الثقافة العراقية بين الخطاب القومي والطائفي / د. علي الخالدي
بداء تبلور الثقافة العراقية منذ ان تناول اﻹنسان العراقي القديم مراسيم حياته اليومية وربط تطورها بالقوانين الخاصة لحركة الطبيعة ، مستلهما من مواصلة إكتشافه لقوانين جديدة بلورتها البيئة المحيطة به فكون وعياً فكرياً ذا قابلية قادرة على التكيف مع مجيطه وبيئته في كيفية مواصلة تحضره وخلق ثقافة مرنة متجاوبة مع قيم وكرامة الجميع ، والتي تدريجيا صيغت بقوانين وضعت ﻷجل تنظيم خدمة و إحترام حقوقه اﻹنسانية ، سطرتها مسلة حمورابي بمفوﻻت متماهية مع روح عصره ، وما فرضته بيئته من ألتزام لمواجهة مستلزمات الحاجات المادية ﻹتجاهات حركة الطبيعة ومتغيراتها ، ضمن حدود حضارة ذلك الزمان . فأدى ذلك إلى نمو المجتمع البشري وتدجين الحيوان لخدمة هذه التنمية التي أرسيتت على مراسي شواطيء دجلة والفرات . عُرفت بحضارة وادي الرافدين ( ميسوبوتاميا ) كما أشار المؤرخون ، وحصريا حضارة بابل وأور ونينوى ، والتي ﻻ زال ورثتها و المهتمين بالعلوم الواقعية ، يواجهوا كيفية التعامل مع حاملي الثقافة والفكر القومي والنهج الطائفي اللذان سعيا لتشويه معانيها اﻹنسانية والحضارية ، بتطويع حركة تطويرها وتنميتها مجتمعيا وسياسيا في أطر هذين الفكرين البعدين عن معرفة وسائل تطويع حركة الطبيعة لخدمة التنمية والتحضر ، وﻻ حتى إمتلاك دراية بمواكبة مسار التعايش مع ثقافات أجناس شعوب المنطقة ، ومواصلة المحافظة على معالم الثقافة الموروثة من أي تشويه .
لعبت المصالح الذاتية القائمة على قشمرت بسطاء الناس ، بأساليب وخطط مدروسة تعمل على تشويه معالم ما ورث من أساليب وخطط مدروسة هربت التاريخ عنا ، فأضحت ثقافتنا في مهب الريح ، وخاصة عند تنافس بعض من أثقل اﻹملاق حملها ، على كسب ود الحكام لينالوا أجل اﻷلقاب والوظائف الموسومية ، بينما تحول رصاص الحكام ﻷصطياد آخرين ، لم تغريهم عروض السلطان ، مواصلين حمل القلم ليسطروا ملاحم طموحات الجماهير الفقيرة بدولة قانون يُسيرها تراكم ثقافة أجيال على الثقافة الموروثة ، فابقوا ثقافة مختلف مكونات المجتمع حية وملهمة لشعوبهم ، ﻹدراكهم بالتجربة الحية أن المثقف لن يرتوي وهو بعيد عن ناسه وبيئته ، فنجحوا بفكر متنير بالعلم مواصلة البحث عن الحقيقة ، متقهقرين من أجل ذلك الى ماء وراء تاريخ ما حدث في الوطن والعالم ، فتوصلوا الى حقيقة أنه من الخرافة أن تكون القومية والطائفية قادرة بمفاهيمها البليدة أيصال المواطن الى الحقيقة المطلقة ، ﻷن الوسيلة الوحيدة القادرة على ذلك هو التفكير العلمي بإلزامية التعليم لكلا الجنسين ، إذ بدونه يضيع عمر اﻹنسان في خضم ما تولده الثقافة القومية والطائفية .
إن تجارب الشعوب أضحتا هاتان الثقافتان ، أقفال تغلق بها ابواب الخروج الى أجواء التفكير الحر في البحث ، لتضعه تحت خطوطهما الحمراء ، فكلاهما القومية والطائفية قد قضيا على تطور الفن والعلم وحتى التفلسف ، وأضحت مسرات التسلية في ظل حكمهما قائمة بلا تحفظ على المال والبنين وإطاعة أولي اﻷمر وإعتبار ذلك زينة الحياة ، وهي هوامش غير راسخة في الحياة ، بينما بقي العلماء والفنانون أقوياء بالحقيقة ، وقوتهم مستمدة من الذين يفقدوها شرعيتهم يوما بعد يوم من حاملي الثقافة القومية والطائفية ، التي إمتلكتا في حقبتين متتاليتين قوة المال والسلاح الذي وُجه لشل حركة أدوات الثقافة والقلم الحر، ووبذلوا المستحيل في إلباسها جلباب الثقافة التي جاءت بها قريحتهم بعيدا عن الروح الوطنية ، بإرادة العامل الخارجي ، و بأساليب وخطط مدروسة تنهض بعملية غسل أدمغة بسطاء الناس ، وإدخال المفاهيم القومية والطائفية ، فاﻷولى لم تخرج منها سالمة ، فولت بدون رجعة ، وفي الثانية راحت تزرع روح الكراهية والثأر واﻹنتقام الذي تفرضه ذاكرة حروب شعوب المنطقة بعيدا عن السلام القائم على المحبة التي إمتازت بها شعوب المنطقة قبل ظهور مفاهيم القومية والطائفة ، التي إستوردت أدواتهما من خارج أسوار المكان والزمان ، ومع هذا تملكتهم الشجاعة كما لوحظ في كلا الحقبتين إبراز حقيقة التنكر ﻷرض الوطن وخيراته ولنهريها الخالدين دجلة والفرات ، وأصبح ديدن حاملي الثقافة والطائفية اﻹنفراد بحرية البقاء على تلك اﻷرض المعطاءة ، دون تواجد الورثة الحقيقيين من حملة لواء كشف الحقيقة المطلقة ،
لقد مرت الثقافة العراقية بإختناقات مريرة جعلتها تتعثر في تطورها اللأحق في إطار الوطنية العراقية و شوهت في كلا الحقبتين البعثية والطائفية حيث عاب عن كلاهما المشروع الوطني ، ومشاريع العودة الى روح التراث واﻷرث الحضاري الذي غٌيب سياسيا ومنع مواصلة تمتع اﻷجيال بمآثره ، حتى أن جيل الحقبتين غاب من فكرهم ما كان يتمتع به أجدادهم من نشاطات ثقافية
ﻻزالت الثقافة العراقية تخوض صراع التجاهل واﻹهمال وهي تفرض أصولها على أيدي الباحثين عن الحقيقة من مثقفي اليسار العراقي حصريا ، فعلى أيديهم إزدهرت وإنتعشت جذورها وأينعت أغصانها رغم تواصل ملاحقة حاملي القلم الحر في الحقبة القومية و الطائفية ، ففي اﻵولى برزت ثقافة التقاليد العشائرية والقبيلية التي زرعها سياسي فرق تسد . طغت عليها مفاهيم شوهت المعنى الحقيقي للحرية واﻹشتراكية وغيبت منها حقوق اﻹنسان . بينما في الثانية توجت بتواصل نهج المحاصصة الطائفية واﻷثنية التي زرعها مروجي فكرة الثورة الخلاقة ، فغابت عنها العدالة اﻹجتماعية ،
يتبع