الدليل تجربة ومعاناة/18 مزهر بن مدلول

 من مدينة (الجهراء) الى منطقة (الصليبيخات) ومفردها  (صلبوخ) وتعني (الحصى)، وهو مكان صحراوي واسع ويقع بالقرب من الشارع الدولي، اراد الكويتيون ان يجعلوا منه مدينة، فاقاموا لهذا الغرض مشروعا كبيرا لبناء المئات من الوحدات السكنية وفتح  الشوارع وعمل المجاري وامدادات الكهرباء وغير ذلك من مايلزم لاقامة مدينة كاملة المواصفات، وجلبوا من اجل انجاز تلك المهمة الاف العمال الاجانب الذين لم توفر لهم بلدانهم فرصة العيش اللائق بالانسان.

عندما وصلت الى هناك، رأيت التجمعات السكنية الخاصة بالعمال تشبه معتقلات الاسرى في تصميمها واسوارها وقسوة الحياة فيها، وهي تتألف من غرف صغيرة مبنية بالحجر ومليئة بالثقوب، اما مرافقها الصحية ومطابخها وحمّاماتها ففي الهواء الطلق!،  ويغطي حاجة العمال الى الاكل بعض الدكاكين التي تبيع الخضروات الطازجة ومعلبات  اللحوم (الحلال)!، كما توجد ثلاثة افران كبيرة تنتج الخبز.

 غمرني فرح عارم، رغم انّ مظهري الخارجي يعبر بصورة لاتقبل الشك عن المرارة التي عشتها في الصحراء، والتي لم تمنحني الفرصة لأفرك عينيّ وازيل عنهما العمش،   فرحتُ اسأل عن مكان العراقيين في هذا التجمع الكبير، وعندما ارشدوني اليه، سألتُ عن الاسماء التي اعرفها، وهم من ابناء الريف الذي انتمي اليه، وعندما اهتديت اليهم، رأيتُ شبابا ذبلت وجوههم وأعيت ساعات العمل الطويلة اجسادهم، فلا وقت هنا لأقامة ليالي بيضاء ولاحكايات ولا فكاهة ولا ثرثرة، فقط عمل شاق اثناء النهار والخلود الى النوم مبكرا.

 قبل الغروب من اليوم الذي وصلت فيه، تزاحم العمال امام افران الخبز، ووقفوا في طوابير طويلة من اجل الحصول عليه، وبسبب هذا التزاحم حدثت مشادة بين احد العمال الافغان وبين عامل عربي، وتطورت هذه المشادة من الصراخ الى الشتائم، ثم تحولت الى (بوكسات)، فأنقسم الواقفون الى جبهتين، جبهة الباكستانيين والافغان وجبهة العرب، وانتشر الخبر بسرعة البرق الى السكن العمالي بأكمله، فخرجتْ (العصي) و (الكراك) و (الاسلاك) و (الحجارة) واشتركت بالمعركة (التراكتورات) و (الحفارات) وجميع آلات العمل الاخرى، المئات من العمال اشتبكوا مع بعضهم، وكان العرب اكثر همجية وقسوة وراحوا يطاردون خصومهم حتى الشارع الرئيسي، ولم تتوقف هذه (الحرب)! الاّ بعد ان سقط العديد من الجرحى وحضرت العشرات من سيارات النجدة وسيارات الاسعاف، وفي اليوم التالي بالغت بعض (الصحف) الكويتية لتجعل من الحدث مشكلة امنية، وتتهم الحكومة بأنها تعاني من (ازمة)، فما كان من الحكومة الاّ ان شنّت هجوما  لأعتقال العمال (الغير شرعيين) وترحيلهم الى بلدانهم.

في  الليلة الثالثة، بينما كناّ نائمين في تلك الغرفة الضيقة، التي يختلط فيها الحابل بالنابل اثناء النوم!، سمعنا جلبة في وسط السكن، وبعد دقائق قليلة بدأوا بالطرق العنيف على باب غرفتنا الخشبي، ثم صاح الشرطي: افتحوا الباب!.. فردّ عليه احد العمال، بأنه لم ولن يفتح الباب.. وعندما سأله الشرطي لماذا لايفتح الباب.. تلعثم ولم يجد عذرا، فقال: بأنه مؤمن ويخاف عقوبة رب العالمين لذلك لايفتح الباب!.. فما كان من الشرطة الا ان (يدفروا) الباب ويفتحوه ونزلوا على اجسادنا ضربا بالعصي.

