة في احد المخيمات الفلسطينية الموجودة في بيروت لأتمام بعض الاجراءات وكذلك مكان ليؤينا بعدها انتقلنا الى مكان خصص لنا في وادي ليست بقريب من العاصمة بيروت (الناعمة) فاصبح هذا المكان مخصص لأخذ الدروس العسكرية وتعلم فنون القتال ، وتواجدهم من اماكن مختلفة من العراق ومنهم من يعرف الاخر سابقا ومنهم من لايعرف الواحد الاخر ، اخذوا هؤلاء ينظرون الى التدريب العسكري نظرة جادة تماماً ، وجريا على تقاليد الفدائيين الفلسطينين ان يختار كل واحد له اسم حركي يكون هو الاسم الي ينادي به الواحد الاخر ، فأختارعوني اسم (ابو علاء ) أما انا بقيت في تفكير ماهو الاسم الذي علي ان اختاره لكوني كنت غير مهيء نفسي لهذا فاقترح عوني ان اكنى ب(ابولينا) ورغم عدم معرفتي لماذا اختار هذا الاسم فوافقت على ذلك ؟ في البداية مثلي ومثل غيري التعود على هذا الاسم عند منادتي به ، كانت ايام التدريب الاولى وبالاخص لشباب جاءوا من حياة مدنية ولم تمسك يدهم بندقية ايام صعبة وقاسية بعض الشيء، ولكن بعد فترة بدأو يأتلفون هذه الحياة واخذوا يتقنون استخدام السلاح ولو بحدود معينة ، وبعد انتهاء فترة التدريب المخصصة لذلك انتقلنا الى مكان اخر يقع في قرية جنوب لبنان قرية (عين عرب ) استقبلنا مسؤول الموقع شارحاً لنا تفاصيل الوضع رتبنا اشيائنا ولو حينها كنا لانملك ما يحق تسميتها بالاشياء من مستلزمات الحياة الطبيعية وبشكل سريع عشنا شبه استقرار حيث كان يقدم لنا من قبل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كل ما نحتاجه ، ولكن بقيت الافكارتسبح في ذاكرتي وتخترق نفسي ، وانزويت مع ابو علاء وقلت له : سؤال مخيف يحتل زاوية من رأسي وفي قاع قلبي الى متى نبقى نحن في هذا المكان المنعزل ولايتعدى سوى ناكل ونشرب ونقوم بحراسة انفسنا ... بدد تسألي هذا صوت مسؤول الموقع الرفيق (ابومشتاق) الذي كان رفيق نقي ومخلص ومجد ومحب لرفاقه ويعتني بهم ويساعدهم في تلك الظروف الصعبة ، بددت تسأولي جملته وغمرتني ومن معي بفرح طفولي ... رفاق (طريق الشعب ) معركة قزلر .. انه الكفاح المسلح حيث كانت اول معركة يخوضها الانصار ضد النظام الدكتاتوري الفاشي وتنشرها جريدة الحزب المركزية ،فاخذ الواحد منا ينظر بوجه الاخر، أشار الي ابو علاء بحركة نصف دائرية قائلا:
اسمع ما اروع هذا الخبر، لابد انك تعتاد سماع هذه الاخبار
شيء رائع ... ولكن هل يستمر ويتكررمثل هذا العمل رغم ان المعركة كانت مفروضة وبقوى وبسلاح غير متكافئين ،ويتدخل احدهم وقد استبدت به الحمية ... انه الكفاح المسلح ؟
لم أنم تلك الليلة الامع خيوط الفجر ، وفي صباح اليوم التالي بدأ كل واحد يتحدث مع من يختاره أنني سوف اطلب من الحزب أن يرسلني مع أول مجموعة تلتحق بالانصار، وكذلك هذا ما حصل بيني وبين ابو علاء فدار حديث بيننا ... للجسم طاقة على التحمل هناك أناس يعتبرون طاقتهم البدنية صفراً ... ما من شيء الا وتستطع أقناع الناس به شريطتاً ان يكون صحيحاً وذا أفق توالت الطلبات بشكل شفوي وتحريري الى الرفيق مسؤول الموقع .
وقع الاختيار علي وعلى ابو علاء ومجموعة من الرفاق التوجه الى بيروت حيث ستكون محطة انطلاقنا فحملت حقيبتي المتعبة ووضعت ما خف بها من الاشياء الضرورية ، كان شتاء بارداً والثلج قد غطى معظم الطرق كان علينا ان نمر في موقع اخر يتواجد به رفاقنا ليتحق بنا من اختير كذلك للذهاب مع المجموعة واذكر منهم (ابو حاتم ) مصطفى ياسين كان هذا الموقع هو موقع (البيرة ) وهنا وقع ما لايرضى وعكر مزاجنا حيث قالوا ان الطريق الى العاصمة بيروت مسدود بسبب نزول الثلج الغزير وغياب ملامح الطريق حينها اصابتنا الخيبة فرجعنا الى موقعنا في عين عرب .
لم تطل الفترة بعد الخيبة الاولى .. ناداني مسؤول الموقع ليخبرني بشكل فردي هيء نفسك للذهاب الى بيروت لكي تلتحق بالانصار ، في اللحظة بذاتها قفزت الى ذهني الخيبة الاولى وما لها من وقع على نفسي وعلى الرفاق الاخرين .
أستلقينا سيارة كانت معدة لنقلنا واذا بي اواجه وجه ابو علاء فغمرنا فرح داخلي انه سوف نكون كذلك سويتا في هذه الرحلة ودعنا الرفيق المكلف بذلك (عرفت فيما بعد أنه لايرغب بالالتحاق بالانصار) وهمس ينتظرنا المزيد من العمل والجهد .. ايها الرفاق ... شدوا حيلكم ، أنطلقت السيارة ودعنا تلك العاصمة وعيوننا تعتكز بالفرحة والدهشة مما يدور بهذه العاصمة الرهيبة ، وصلنا الى العاصمة التي خرجنا منها اولاً وهي دمشق حدث ذلك في غروب قديم ما عدت اتذكر كل التفاصيل ، واصلنا رحلتنا الى مدينة حلب دخلنا الى هذه المدينة وجدناها في حالة استثنائية ، كأنها تعيش حالة حرب حيث الحركة في الشارع مشوبة بالحذر والناس قد لزم بيوتهم رحلتنا لاتتطلب البقاء في حلب فترة طويلة غادرناها الى مدينة حدودية وهي باب الهوا التي تربط سوريا بتركيا .. فاذا بابو علاء ينادي لقد وصلنا الى المكان الذي تبدأ رحلتنا الحذرة والمشدودة ، انا دخلنا دولة اخرى ، فاجأنا مركز الحدود يطالبنا بجوازات السفر جرى خلاف بيننا حول ان هؤلاء الجندرمة يسهلون امور السفر بدس بعض النقود وهائلة عندما تكون بالدولار ، فاتفقنا ان نضع بعض الدولارات داخل جوازات السفر ورغم ان ذلك المبلغ مهم بالنسبة في رحلتنا المجهولة المصير ولكن الاهم اننا نمر بدون اية اعاقة .
