الحركة الوطنية العراقية ../مفيد الجزائري

 يصعب تصور احراز الشعب الكردي في العراق ما احرزه حتى اليوم، في نضاله من اجل حقوقه القومية المشروعة، لولا الموقف الايجابي للقوى النافذة شعبيا في العراق العربي، لا سيما للحركة الوطنية والديمقراطية العراقية.

والمقصود بالحركة الوطنية هنا مجموع حراك وكفاح القوى والاحزاب والشخصيات السياسية، التي بدأت تنشط وتخوض النضال في سبيل الاستقلال الناجز والحكم الوطني الحقيقي، في المرحلة التي اعقبت اعلان الدولة العراقية اوائل عشرينات القرن الماضي، وواصلت سعيها عبر العقود التالية وحتى الوقت الراهن، مع التغير الطبيعي في الغايات والاهداف، التي تتمثل اليوم في استكمال الاستقلال والسيادة، واقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة العدالة الاجتماعية والقانون التعددية الاتحادية الموحدة.

لقد انطلقت الحركة الوطنية في نشاطها وكفاحها من حصيلة وإرث المقاومة، التي واجه بها العراقيون قوات الاحتلال البريطاني وعسف سلطاته، ووقف فيها العرب والكرد الى جانب بعضهم، حيث كان التصدي للمحتلين، خصوصا إبان ثورة العشرين، يدور في النجف وكربلاء والحلة، كما في السليمانية وكفري والعمادية وعقرة، وكانت تنخرط فيه قبائل كيوان في اربيل مثلما تخوضه عشائر الفرات الاوسط  وبني مالك في شمال القرنة وعشائر البو نمر وشمر جربا في الجزيرة.

كانت الوشائج قوية بين جناحي المقاومة والثورة - العربي والكردي، وكان مما يشدهما الى بعضهما ويحفز نضالهما المشترك، توالي المواقف والبيانات ذات الاهمية الدولية والتصريحات التي تتحدث عن حق تقرير المصير، والرغبة في منح شعوب المنطقة هذا الحق، وبضمنها بيان الجنرال مود عند احتلال بغداد، واعلان الرئيس الامريكي ولسن مبادئه الاربعة عشر، واعلان البلاشفة حق تقرير المصير غير المشروط لشعوب ما وراء القفقاس، غير البعيدة عن أراضي العراق.

والى جانب الوعود الموجهة في هذا السياق الى العرب، كانت هناك وعود للكرد ايضا، ومن هذه ما نصت عليه معاهدة "سيفر" المعقودة بين الحلفاء في باريس سنة 1920، والتي اقرت حق الكرد الباقين تحت سيطرة تركيا - بعد انفراط عقد الدولة العثمانية - في تشكيل حكومة تتمتع بالاستقلال الذاتي، وقابلة للتحول الى حكومة مستقلة تماما، كما اقرت - ارتباطا بذلك - حق اكراد كردستان الجنوبية - اكراد العراق، في الانضمام الى حكومة اكراد تركيا المستقلة الموعودة هذه، إن هم رغبوا في ذلك.

اليوم، ولما يبق الا القليل على انقضاء قرن كامل منذ توقيع تلك المعاهدة، لا يبدو ان الكرد في تركيا قريبون جدا من احراز مجرد الحكم الذاتي، ولا نتحدث في حال عن "الحكم المستقل تماما".

في المقابل يتمتع اخوتهم كرد العراق - كردستان الجنوبية، عمليا، بالكثير مما سعوا في كفاحهم القومي التحرري لتحقيقه، وبضمنه الحق في تقرير المصير، هذا الحق الذي يمارسونه اليوم - مثلما يعلن ممثلوهم السياسيون تكرارا - باختيار البقاء طوعا ضمن الدولة العراقية.

كيف يمكن تفسير هذا البون الشاسع بين الحالتين؟ لماذا لم يتوفق كرد تركيا مثلما توفق كرد العراق؟.

