مدخل في فلسفة التاريخ ( الهكسوس ) / علي الابراهيمي

عرفهم المصريون باسم ( منيوساتي ) اي رعاة اسيا ، وكذلك باسم ( شاسو ) اي البدو ، ويبدو انّ الاسمين كانا يخضعان للطريقة التي يريدون من خلالها توصيفهم . فيما سمَّاهم اليونانيون ( الهكسوس ) اي الملوك الرعاة ، وبين الاسمين يبدو الفرق واضحا ، حيث تخضع التسميات للاسقاطات النفسية .
انّ الهكسوس - الذين اطلق عليهم العرب اسم العمالقة - كانوا خليطاً من العموريين ( الأموريين ) والكنعانيين ، وكانوا على الأرجح تحالفاً عسكرياً ، تربط بين شعبيه الأواصر العراقية الأصل ، لكنهما كانا ربما يختلفان في العقيدة ، ففي حين كان العموريون موحدين كان الكنعانيون - حسب بعض المصادر - يتخذون آلهة .
وكما هو واضح من آثارهم كان العموريون يعبدون ( ايل ) ، الذي فهمه الباحثون الغربيون - كعادة فهمهم القائم على فكرة مسبقة - على انه اله ( صنمي ) ، فيما هو لم يكن سوى لفظ قديم للاله الواحد ( الله ) . ولا نحتاج في إثبات ذلك الى جهد وعناء كثير ، حيث لازالت الأسماء الواردة في النصوص الإبراهيمية تحمل - الحاقاً - هذه المفردة ، في اسماء مثل ( اسرائيل ) و( ميكائيل ) و( عزرائيل ) و ( إسرافيل ) و ( جبرائيل ) ، الذين هم من خلق الله الصالحين من بشر وملائكة ، والمقدّسين في العقيدة الإبراهيمية التوحيدية . وقد ورد في اسماء ملوك الهكسوس العموريين الملك ( يعقوب ايل ) ، وكما هو واضح فقد جمع بين نتيجتين يفيدان كدلائل لما نريد ، حيث الاسم ( يعقوب ) الذي هو من اسماء العراقيين القدماء في الفترة الإبراهيمية ، وكذلك لفظ ( ايل ) الدالّ على الاله الواحد . وقد ورد أيضاً في كتاب مفاتيح الجنان الذي ينقل الادعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما نصّه في دعاء السمات ( وبمجدك الذي تجلّيتَ به لموسى كليمك عليه السلام في طور سيناء ، ولابراهيم عليه السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف ، ولاسحاق صفيّك عليه السلام في بئر شيع ، وليعقوب نبيّك عليه السلام في بيت ايل ) . وقد ورد أيضاً في حضارة مدينة ( سمأل ) كاله للآراميين أيضاً ، مما يدلّ على انتشار هذه العقيدة الإبراهيمية بين العراقيين بقوة ، وهو ما سيكون الطرف الاخر في صراع الحضارتين ، ومنه نعرف سبب الهستيريا التي اصابت الجيش الفرعوني وجعلته يلاحق الهكسوس حتى حدود العراق ، رغم انّ هذا الجيش لم يسبق له فعل ذلك .
والعموريون هم الذين اسسوا حضارات ( ماري ) و ( عمورو ) في سوريا ، وهم ذاتهم من أسس الامبراطورية البابلية القديمة . وقد وقعت دويلاتهم السابقة في سوريا تحت حكم الملك سرجون الاكدي ، الا انهم أقاموا الحضارة البابلية بعد انهيار السلالة الاكدية ، وهذا ما يجعلنا نرفض توصيف بعض المؤرخين القدماء وبعض الباحثين المعاصرين لحضارة الهكسوس بأنها بدوية ، فهم قد أقاموا عدة حضارات قبل قيام دولتهم في مصر ، كما انهم من ادخل الصناعة التعدينية والفنون والآداب والعربة والفنون الحربية الى مصر ، حيث هال المصريين رؤية تلك العربات الحربية التي لم يشاهدوها سابقا ، وبسبب العربات هذه ذاتها تمكّن المصريون لاحقاً من انشاء اول امبراطورية لهم .
وقد انتقل الهكسوس الى مصر في بداية الامر على شكل موجات مهاجرة بصورة طبيعية ، ثمّ استغلوا الصراع بين مصر السفلى ( الدلتا ) وبين مصر العليا ( الصعيد ) فاحتلوا الدلتا وأقاموا هناك دولتهم . الا انّ الفراعنة ظلوا يحكمون الصعيد وعاصمته طيبة ، ومن هناك بدأوا حربهم ضد الهكسوس ، لأسباب دينية كما يبدو من قساوة الصراع ، وكذلك من خلال ما تركه المصريون وشركائهم اليونانيون من توصيف سيّء للهكسوس .