واصلنا رحلتنا متجهين الى احدى مدن تركيا لااتذكر بالضبط ( ماردين او نصيبين ) همس باذني ابو علاء .. ان الزمن يسقط الزمن القديم يتقشر كجلد افعى قلبي يتفطر وانا متلهف للقاء الوطن .
ناد سائق السيارة وبلغة نجهلها بالتمام ، بعد ذلك عرفنا انه اخر محطة تقف فيها السيارة عند مراقبتنا للراكبين حيث لم يبق اية راكب في السيارة ، فجلسنا في اقرب مقهى صادفنا وجلسنا نحتسي الشاي ، ذهب الرفيق المكلف بالاتصال وهو الوحيد بيننا يعرف كل التفاصيل الجهة التي يتصل بها لنواصل رحلتنا ، عيوننا تراقب وتنتظر النتيجة بفارغ الصبر وهنا حدث ما ليس بالحسبان ،رجع الرفيق المكلف بالاتصال وتحدث معنا بهمس وبصوت مخنوق .. يارفاق نرجع بسرعة وبدون تاخير ان حلقة الوصل غير موجود وحسب ما نقل لنا انه قد اعتقل ، فاخذ الواحد ينظر الواحد منا بوجه الاخر وتحركنا بشكل سريع باتجاه موقف الباصات الذي نزلنا عنده ، وفي طريقنا همسنا لبعضنا الرحلة كانت متعبة ومشدودين نحن لها ، وقررنا ان نتعلم درسا جديدا في الحياة ...
ونحن في انتظار الصعود الى الباص قال امر المجموعة ، ان المبلغ الذي بحوزتنا قد نفذ حيث لم يكن في حساباتنا ان نواجه مثل هذا الموقف ، ولكننا كنا نحمل بعض الهدايا الذي جلبناها معنا لاعطائها لأناس يستحقون للجهود الذي يبذلونها بمساعدتنا بالوصول وانها ذات قيمة لأن تركيا نادرة فيها هذه الاشياء وكان اهمها كمية من الشاي والسكائر فقررنا بيعها باي مبلغ لكي نواصل مسيرة رجوعنا ، في حين انه كان يتوسلون الينا في شرائها وقت مجيئنا ولكننا رفضنا باصرار ذلك ، تحدثنا انا وابوعلاء عن كيفية مواجهة الرفاق الاخرين حيث سوف يتولد لديهم تصورا انهم كذلك سوف يتعرضون لنفس خيبتنا وكان هذا شيء مقلق جدا لنا .
وبعد ان واصلت بنا السيارة رحلتها لساعات ، وصلنا الى من حيث اتينا وصلنا الى حلب ومنها انتقلنا الى دمشق كذلك لن نمكث بدمشق طويلا واصلنا رحلتنا بالرجوع الى بيروت ، مجموعة يعودون من حيث ذهبوا مصطحبين اخبار مؤلمة ، نلتقي مع من ودعونا ونخبرهم بما جرى لنا ...
لم تمض الايام معدودة واذا بالرفيق ابو مشتاق مسؤول الموقع ينتحي بنا جابنا انا وابوعلاء واخرين جهزوا انفسكم للذهاب الى العاصمة بيروت لتواصلوا رحلتكم للألتحاق برفاقكم في الانصار ولكن رغم قلقنا من خيبتنا الاولى تحمسنا وانتابنا فرح شديد ، تحركنا من العاصمة بيروت باتجاه العاصمة دمشق ومنه الى النقطة الحدودية السورية التركية (باب الهوا) ، فجأة نرى مجموعة من الاشخاص وقفوا أمام باب حديدي ليأشروا جوزات السفر وتفتيش الامتعة ، فتشوا امتعة كل الرفاق ووصلوا الى حقيبتي التي كانت تحوي اشياء بسيطة لاتتعدى الضروريات جداً ولكن كان بينها الاعمال الشعرية الكاملة للشاعرالعراقي الكبير سعدي يوسف ، فأخرجه احد رجال الحدود واشار بعبارة ( بدك تثقف الشعب التركي بسعدي يوسف ) فلم اجبه فاعاده الى محله ، وانتهت عملية تفرس هؤلاء الرجال بوجوهنا ودلفنا الى نقطة الحدود التركية ، ما درنا حول الزواية حتى انتصب امامنا مبنى حجري مستطيل جامد ، عند طرفي المبنى برجى مراقبة يشبهان ابراج المراقبة التي نشاهدها في الافلام ، برجان للمراقبة وكأنهما عشان للحمام ، الشارع الممتد امام المبنى محاط بالاسلاك الشائكة وعدد من الجنود يقفون ويضعون بنادقهم بشكل جاهز للقتال ، حيث وقتها كانت تركيا تمر بحالة طوارئ ، اجتزنا نقطة تفتيش الجوازت وحجتنا زيارتنا هي للسياحة ، وما ان نمر من جانب الجنود يطلبون منا السكائر حيث كانوا هم بحاجة اليها بسبب الوضع العسكري الذي يمرون به ناهيكم عن ان الجندي التركي وقت العسكرية يعيش على الكفاف ، كانوا يتصورننا سياح اتين للنزهة والبذخ ويحمل كل منا ما يحمله السائح ؟
استقلنا باص كبير كان يزدحم بالناس ويتكلمون لغة كنا نجهلها بالكامل ، وصلنا الى قلب المدينة ونزلنا انا وعدد من الرفاق وتبادلنا الحديث بشكل سريع ومقتضب واطلق احدهم يجب ان نحترس فاذا لم نكن يقظين فاننا معرضين للخطر ، وافترق عنا احد الرفاق الذي مكلف بالاتصال وجلسنا نحن الباقين في مقهى بائس كراسيه لاتتعدى اصابع اليد وعند الجلوس عليها يدخل الرأس بين الرجلين واتى لنا صاحب المقهى بالشاي الذي لايتعدى ان يكون ماء مضاف له بعض الصبغ الان ليس المهم الشاي او غيره وانما الاهم ان لاتخيب امالنا وتتكرر خيبتنا مثل المرة السابقة ، ونحن يدب الصمت بيننا كنا يقرأ الواحد هذا في ذهن الاخر ، في تلك اللحظات الحرجة والقلقة وعيوننا مصوبة نحو الشارع المقابل ، قطع الصمت صوت الرفيق الذي ذهب ... هيا رفاق بسرعة اتجهوا حيثما اتجه ونحن نسير كمن يمشي في حلم وعلى رصيف مدينة غريبة بكل تفاصيلها يلتقينا رجلان وبدأنا المسير جميعا بأتجاه نجهله وقف الرجلان الى جانب سيارتان كانت واقفتين وفتح كل واحد منهم باب سيارته وامرونا بالصعود ، ادارا مفتاح المحرك وبشكل هادئ جدا تحركت السيارتان ، كان المساء يهبط على المدينة ، دلفت السيارتان الى الطريق الجبلي بعد ان خلفنا المدينة ورائنا تملكني احساس هل اننا هذه اخر مرة نرى هذه المدينة او غيرها .. نرى الشوارع .. الناس .. المقاهي ... الخ ، هل انتهت علاقتنا بالحضارة .. تأملت المساء والنجوم المضيئة ، لايعكر الصمت الذي نحن فيه سوى دوي محرك السيارة ،وثقب الهدوء والصمت الذي انا به صوت ابو علاء الذي كان جالس بجانبي ... قال طريقنا طويلة يارفيقي طويلة جدا .. أننا نجتاز سردابا مظلماً انا واثق من ان الشمس المنبع القوي للنور الحقيقي موجودة في نهاية هذا السرداب المظلم ونحن نتابع المسيرة هناك حفر كبيرة غير مرئية في قاع السرداب وهذه الحفر مملوءة بالاوحال اننا محاطون بشباك الحبال المتدلية من الاعلى وهي غير مرئية ايضا في الظلام ، بعضنا يتعثر بهذه الحبال دون علمه ويبقى معلقا الى ان يموت وبعضنا يتدحرج ويقع في تلك الحفر السحيقة المظلمة ، فأما نغرق في الوحل ونموت او نتابع المسيرة والسعي من اجل الخلاص .