في الجواب على مثل هذه التساؤلات لابد من عودة متفحصة الى التاريخ، والى التطور السابق في كلا البلدين، ولابد من تقصي واستجلاء عوامل كثيرة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، محلية وإقليمية ودولية.. الخ، وهذا بالطبع ليس من مهمتنا هنا.

انما نكتفي بإلقاء ضوء على عامل نراه اساسيا بين العوامل المذكورة، وتميزت به الحالة العراقية بالذات، ونعني به  الموقف الايجابي سابق الذكر من جانب الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية، المتفهم والمشجع والداعم لكفاح الشعب الكردي من اجل حقوقه القومية المشروعة، والدور الملموس الذي قامت به بناء على ذلك.

لقد نشأ هذا الكفاح وتطور في اجواء تنامي الحركة الوطنية العراقية المعادية للاستعمار والساعية الى الحرية والاستقلال، وفي تماس معها، بل - والى درجة كبيرة - تحت تأثيرها.

وقد ظهرت هذه الحركة - كما سبق القول - واشتد ساعدها في سنوات العشرين، وفي ظلها وفي السنوات ذاتها نشأت اجنة الحركة الديمقراطية.

متمثلة في اولى الحلقات الماركسية والفعاليات النقابية والجمعيات الثقافية، وفي ما بعد، في عقد الثلاثينات،  راحت الحركتان - الوطنية العامة والديمقراطية، تتبلوران وتزدادان فاعلية وتتطوران مترابطتين.

وشكل نشوء حركة الاهالي وصدور جريدتها مطلع 1932، ثم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي بعد ذلك بسنتين، مظهرا ملموسا لهذا الواقع الجديد.

وليس في نيتنا هنا ان نكرر ما هو معروف عن التطور اللاحق للحركة الوطنية والديمقراطية واحزابها واطرافها، في السنين والعقود التالية، لهذا ننتقل مباشرة الى تتبع الاشكال التي تجلى بها الطابع الايجابي لنشاط الحركة الوطنية وكفاحها، ودورها في دعم  تطلعات الشعب الكردي لنيل مطالبه، وسعيه لاحراز حقوقه المشروعة.

 

على الصعيد السياسي

تجسد موقف الحركة الوطنية العراقية في:

اولا- تأييد المطالب القومية المشروعة للشعب الكردي، والاعتراف بحقوقه القومية، وتبنيها في البرامج والسياسات، وخوض النضال في سبيلها.

وكان من مظاهر ذلك الاعتراف مبكرا بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، واقامة دولته المستقلة، وذلك ما فعله الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه في اواسط الثلاثينات، وبقي يتمسك به حتى اليوم وهو يدخل عامه الثمانين، كما فعله سنة 1950 السياسي الوطني الكبير الراحل عزيز شريف، حين كان على رأس حزب الشعب.

ثانيا - الدفاع عن الكرد من ضحايا الاضطهاد القومي على يد الانظمة والسلطات المتعاقبة، والمطالبة بوقف التنكيل والحملات الحربية ضدهم واعادة حقوقهم.

وقد تجلى هذا مثلا في انتصار الحزب الشيوعي اواسط الاربعينات للبارزانيين، وإطلاقه حملة لادانة الظلم بحقهم والمطالبة بإنصافهم وإطلاق المعتقلين منهم.

كذلك تجسد في حملة الاحتجاج الواسعة على الحرب في كردستان، الحملة التي انخرط فيها الشيوعيون والديمقراطيون اوائل الستينيات، وتعرض المئات ان لم نقل الآلاف منهم بسببها الى صنوف الملاحقة والعنف والسجن.

تضاف الى ذلك النشاطات والحملات العديدة في مجرى العقود المتعاقبة، التي نظمها الحزب الشيوعي في الخارج تضامنا مع الشعب الكردي وقضيته العادلة وكفاحه المشروع.

ثالثا - الحرص الدائم على اقامة وادامة علاقات كفاح مشترك مع القيادات والاحزاب السياسية الكردية واشراكها في العمل الوطني العراقي.