اخذونا الى (الزيل العسكري)، وكنت انا الوحيد بين العراقيين لاامتلك (هوية عمل)، فتملكني هاجس مخيف، بأنّ هذه المرة لو قُدّر ورحلوني الى العراق فلن افلت من الموت ابدا، ولكن، ولأنّ العراقيين هم الاقرب الى الكويتيين في المزاج والكلام والتقاليد، لذلك عندما جاءت الشرطة باعداد كبيرة من العمال المصريين ورأى ضابط الدورية بأنّ (الزيل) لايتسع للجميع، طلب من العراقيين النزول والعودة الى اماكن سكنهم، فتنفست الصعداء، ولكني أدركت منذ تلك اللحظة بأنّ الخطر مازال ماثلا وأنيّ ليس حرا.

بعد اسبوع من اقامتي هنا، حصلت على عمل، وكان عملي (تنظيف حفر المجاري) قبل اتمام العمل بها، وكنت اتقاضى ازاء ذلك ثلاثة دنانير كويتيات في اليوم الواحد.

العمال على العموم كانوا متقشفين الى درجة البخل، ويحرمون انفسهم من اية اكلة لذيذة ومن اية متعة حياتية اخرى، فلكلّ منهم مشروعه الخاص الذي ينتظره عندما يعود الى بلده، اما انا، فكنت ضائعا وبلا مشروع، لذلك قررت ان اعوض مافاتني وماحُرمت منه في الاشهر السابقة، فرحتُ في كلّ (جمعة) انزل مبكرا الى الكويت العاصمة، واذهب مباشرة الى المطعم الايراني لاطلب (تشريب مع راس باجة)، ثم اتسكع في الحدائق والاسواق وعلى شواطئ الخليج، ولن اعود الاّ بعد العشاء ومحملا باكياس الحلويات والبسكويت التي تكفيني لمدة  اسبوع.

 في احد الايام نزلت كعادتي، ودخلت الى ذات المطعم، وفطرت بنفس الوجبة، ثم جلست في مقهى صغير لاشرب الشاي، وعندما شعرت بأني بحاجة الى نزهة، ذهبت الى (السوق الجديدة)، وهذه تتألف من طابقين كبيرين وتزدحم فيها البضائع والمتبضعون والفضوليون ايضا، في القسم الخاص بالمجوهرات والكماليات الاخرى دخلت امرأة اوربية (قيل فيما بعد انها بولندية)، وكان معها زوجها الشرقي، كانت فاتنة، ولها جسد شهي وصدر نافر، ترتدي ثوبا يكشف عن ساقين بلوريتين، وكان في اثرها رجل (زنجي) طويل القامة وقوي البنية وله عينان جاحضتان ومنخران مفتوحتان الى اقصاهما ويحاول الالتصاق بها وسط الزحام، بعد قليل سمعت صرخة مكتومة، وعندما درت برأسي نحو مصدر الصوت، رأيت النساء يركضن باتجاه السلالم هاربات، وهناك تجمعا لرجال يصرخون امام احد المتاجر، كان المشهد  مقززا، صورة بليغة وعنوان آخر لأندحار هذه المجتمعات، الرجل الزنجي يطبق على المرأة كثور هائج، والمرأة استسلمت تحته كجثة ميتة، والرجال يضربونه بقوة وهو لايبالي، وكلما سحبوه كلما جاء الاثنان معا، كان تمساحا حقيقيا ابتلع الفتاة برمتها، فجلب صاحب المتجر سجادة كبيرة ليغطى بها الجريمة!، تلك التي ستقود الرجل الزنجي الى حبل المشنقة حتما، والمراة البولندية ستبقى مدى الحياة تبصق على همجيتنا، وزوجها المسكين يعض اصابعه ندما، لأنه جاء بالحمامة الملونة من البستان الى الصحراء التي ليس فيها للمرأة كينونة، فهي مجرد اثاث وديكور وزينة وحريم!، اما انا، فقد تنازلت عن احلامي جميعها، ورحتُ ابحث عن (الدليل) الذي يرشدني الى عالمٍ خالٍ من الخوف!.