على حين غرة توقفت السيارتان ذات اللون الاحمر وامرنا بالنزول وتحركنا باتجاه قرية قريبة ولكن بهدوء وحذر دخلنا الى بيت عامر بعائلة وقدموا لنا بعض الاكل والشاي حيث كنا وقتها جائعين جدا ، فامرنا احدهم ان نخفف من امتعتنا ولا نحمل الا ما هو ضروري جدا ففعلنا ذلك اما بالنسبة لي ففرطت باشياء كانت مهمة بالنسبة لي الا من ديوان الشعر ، امرونا ان نغير احذيتنا حيث كنا نرتدي الاحذية الجلدية وذات الكعب العالي (موديل السبعينيات ) والتي لايمكن المسير فيها بالجبل ، فارتدينا الاحذية المخصصة للمسير الطويل وحتى هذه الاحذية لم تكن بالفعل مناسبة للمسير الطويل في الجبل ( هذا ما علمتناه التجربة لاحقاً ) .
خرجنا من البيت وبعد مسيرة ليست بالطويلة اشار احد الرجلين الذين رافقانا من وقت خروجنا من القرية التركية وهما غير الرجلين اللذين كانا معنا خلال رحلة السيارة وكان احدهما عجوزا ولكنه يتمتع بحيوية الشباب والاخر شاب له قدرة غير عادية على السير عرفتها بعد مسيرنا معه ، قال الرجل العجوز الذي تبدو على تقاطيع وجهه وعلى طريقة حركته انه متمرس في معرفة الطرق والجبال والوديان وقال من هناك الطريق الى الجبل الذي يكون محطتنا الرئيسية ، تملكني هاجس قلت عندما نملك القدرة على المشي تتجه الى الجبل ، الان اسلم نفسي لدروب هذه الارض ، حتى الجهات الاربع أضعتها ، اعتقد انهم يسيرون لأن الارجل خلقت للسير ، سألت احدهم عن الجهات فقال لي : لماذا تسأل ؟ يكفي الانسان نعمة الارجل ، القمر ، النجوم أنظر الى ذلك هو ضوء القمر ... قاطعني احدهم هيا واصلوا المسير امامنا مسافة طويلة جداً ، على حين غرة ظهر شبحان من وراء جذع شجرة عالية بدت عن بعد كمارد اتجها نحونا توضح انهما رجلان يحملان البنادق وبعض الامتعة ، همس احد الرجلين اللذين يرافقانا انهم اصدقاء وسيواصلون السير معنا ، تحدث الاربعة بهمس كقادة يتفقون على خطة معينة وبعدها تابعنا المسير ، واذا بنا نصل الى منحدر من الصعوبة المسير به لمن يجهل المسير في هكذا طريق حيث لانشاهد اي مجال للمسير ومن ينحدر لايوجد له اثر لعمق الوادي وشدة انحداره ولكننا بفضل مساعدة الرجال ومن منا من سار على الاربعة ، اجتزنا هذه المسافة التي كانت قصيرة بعض الشيء ، وبعد اجتيازها تملكنا احساس اننا خرجنا من حافة الموت وخاصة بالنسبة لمن لم يمتلك الخبرة في المسير مثل هكذا طرق الذي يخيم عليها الهدوء الرصاصي ، وما اكثر ما سنواجه مثل هكذا طرق موحشة .
ثقب الصمت الذي نحن فيه نباح كلب واشار احد الرجال أننا وصلنا الى محطة نستريح بها الى ان يسدل الليل ظلامه ، فاتجهنا الى مكان لايمكن اكتشافه الا لمن ارتاد هذا المكان اكثر من مرة يلقانى رجل عجوز يجر وراءه عصا رحب بنا على طريقته الخاصة وعندما رأيته تبادر الى ذهني أنه رجل ذو أطوار غريبة وعندما سألت عنه قالوا : هو من الرعاة الذين لايعرفون المدن وانه محكوم بالاعدام ثلاث مرات ومطلوب حياً او ميتاً الى حكومة بلده ، وعندما يتحدث هذا الرجل يتحدث عن الجبال والوديان وعيون المياه ورعاة الجبل ، كان بودي ان استمع لحديثه ولكن حاجتي للنوم لما انا به من تعب وفي مكان لاتستطع ان تمد ساقيك بل تسحبها الى الخلف وتسندها الى بطنك .