رابعا - مساعدة الحركة القومية الكردية واحزابها ومنظماتها المختلفة على الصعيد الدولي- تقديمها الى المنظمات الديمقراطية العالمية (الطلبة، الشباب، حركة السلام، النساء) والى حركات التحرر العالمية، وتمكينها من المشاركة في الفعاليات السياسية التقدمية العالمية، ومن اقامة وتعزيز العلاقات مع الدول الاشتراكية واحزابها الشيوعية ومنظماتها المختلفة.

 

في ميدان الكفاح المسلح:

شارك مناضلو الحركة الوطنية العراقية منذ النصف الاول للستينات، مشاركة مباشرة، في الحركة المسلحة للشعب الكردي، وخاضوا المعارك بجانب اشقائهم الكرد ضد الانظمة الغاشمة المتعاقبة.

واعتبارا من اواخر السبعينات حتى صيف 1988، انغمر في هذا الكفاح آلاف منهم، في اطار الحركة المسلحة لانصار الحزب الشيوعي العراقي، التي غطى نشاطها عمليا عموم ارجاء اقليم كردستان، لكن الاسهام المباشر في الكفاح المسلح في الاقليم لم يقتصر في هذه المرحلة على المقاتلين الشيوعيين، فقد نشط الى جانبهم اخوة لهم من حركات وتنظيمات اسلامية ومن بعض لقوى القومية العربية ومن اطراف ديمقراطية، وفي مجرى ذلك الكفاح المشترك المديد والمشرف، ضحى المئات منهم بارواحهم، وامتزجت دماؤهم بدماء اشقائهم الكرد.

 

على الصعيد الفكري التنظيمي:

عملت الحركة الوطنية العراقية على تشجيع الكفاح القومي التحرري الكردي وحفز تطوره، وترشيد خطابه، ودعم تكوين قياداته السياسية الخاصة.

وكان من مظاهر ذلك المبادرة الى العمل السياسي الوطني في اوساط الشعب الكردي، ومن خلال ذلك تحفيز النشاط القومي التحرري ايضا، واجتذاب واحتضان عناصره الثورية، وتأهيلها ضمنا.

وبجانب هذا خوض صراع دائب ضد افكار التعصب القومي في صفوف الحركة القومية الكردية الناشئة، واشاعة الوعي بكون مفتاح نيل الحقوق القومية الكردية يكمن في النضال المشترك مع الحركة الوطنية العراقية.

كذلك حث الطلائع السياسية الكردية على انشاء حزب كردي جماهيري تقدمي (بعيد عن التعصب القومي) يتصدر نضال الشعب في سبيل حقوقه المشروعة (نداء فهد الى المناضلين الاكراد في هذا الخصوص المنشور في جريدة القاعدة في نيسان 1945، وارتباطا به تأسس فعلا في سنة 1945 حزب رزكاري، كذلك الحزب الديمقراطي الكردي- حزب بارتي ديمكراتي كورد، (وكان قد سبق ذلك نشوء تنظيمات سياسية كردية صغيرة ذات طبيعة قومية، بينها حزب هيوا – الامل، الذي انتقده فهد واطلق في شأنه عبارته المعروفة: الشعب الكردي بحاجة الى حزب عمل لا أمل!).

هذا اضافة الى السعي المستمر لتذليل الخلافات بين الاطراف السياسية الكردية المختلفة، ولتوحيد كلمتها، وضم جهودها الى جهود الحركة الوطنية العراقية في مواجهة الاعداء المشتركين.

 

على صعيد العنصر البشري وبناء الكادر

ساهمت الاحزاب والشخصيات الوطنية العراقية في إعانة المنظمات والاحزاب والقيادات الكردية، بنحو عفوي حينا وبشكل مبرمج حينا اخر، على تهيئة المناضلين المؤهلين سياسيا وتنظيميا، الذين كانت تحتاجهم في نشاطها ولتطويره، وكان ذلك يتحقق بصور شتى، بدءا بانخراط المناضلين الكرد المنسلخين من الحزب الشيوعي مثلا، في التنظيمات والاحزاب القومية الكردية، مرورا بتيسير انضمام كوادر تلك الاحزاب ومناضليها الى الجامعات والمؤسسات التعليمية الاخرى والدورات المتخصصة المتنوعة في الدول الاشتراكية (اليمن الديمقراطية؟ المقاومة الفلسطينية)، وانتهاء بالمشاركة المباشرة للشخصيات والكوادر السياسية والعسكرية والثقافية العراقية، في الكفاح القومي التحرري الكردي وما يرتبط به من نشاطات.