كان صباحاً رمادياً والشمس المضيئة تدخل من بين شقوق الباب فأحسست بغبطة تسري في مسامي نفسي وفجأة فتح باب المغارة بالاحرى ليست بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة وانما اغصان من اشجار صفت بشكل ما ووضعت على فتحة المغارة ، الهواء الرطب العابق برائحة البشر كان يملأ المغارة ثم قلت ل(ابوعلاء ) كان يستلقي بزاوية من المغارة يبدو ان نومي كان عميقا من شدة التعب ، دخلوا اثنان على اتم جاهزيتهم القتالية وعلى وجوههم فيض من فرح بدأ وكأنه تكثف في احداقهم اللامعة تبادر الى ذهني انني رايتهم في مكان ما فتصافحنا واحتضن الواحد الاخراصابتني الحمية الثورية فجربت ان أهتف واردد نشيدا حماسيا عن الوطن ... الكفاح المسلح وعن هؤلاء الذين هم يرفعون رايته ليسوا خلقوا لهذه الحياة وانما جاؤوا من أماكن لاوجود للجبال فيها بالامس كانوا على مقاعد الدراسة او موظف في احد الدوائر الحكومية او عامل في القطاع الخاص او الى غيرها من مجالات العمل ، بادر احدهم وقال لي الم تتذكرني حيث كنا في موقع عسكري واحد في بيروت وحدثني عن بعض التفاصيل ... أه لقد تذكرت ... قالوا جئنا لكي نطمئن على وصولكم الى هذا المكان فتبادلنا الحديث وعن ذكرياتنا في معسكر التدريب ، رغبت بالاسترسال نحو امور دقيقة لها علاقة بما نحن فيه ... لها علاقة بالزمن .. بالحياة القديمة والحديثة والاشياء التي تفهم والعصية على الادراك لكنهم لم ينتبهوا الى ما اريد ان أقول او قصدا لم يرغبوا بالرد وانهالو علي بأسئلة غريبة الى حد لم يسمحوا لي بتوضيح افكاري .
قاطعنا صوت احد الرجال الذين رافقونا وكان الليل قد اوغل ، قال الرجل بلا مقدمات حان وقت المسير سرقت بعض الوقت لكي استفسر من احد الرفاق الذي دار الحديث معهم هل سترافقونا قال : لي لا يارفيقي ان اتجاهنا غير اتجاهكم ، الح الرجل بالاستعداد للتهيئ والمسير عبر وديان وممرات جبال شاهقة وطرق ملتوية ووديان سحيقة ، اشار الرجل باشارة تنم عن خبرة عسكرية كالذي يستخدمها القادة العسكريون في المعارك ، اشار بالجلوس وقال بهمس يجب ان نمشي بتوجس على رؤوس اصابعنا هنا قريبا يوجد موقع عسكري للجنود الاتراك ، لحظات صمت مخيفة تنقطع حتى اصوات اعقاب الحرس تبدو الحياة وكأنها متوقفة ، اجتزنا مكان المعسكر بسلام عبرنا شارع مكسو بالاسفلت همست في اذن ابو علاء الذي كان بجانبي طول الوقت .. توجد حياة هنا يوجد بشر يعيشون على هكذا مسافة من المدينة التي تركناها ... سنكتشف السر فيما بعد ، يتركز التعب عن ساعات طويلة امضيناها نسير دون نوم ، تورمت أرجل اكثر الرفاق والالام لا تهدأ نلنا قسطاً من الراحة بقى قسماً من الرفاق مستلقياً على الارض الباردة ، شعرت برغبة كبيرة للتدخين رغم الجوع الذي كان يعتصر معدتي ، وكنت خجلاً من طلب بعض الطعام الذي كنا نحمله معنا ، بادر احد الرجال بأخراج قطع من الخبز وقليل من الجبنة الذي شاهدت نوعيتها لاول مرة حيث تفوح منها رائحة نتنة وخلط معها بعض الاعشاب كنا نجهل نوعها ولكن شدة الجوع تجعل كل شيء لذيذ ، نفذت رغبتي بالتدخين ولكن بطرقة سرية حيث تحلق ثلاث رفاق واندسيت بينهم منبطحاً على الارض لكي اشعل السيكارة فأخفقت في المرة الاولى فلعنني الرفاق ولكنني أصررت على أشعالها وذلك بسب وسيلة الاشعال حيث استعرتها من احد الرجال وكانت ذات تقنية لااجيد استخامها تتكون من قطعة خشب من نوع خاص سريع الاستشعال شبيه بالفلين وقطعتين من الحجر لعمل الشرارة (كأننا في العصر الحجري ) ، فأشعلت اكثر من سيكارة اضعها بين كفي واناولها لآحد الرفاق ، قبل ان نكمل سكائرنا اجبرنا الرجال الذين يرافقوننا على القيام والاستمرار بالسير ، في البداية لم يستطع البعض منا النهوض الا اذا مسكه أحد الرجال او رفيقه ، كما اصبحنا قادرين على المشي ولو بصعوبة غير قليلة نشعر ببعض الارتياح حين نمشي ، يجب ان نبقى مثابرين على المشي في العمق بين الجبال الشاهقة وفي الوديان العميقة مرة وعلى الجبال الشاهقة الارتفاع مرة اخرى ، شعر بعض الرفاق هناك حرقة بين الفخذين وقد احمر الجلد واخذ يتقيح فأخبرنا الرجال الذين معنا بذلك .. فقالوا ربع ساعة ونصل الى مكان نستريح به فأنتابنا فرح طفولي قلت في نفسي ربع ساعة ونستريح هذا أمل عظيم في حينها كل واحد نظر الى ساعته لكي يحدد الوقت بالضبط وسرنا كأنما طاقة جديدة اضيفت لنا مضيت الربع ساعة ولكن لم يقل اي واحد من هؤلاء الرجال عن الاستراحة اي شيء ، ربع ساعة اخرى ولم نسترح فأستسلمنا لمنا نحن به يجب ان نواصل المسير مهما كلف الامر بعد ذلك عرفنا ان بالنسبة لهذا النوع من الناس الوقت ليست كما يؤشر عقرب الساعة ، يعني لهم المسير مسافة ، تهامسنا انا وابو علاء هؤلاء الرجال ذو طبائع غريبة ولهم نظامهم الخاص بهم فمن الان وصاعداً عندما يقولون ربع ساعة يعني ساعة او اكثر يجب ان نفهمهم ونعتاد على طباعهم وطريقة حياتهم فأتفقنا على ذلك ، كان الهمس شيء ملذ بالنسبة لنا لأنه ينسينا تعب المسير وكذلك ينهي بعض الوقت وبهذا كنا قد تخلفنا بعض المسافة عن باقي رفاقنا والرجال واذا باشارة صوتية من الاشارات التي يستخدمها هؤلاء الرجال في المسير ليلا وهو ( الصفير) تأتي باتجاهنا فأسرعنا المسير لللحاق بهم ، قال احد الرجال هنا مكان استراحتنا نقضي النهار هنا ، كانت الشمس المرسومة بدقة والموشاة بلون احمر توضح كل شيء ، كانت الطيور اجهل اسمها في وقتها تحوم فوق المكان دون ضجيج ، كنا نحلم احيانا اننا على وشك الوصول الى المكان المنشود واصبحت اشارة احدهم شيء لايوصف بالنسبة لنا اتجهنا نحو صوت الاشارة واسرعنا بكل قوتنا وفجأة اصطدمنا بأحد الرجلين سرعنا سويتاً قال هذا هو النبع ، كان الماء رقراقاً بارداً أنه أشهى ماء فهو دائما نظيف ولذيذ وفي الصيف يعبق برائحة العشب المنقوع كنا متلهفين لارواء ضمئنا بسرعة ثقب الصمت احد الرفاق فلنرفه عن انفسنا بشيء من هذا الماء العجيب بعد ذلك ندخن ارتوينا ، صاح احد الرفاق لاتشربوا كثيراً من ان الماء، الكثير بعد ضمأ مضر ، فجاب رفيق اخر نعرف ولكن لاحول لنا ولا قوة كنا عطاشا ، ثم جلسنا عند ضفة النبع بدأنا بالتدخين واخذ كل منا ينفث الدخان مستمتعاً ، سادت لحظة هدوء رائعة عندها أحس الجميع بقليل من الرضى والسعادة بعد ان اطفأوا ضمأهم تحدث احد الرجال وكنت لاول مرة ارى تفاصيل وجهه بشكل دقيق كان ذا حنجرة بارزة ورقبة طويلة واليدين الطويلتين المعقدة كا لجذور والعينين الدافقتين دائما والمتذكرتين ، وهل يمكن ان يكون غير هذا ، وهل يمكن ان نصل الى الوطن بلا وجود هذا العجوز ، بلا هذا الانسان ، دفعني الفضول ان اتفرس في وجه الرجل الاخر ها هو يجلس بكامل عتاده وسلاحه بين فخذيه ويدخن ، اسود اللحية اسنانه مشوبة بالصفرة لكثرة تدخينه ، كان عريض المنكبين واثقا من ذاته وعيناه كانت كبلوط ناضج صافييتين ، كان لدي شعور ان هؤلاء الرجال على غير الصورة الذي هم عليها .
نهض الرجل الاخر وجمع بعض الاخشاب ورتبها بشكل يشبه الهرم واشعلها بأدوات خاصة اخرجها من جيبه الذي كان مستودع للاشياء المتنوعة ، كان يهم باعداد الشاي الذي فقدنا طعمه لفترة غير قليلة ، اخرج عدة احضار الشاي البسيطة والمتواضعة من (عليجته ) الذي كان يحملها على ظهره ، جهز الشاي فتحلقنا في مكان واحد واخرج الرجل الاخر ما يحمله مما تبقى من الطعام والذي لايتعدى الجبنة والخبز التي اصبح يابساً ، المهم كل شيء لذيذ الان لأن الجوع قد اعتصر معدتنا.
كرر الرجل حديثه ، اننا سنستأنف المسير بعد غروب الشمس ، مع بداية الليل سيبدأ كل شيء من جديد ، ما مدى قدرتكم على التحمل هو اجاب نفسه لا انتم قادرون على مواصلة المسير ، قادرين على ابداء المقاومة يجب ان تتعودوا على المسير ، اجابه احد الرفاق ينتظرنا المزيد من العمل والجهد ايها الرجل ، وبهذا وفر لنا الرفيق عناء الحديث مع هذا الرجل لأننا كنا بحاجة كبيرة للنوم ، كل منا استلقى في مكانه بدون اي حركة من مكان الاكل ، كنت قد اخذ مني التعب مأخذاً ، استلقيت ووجهي الى الاسفل وقد دسيت ذراعي تحت رأسي كوسادة ، محاولا نسيان ذاتي في الاحلام اقتحمني النوم دون ان أدري ، كان ابو علاء مستلقيا بقربي ، يهدأ تارة وبعد تارة اخرى ليتحرك ويشخر متشنجاً وكانت تظنيه نوبات التعب ، بعد فترة قصيرة رفع رأسه وقال : الم حاد في أرجلي
فاجبته : اخلع حذائك لتسترح بعض الشيء ان الليل ليست بالقريب جداً امامنا متسع من الوقت فساعدته على خلع حذائه بكثير من الصعوبة فأخذ يتألم اكثر ..قل لي : ماذا افعل لكي اساعدك ، هل اقوم بصب الماء البارد على رجليك ... أجاب : لا ... الان ... اريد ان اتحمل حتى يأتي الليل .
قلت له : شيئا ما الا انه لم يريد الاصغاء لي بسبب الالم فتركته بعض الوقت ، فعاد الى غفوته بعض الشيء ، الوقت يمر ثقيلا متباطئا .. لكن الصمت كان يخيم على العالم صمت ساكن مميت ، كان الرجلين الذين يرافقوننا جلسا طويلا بلا حراك مركز تفكيرهما بوضوح ومنشغلان بأفكار سامية وكأنهم لن يعانيان ابدا من اي تعب ، من اي عذاب جسدي ، جلسا ساكنين صامتين كصقر على قمة صخرة ، احدهما كان يدخن وينفث الدخان كأنه للمرات الاخيرة ، هكذا انتهى النهار الطويل ... جاء المساء وها هي ليلة اخرى تحل وفي ظلام الليل الاصم وتقضية ليلة طويلة الى درجة اللامعقول ليلة قاسية لا تطاق ، كل شيء يرقد في سكون لايزول وظلام لاينتهي ولكننا الوحيدين مع هذا الظلام منهمكون في المسير ، بدأ العطش يأخذ مأخذه وما معنا من يجب ان ندخره الى وقت اخر ، كنا بحاجة الى الماء فقط ولا شيء غير الماء فالاحساس بالجوع كان يخمد تدريجيا كألم اصم يغور والى الاعماق اما العطش فكان يشب بقوة اكبر كلما طال الزمن ولاشيئ يخمده ، كنا لم نتصور خلال حياتنا ولا مرة واحدة ان تكون قسوة الضمأ الملتهب قاسية الى هذه الدرجة .