 والامثلة على ذلك كثيرة، لعل ابرزها - بجانب امثلة الضباط الشيوعيين المقاتلين في صفوف وحدات البيشمركة - مثال الراحل عزيز شريف، الذي خدم في اواسط الستينات حتى كمبعوث للقائد الراحل مصطفى البارزاني الى الاوساط السياسية العربية والاتحاد السوفييتي، وقال عنه د. عزالدين مصطفى رسول: لنا الحق ان نعتبر عزيز شريف كرديا نظرا لما قدمه للشعب الكردي.

 

على صعيد التضامن الداخلي

حققت الحركة الوطنية العراقية خلال عقود من العمل المثابر، الضمني الناجم عن طبيعة الاشياء حينا والمنهجي الهادف حينا ثانيا، انجازا بالغ الاهمية في دعم نضال الشعب الكردي، عبر تربية مناضليها وعامة منتسبيها والجمهورالواسع، بروح التفهم للتطلعات والمطامح الطبيعية للشعب الكردي، والتجاوب والتعاطف مع مطالبه المشروعة، ودعم سعيه للتمتع بحقوقه القومية.

وفي هذا الانجاز يكمن سر العديد من الظاهرات اللافتة في سفر التضامن الشعبي العربي (العراقي) مع الشعب الكردي وكفاحه القومي التحرري، اذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر:

الانخراط الجماهيري الواسع في حملة الاحتجاج (سابقة الذكر) على الحرب ضد الشعب الكردي في اوائل الستينات، والمطالبة بالسلام في كردستان.

مشاعر التعاطف والود الصادق، التي كان ابناء المحافظات العربية يستقبلون بها الاشقاء الكرد، المهجرين قسرا من ديارهم الى تلك المحافظات، على يد سلطات الانظمة الشوفينية القمعية، في اطار سياساتها المعادية للشعب الكردي.

الحماس الذي طبع انخراط الآلاف من الشبيبة الشيوعية في حركة الانصار المسلحة آنفة الذكر في اواخر السبعينات وخلال الثمانينات،صحيح ان ذلك جاء اساسا كرد على النهج والممارسة الارهابيين الدمويين، اللذين اعتمدهما النظام في تعامله مع عموم الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية، الا انه انطوى، بجانب ذلك، على رغبة عميقة دفينة في مشاركة الجماهير الكردية معاناتها المديدة، وتقاسم الاعباء معها في الكفاح ضد الدكتاتورية.

 

ختاما

هذا العرض السريع، بل الخاطف، إنما يتعلق بابرز جوانب الدور الذي نهضت به الحركة الوطنية العراقية وقواها الحية، في الموقف من الشعب الكردي الشقيق، وقضيته العادلة، ونضاله من اجل إحراز حقوقه القومية المشروعة.

الدور الذي يتوجب التذكير به في محفل مهم مثل محفلنا هذا، وتجدر العودة اليه بجوانبه كافة، وبتفاصيله الهامة الكثيرة جدا، وخبرته بالغة الغنى، لتقصيها ودراستها واستخلاص العبر منها،  ولا اجدر من مؤسساتنا الاكاديمية، والكليات والاقسام ذات الصلة في جامعاتنا، في النهوض بهذه المهمة الجليلة.

ـــــــــــــــ

نص الورقة التي قدمها مفيد الجزائري تحت عنوان "جوانب من دور الحركة الوطنية العراقية في دعم نضال الشعب الكردي من اجل حقوقه القومية المشروعة" الى الملتقى الثالث للثقافة العربية الكردية، الذي أقيم في 4 – 7 ايار الجاري بمدينة النجف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة "طريق الشعب" ص 9

الاحد 19 / 5 / 2013