كان الخجل حاجزا كبيرا ان نطلب من الرجلين الاستراحة ولكننا بعد هذا اتفقنا ان نستريح بعض الوقت ونشرب قليلا من الماء ، فتحفزنا الى ذلك وكلفنا احد الرفاق ان يقوم بهذه المهمة فقال الرفيق لأحد الرجلين الذي كان بقربه ، فأجابه نصل هذه القمة ونستريح ، كانت الاستراحة بالنسبة لنا فرح كبير ويتوج هذا بتدخين سيجارة ، فحفزنا واحدنا الاخر وشددنا من أزرنا لكي نواصل المسير وبسرعة ... اخنا نردد فيما بيننا القمة .... القمة كان هذا لتمضية الوقت ، ما كان للاستراحة من لذة وفرح كان يقابلها الم مخيف منطلقا من اسفل الساقين وصاعدا الى الاعلى ليستقر في اعماق اللحم ، لانستطع تمييز الوجه الودود الذي يتحدث الينا في الظلام الدامس انه يشحننا بالقوة ويمكننا في الاستمرار في مقاومة التعب ... الالم .. الاستمرار في المشي ، الراحة عند هؤلاء الرجال لاتشكل شيء في قاموسهم عند المسير في هكذا طرق ، يجب ان نضغط على انفسنا حتى لانزعج هؤلاء الرجال ، حتى لانترك لديهم صورة سلبية وربما تؤثر على اندفاعهم بالعمل بايصال الرفاق الاخرين الذين ينتظرون على احر من الجمر ، قبل ان نكمل سجائرنا امرونا بالمسير فما اثقل هذه الكلمة في تلك اللحظات ، ارادوا ان يعيدو الرجلين الاطمئنان الى انفسنا سوف نصل بعد مسير مسافة ، فتبادر الى ذهني ماذا تعني المسافة بالنسبة لهم، لكننا مع اخفينا الضيق والملل الذي اصبح ينتابنا ، دخلنا في وادي عميق ويظيق كلما تعمقت به حتى يصبح كقلعة ، على جانبه جبال مظلمة ، الصمت يرى وهو يزحف زحف ضلال هذه الجبال الشاهقة ، كان الصمت يسمع من خلال الهدوء الجنائزي ومن هذا الصمت كان يخرج شيء رهيب صليل متقوقع لايمكن تسميته ، خلال الحياة والموت المتداخلة تموجت ثم تجمعت في حشرجة صدرت من صدر احد الرفاق ...اين ... قف ، كانت الشمس قد اضأت الجبال وجزءا من الوادي ... ها هنا الانصار كانت الجبال والوديان تمتد تحت شمس ساطعة ، كان كل شيء معد في هذا المكان النائي ، حيث كانت مجاميع الانصار التي سبقتنا قد بذلت جهود استثنائية وفي ظروف قاسية وغياب كل مستلزمات البناء، لكنهم بنو قاعة كانت هي الوحيدة والتي تقع تماما بجانب النهر الفاصل بين العراق وتركيا كان هذا المكان ما اصطلح على تسميته (كلي كوماته )، هذا الوادي بالنسبة للأنصار شيء خارق اعجوبة لابد من يراه لاول مرة لاينساه، وظل يتردد اسم هذا الوادي في جميع مراحل حياة الانصار أضافة الى الانقاذ الذي يشكله هذا الوادي من القصف المدفعي من العدو لشدة وعورته ، يمتد الوادي مسافة غير قليلة وهذا الامتداد العريض في البداية لايلبث ان يضيق شيئا فشيئا حتى يصبح قريب من نهايته مجرد حاجز صخري تتناثر فيه اشجار قليلة من البلوط .
رحل كل التعب غرقت في تصوراتي واحلامي لما شاهدت هؤلاء الانصار الذي من اليوم اصبحت منهم ، ادعينا الى الطعام الذي يتكون من شوربة العدس هذا النوع من الاكل وقتها كان يعتبر من الاكلات الدسمة وبالاخص بعد التعب والجوع ، اعد الشاي ، كل ما كان يستخدمه الانصار في طهي الطعام هو الخشب اليابس الذي يأتون به من الجبل واعد موقد خاص لطهي الطعام واعداد الشاي .
بدأت الهمسات ثم التفكير بين الرفاق من سيسبق الاخر بالحصول على بندقية حينها كان الحصول على بندقية بسبب قلتها او ندرتها ، ظلت الامور تتراوح بين الأمل واليأس ، واذا بمسؤول الموقع يتحدث مع احد الرفاق طلبت الانفراد به وطلبت منه ان احصل على بندقية ، فرد أسمك ضمن قائمة الاسماء
لم يمض سوى بضعة اشهر على وجودنا في ( كلي كوماته ) وكان ذلك في اوائل /8/1980تم انشاء موقع متقدم يقع في تلك القرية الصغيرة التي تتكون من بيت واحد والتي سمت نفسها او سماها اهلها الذين فرو من الارهاب التركي ، انها (قرية يك مالة ) ، حيث كانت مهمة هذه المجموعة محطة لأستقبال الرفاق الجدد القادمين من الخارج ومهمة اخرى كنقطة متقدمة لصد اي هجوم محتمل من قبل قوات النظام وكان هذا الموقع لاتوجد فيه قاعة للسكن ، بدأت هذه المجموعة تكدس الحجارة ، بدأت حركة غير عادية بانتظار الشروع بالبناء ، حضر الرفيق المكلف بالبناء ، ابو كريم وهو ليست ببناء حجراً وانما كان يعمل بناء للطابوق وهذه اول مرة في حياته تمس يده هذا النوع من الحجر الذي يعتبر بنائه يتطلب مهارة خاصة وله ممارسة في بناء الحجر ،فتم اختيار مكان بناء القاعة على انقاض البناء الاول الذي لم يبق منه شيء سوى اثر ، عرضوا على ابو كريم المكان المقترح للبناء فوافق واكتفى بأن اوصى وبكلمات عامة ( ان يكون البناء قويا ً مثل بيوت القرويين وان يكون واسعاً ) ، بدء الشروع بالبناء واخذ الرفيق البناء لايستقبل اية حجرة وانما الحجرة التي تكون ذات شكل هندسي منتظم وبحركات رشيقة يغير الحجرة باتجاهات عديدة الى ان تستقر بالشكل المناسب وبحيث يظهر الشكل المسطح المنتظم كواجهة للبناء ، كانت بعض الاحجار كبيرة وتتطلب عناء كبيراً من قبل الرفاق لكي يوصلوها الى المكان الذي يحدده الرفيق البناء وتتطلب عناء اكبر عند وضعها في مكانها ، كانت تتخحلل العمل التعليقات والمزاح وهذا يضفي طابع المرح على جو العمل الجاد والمتعب كان الرفيق البناء يتميز بهذه الصفة حيث يمتص التعب شيئاً فشيئاً ، فاذا أنتهى وقت العمل الذي كان يحدده بشكل صارم الرفيق البناء نفسه ، وفي وقت الراحة يكون النقاش حاداً حول البناء وهل سيكون متيناً او متى سينتهي ، كان العمل السريع والجاد قد تطور الى ما يشبه التحدي للفترة القياسية التي صعد فيها البناء ، في هذه الفترة كلف الرفيق البناء للذهاب بمهمة وهنا اخذت الوجوه تكتئب حيث من سوف يكمل البناء وان ما تبقى منه وهو السقف يتطلب خبرة رغم تحذير الرفيق البناء من اكمال البناء الى حين عودته من مهمته ، قررنا اكمال البناء لأن الوقت بدأ يضايقنا حيث حلول فصل الامطار بات قريباً ، فأحضرنا ما يستلزم من اخشاب واغصان الاشجار المكسوة بورق البلوط الذي بذل جهداً كبيراً من قبل الرفاق لأحضاره لبعد المسافة الذي يوجد فيها مثل هكذا نوع من الشجر ، شرعنا بعمل السقف وهنا بدأت المقترحات والملاحظات كل واحد يقول هكذا يتم وضعه واخر يقول ليست هكذا ، المهم رتب بالشكل الذي ابتكره ابوكميرصاحب المقترحات والملاحضات المتكررة ، وقبل اكمال السقف بالكامل عاد الرفيق ابوكريم من مهمته ، ورغم اعتراضه شارك في ما يجب وضعه من كمية من الطين والتراب ، نزل المطر في تلك السنة في غير موعده وبسبب عدم عدم وضع الاغصان بشكلها المطلوب نفذ الى الماء الى جدران الغرفة واخذا الحجر يتساقط بشكل بطيء ، كانت هذه الغرفة هي ملاذنا الوحيد ، كانت اللحظات قاسية وعبروا عن ذلك الرفاق بصور شتى الكل ظل في عيونهم لوم لايخفي وكأن هذه العيون تقول : لماذا لم ننتظر عودة الرفيق البناء الذي لم تدم طويلاً وبطريقة لاتخلو من ارتباك بين ضخب الرفاق وضجيجهم بالاضافة الى زيادة نزول المطرلهذا اصبح من الضروري مغادرة الغرفة خوفاً من سقوطها الكلي المفاجأ ، لهذا قرر الرفاق الذهاب الى غرفة قريبة من الموقع تعود الى الحزب الديقراطي فشعروا بالخيبة وما يشبه الكراهية ، لماذا حدث هذا حيث سقط جزء من جدران الغرفة وهل يستطيعون الذهاب الى تلك الغرفة التي لايعرفونها ولم يعيشوا بها من قبل ، وهم يقطعون المسافة باتجاه الغرفة يحسون بخيبة الامل ويشعرون بالاحراج كيف سيصلون الى هذه الغرفة ... عند وصولهم الى الغرفة انزووا كل الرفاق في مكان محدد صغير من الغرفة لأنها كانت كذلك ينفذ الماء من سقفها ، حينها ظهرت القوة الداخلية التي تلغي المسافات حيث بدأت علامات الحزن على الوجوه وبالاخص الرفيق ابو كريم فدفن رأسه بين يديه وظل هكذا فترة طويلة وبطريقة أقرب للبكاء لحظات قاسية ليس فقط للرفيق ابو كريم وانما لجميع من ساهموا بالبناء لكنهم ظلوا صامتين ،اما انا تخلفت عن باقي الرفاق واصررت على البقاء في الغرفة اعتقاداً مني لايمكنني انا اتخلى عن مكان الذي بذلت انا ورفاقي حهداً غير عادي وهو في ظرف حرج ، وبيقيت جالساً امام موقد النار الذي أشعلناه لعله يخفف من رطوبة جو الغرفة ويجفف بعض الشيء الجدار( الايل للسقوط ) ، انتبهوا الرفاق لعدم وجودي بينهم في الغرفة الاخرى فبعثوا رفيق ليرجوني بالخروج من الغرفة فرفضت ذلك رفضاً قاطعاً فاستسلم الرفيق لعنادي ، بعدها ارسلوا الرفيق ابو ريتا وذلك لكون تربطني به علاقة خاصة استجبت لطلبه لي بمغادرة الغرفة وفي لحظة خروجنا وعند الباب سمعنا صوت انهيار الجدار حينها علق ابو ريتا (ها ولك نجيت ) .
انقضت تلك الليلة التي عمت الجميع حالة من الحذر والتي بدت من الصمت والانتظار، وان الاستمرار في هذه الغرفة الطارئين عليها وبهذا الوضع سيولد المزيد من التعب والعذاب لكل رفيق ، اصر الرفيق البناء الاستمرارفي اعادة بناء ما سقط من الجدار ولاقى هذا صدى في نفوس الرفاق ، وفي صباح اليوم التالي بدأ العمل بدأب ونشاط ولكن بجهد مضاعف ورتبت لجدران الغرفة اعمدة متصلة ببعضها لكي يستقر السقف عليها لكي لاتتحمل الجدران ثقل السقف واصبحت الغرفة من كثرة الاعمدة كما اطلق عليها احدهم كمعبد روماني ، وبعد اكمال البناء فرحوا فرحاً شديداً وتذكروا الاحداث التي مرت في ليلة انهيار احد جدران الغرفة وما انتابهم في تلك الليلة .
ومن الادرايين الذين تولوا مهنة الادارة في موقع ( يك مالة ) هو الشهيد ابو علاء حيث كلف بتلك المهمة وهو مزهو ومجد ومثابر لمتابعة الامور حيث كان ليلا ينبطح على بطنه ويضع الاوراق امامه لعمل جرد لمواد التموين او وضع جدول الوجبات لليوم اللاحق وقد اطلق عليها وقتها ابو كمير حيث يهمس بين الرفاق حضر ابو علاء (الدبالاك ) ، كنا انا ووسام عندما يتم تعليق جدول الوجبات عند باب الغرفة وفي وقت الحراسة وفي غفلة من ابوعلاء نغير وجبة العدس الى عسل حيث هاتين المفردتين متقاربتين وبهذا نكون قد شاكسنا ابو علاء وربح الرفاق وجبة مرغوبة لديهم نوعا ما بدل العدس التي اتخم بطونهم ، وحين يفيق من النوم ابو علاء ويرى ان وجبة الفطور قد تغيرت فيشيط غضباً ويتفرس الوجوه ولكن لايستطع فعل شيء ان الامر انتهى من يده وتنعم الرفاق بوجبة غير الوجبة التي حددها هو في برنامجه وحساباته ولايبذل جهد كبير بمعرفة الفاعلين مباشرة يوجه الاتهام لي والى وسام لأن لااحد يتجرأ على فعل ذلك الا نحن الاثنين بحكم علاقتنا الوطيدة .
جرى همس بين الرفاق ان مجموعة من الرفاق جاؤا الى المقر الرئيسي في كوماته وذلك لتعزيز السرية المستقلة وتم اختيار الرفاق الذين سيذهبون في المفرزة ، وعندما عرفت انني ضمن الذين تم اختيارهم للمشاركة بالمفرزة وبطرقة مليئة بالزهو والثقة ذهبت الى ابو علاء لكي اخبره بذلك وبطرقة مماثلة قابلني انني سوف اكون معكم وزاد فرحي وبنفس الوقت قلقي عليه لأنه كان يشكي من اعراض الم في جهة مثانته اليسرى ولكن اصراره ورغبته الكبيرة في المشاركة في المفرزة مثل هذه جعله لاينطق بأي كلمة باتجاه رفض مثل هكذا مهمة ، حينها قفز الى ذهني ما قاله سابقاً " الاصرار اهم ميزة بالانسان " فحجبت عنه ما اردت ان اقول له بشأن ذلك لأنه لايعير أية أهمية لما سوف اقوله له بقدر ما يعير أهمية لما هو مصراً عليه , تجمعوا الرفاق في الساحة الضيقة وعلى حافة نهر صغير داخل هذه الكتلة المديدة المختلجة كجبل من ثلج في محيط ، كنت اتحرك منذ المساء جهزت نفسي وكذلك الرفاق الذين كلفوا بنفس المهمة ، مجاميع الرفاق متحفزة ، أنهم في أتم جاهزيتهم القتالية وعلى وجوههم فيض من فرح بدا وكأنه قد تكثف في احداقهم اللامعة ، الحدقات تتجه نحو مكان محدد ونحو رفيق سيصل ذلك المكان أنه امر المفرزة ، لقد كان بادياً هناك في الوجوه الفرحة ان شيئاً عاماً يطغي معطياً المكان والزمان ايقاعاً سنفونياً شديد السحر ، كان الفرح المختزن يخرج كما يخرج الفلاحون غلال الصيف في أزمنة الشتاء ، حملوا بعض الادبيات والخبز الذي يحمل بصمات اصابع الانصار ، انه خبز من صنع الانصار انفسهم وكذلك الشاي والسكر انه اهم شيء في هكذا رحلة ، نادا الرفيق امر المفرزة كل شيء جاهز ووقف امام المجموع ليعطي بعض التوجيهات التي تخص المسير في الطريق والاحتياطات اللازم اتخاذها تحدث بشكل مقتضب وسريع لقد سمعت عن هذا الرفيق قبل ان التق به انه الى جانب عنفه وقسوته مع الاعداء يتميز بقلب فسيح اخضروله خبرة في العمل العسكري ، تحركت هذه المجموعة انها امتداد سريع وخاطف لموكب مفعم بالفرح والتباهي عبرنا نهر صغير وقد ابتلت ملابسنا بالماء وبعد خروجنا من الماء بفترة قصيرة شكى ابو علاء من الم في جهة مثانته اليسرى ولكنه بقى مصراً على مواصلة المسيرحينها اخذ الرفيق وسام بندقيته منه حينها تيقن ابو انه بالفعل في حالة مرضية ،(الفتق التي تعرض له هو الفتق الباطني الداخلي والذي ترافق مع انسداد الامعاء وكل نوع مه هذه الفتوق قد يكون اولياً "اي لم يتم علاجه من قبل" ونوعه من النوع غير المرتد :أي لاتدخل الاحشاء به مرة أخرى الى وضعها وتبقى داخل الكيس ، حيث أنسدت امعائه وهذه تستدعي جراحة عامة ، وكذلك ما تعرض له عدم وصول الدم الى الاحشاء او منها وهذا أدى الى غرغرينة "موت الاحشاء وتعفنها وها النوع يؤدي الى الموت السريع ) وقرر امر المفرزة تحديد مجموعة من الرفاق للأنفصال عن المفرزة والاعتناء ومتابعة ابوعلاء حينها حمل على حيوان وقد تم اختيار قرية صغيرة لاتتعدى البيتين تقع في الطريق بين ( سيانة واطوش ) لتكون مكان استقرار المجموعة التي كانت تتكون من الدكتور الشهيد عادل وسعيد وسلام (قوال) وانا وامر المجموعة الشهيد ابورؤوف وعذرا لمن لم اتذكره من كان ضمن المجموعة ، بدأت الالام تشتد عنده واخذ يتقيئ قئ اصفر لأنه لم يستطع تناول أية اكل سوى شرب الماء ، بذل الدكتور عادل جهدا في ما يستطع عمله وقتها، اقترحت عليه اجراء عملية جراحية له لآنها الوسيلة الوحيدة لأنقاذ حياته فاعتذرا وذلك لعدم توفر مستلزمات العملية من مخدر وحتى مشرط والى امور اخرى تحتاجها مثل هكذا عملية وفي مثل هكذا ظروف ، وفي هذا الجو المليء بالقلق والترقب فاجأني مقترح من قبل قيادة المفرزة المكون من الرفيقين الشهيديين ابوماجد (علي خليل ) وابوفؤاد بأن نتركه على الشارع العام لعل السلطات الحكومية تجده بحالته السيئة هذه وتعطف عليه وتعالجه في احدى مستشفياتها فرفضت ذلك رفضاً قاطعاً لكوني انا صاحب القرار" المشاعر المعقدة التي صاحبت القرار حتى تصل الى النقطة التي يمكن ان أشعر بالراحة بالقرار الذي اتخذته ، السؤال الذي يؤرقني لحد الان كيف يمكنني أن أتأكد ان قراري صائب وقتها وكيف يمكن ان نتفهم نتيجة ما لايمكن التنبؤ به في حال الاخذ بمقترح الرفاق القياديين ، وذلك بتركه في الشارع العام واخذته السلطة وعالجنه فهل تتركه بدون اية اجراء معروف لدينا بطبيعة السلطة الدكتاتورية الفاشية واساليبها القمعية وبلاخص اتجاه من رفع السلاح بوجهها وانا كل ثقة به سوف يبقى يعاني نفسياً حتى لوتركته السلطة بعد علاجه وهذا امر أشك به تماماً "لهذا اتخذت القرار بدله لكونه لايستطع التحدث او اتخاذ أية قرار لسوء وضعه الصحي واني اقرب الرفاق اليه حيث ملازمتنا الواحد الاخر منذ ان فارقنا ارض البصرة ، وبعد ثلاثة ايام من المعاناة الشيدة والتقيء المستمر فارق الحياة ،ودفن في قرية تقع بين سيانة واطوش لاتتعدى البيتين ودعناه بعدد من الطلقات .
هامش : الموضوع كتب في تاريخ قديم ويعكس المرحلة وما أنا بها وقتها .
الشهيد ابو علاء (عوني عبدالزهرة من اهالي البصرة ومن حي الجمهورية كان يعمل موظف في كهرباء منطقة النجيبية غادر العراق في عام 1978الى سوريا ومنها الى لبنان للتدريب في منظمة الجبهة الديمراطية لتحرير فلسطين ،التحق بصفوف الانصارفي الشهر الخامس من عام 1980 ، فارق الحياة بسبب حالة (الفتق ) التي اصابته وكان ذلك بتاريخ 26/3/1981ودفن في قرية تقع بين (اسيانة واطوش ) ( لست متأكد من اسم القرية ولكن كلما اتذكر الحدث تقفز الى ذهني قرية ( كادان ) وهذا الاسم من القرى النادرة التي بقيت عالقة في ذهني هل بسبب دفن صديق عزيز علي فيها ام قرب الاسم الى قلبي وخاصة عند ترجمته الى العربية والتي تعني ( تل التبن )، وهنا لابد من التذكير هل استدل على مكان قبرالشهيد وهل يعرف اهله باستشاهده ومكان دفنه .
لاتوجد أية صورة للشهيد ابو علاء بين صور الانصار وذلك بسسب صرامة القرارت ومنع الصورلللانصار في السنوات الاولى بالاضافة الى ذلك كان هو شديد الالتزام بذلك .
* المقصود هو عباس الجوراني
ابو لينا
19/8/2013