وقد رأى بعض الباحثين انّ هجرة النبي التوحيدي الكبير ( ابراهيم ) الى مصر كانت خلال حكم الاسرة الفرعونية الثانية عشر ، لتقاربها مع زمن حكم الهكسوس لمصر ، حيث اعتقد الباحثون انها حكمت في حدود ١٨٩٧ الى ١٨٤٠ ، فيما حكم الهكسوس منذ ١٧٨٥ الى ١٥٨٠ . لكننا نرفض ذلك مطلقاً ، حيث هو مخالف للمنطق التاريخي للحدث ، كما انه لا يقوم على أسس اثرية دقيقة . من هنا ارى انّ هجرة ابراهيم كانت في ظلّ اول ملوك الهكسوس ، وهي فترة متقاربة جدا مع التاريخ الذي يراه معظم الباحثين . كما انّ ظهور أبناء يعقوب في مصر ، واعزازهم ، ومن ثمّ استعبادهم بعد انهيار الهكسوس من قبل الاسرة الفرعونية الثامنة عشر يكشف عن منطقية رأينا . ويمكننا ملاحظة انّ مؤرخين اخرين لهم تواريخ غير التي رآها غيرهم ، فمثلا ( ماسبيرو ) في كتابه ( تاريخ المشرق ) يرى انّ احتلال الهكسوس لمصر كان في حدود ٢٣٠٠ ق م ، فيما خروجهم كان بين ١٧٠٠ الى ١٦٥٠ ، ويرى انهم حكموا اكثر من خمسة قرون .
حكم الهكسوس مصر قروناً عديدة ، وخلالها استقبلوا موجات من المهاجرين الساميين العراقيين والسوريين ، ومن أولئك المهاجرين كان بنو اسرائيل احفاد نبي الله ابراهيم ، حيث أكرمهم الهكسوس - لاعتبارات دينية واجتماعية - ومنحوهم بعض الاراضي الخصبة . وقد وصل ( يوسف ) حفيد ابراهيم الى منصب نائب الملك الهكسوسي .
ومن لطيف التعبير القراني لتمييز هذه الفترة من تاريخ مصر عن الفترة الفرعونية السابقة والفترة الفرعونية اللاحقة انه لم يذكر لفظ ( الفرعون ) كلقب للحكام ، بل استخدم لفظ ( الملك ) ، بما يتناسب والطريقة العراقية في الحكم . حيث اراد ان يثبت حقيقة الاختلاف بين الحضارتين ، { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }( يوسف ٤٣ ) ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }( يوسف ٥٠ ) ، {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } ( يوسف ٧٢ ) .
وصل يوسف الى مصر عبر احدى القوافل ليُباع هناك , فاشتراه عزيز مصر , وحدث له مع امرأة العزيز ما حدث , وشهد شاهد من اهلها بان يوسف مفترى عليه , لكنهم رأوا ان يسجنوه , فاظهر صنوف العفة والصبر , وكان سببا لصلاح السجناء الذين خالطوه عندما سجنه العزيز . وكان ان رأى الحاكم رؤيا افزعته , لم يفسرها بصورة مقنعة الّا يوسف , فارسل الحاكم من يأتيه بيوسف , وهو لم يزل في السجن , فاصرّ يوسف على التحقيق لاظهار برائته , وفعلا اثبت الله تعالى لهم براءة يوسف من كل التهم , فاثار ذلك اعجاب الحاكم واختص يوسفَ لنفسه ، { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ( يوسف ٥٤ ) . ان المجتمع الفرعوني السابق على الهكسوس – أي من المصريين – كان يؤمن بزواج المحارم , لذلك هو لم يكن ليتأثر بعفة يوسف , وكذلك كان المجتمع المصري الفرعوني يعتمد كليا على نبوءات السحرة عبر شريعة ( الكابالا ) , فهو لن يقتنع بتأويلات يوسف , وهو ايضا مجتمع هرمي عائلي لا يسمح بدخول عناصر غريبة الى السلطة , ولم يكن يوسف حينها سيستطيع ان يكون عزيز مصر . لكن الله جل وعلا مهّد لبني اسرائيل دخول مصر عبر الغزو ( الهكسوسي ) . فقد آمن احد ملوكهم السابقين بابراهيم , وأهداه الصالحة ) هاجر ) ، لتكون امّاً لابنه النبي ( اسماعيل ) ، ومن ثم آمن احد آخر ملوكهم بيوسف ويعقوب . وقد كان ملوك الهكسوس بين الملكين في صراع طويل مع كهنة الديانة الفرعونية المصرية ( الكابالا ) , ومع معتنقيها من عامة الشعب المصري , وكذلك كانوا في حرب دائمة مع السلالات الفرعونية في الجنوب . وقد تحالف الهكسوس مع ملوك ( النوبة ) , ضد الفراعنة .
وقد اعتقد المؤرخ المصري ( مانيتون ) ان الانبياء ابراهيم ويعقوب ويوسف هم من نفس عنصر الهكسوس , وهو الصحيح لانهم جميعا عراقيون ساميون في الاصل .
ثمّ بعد ذلك انهار الهكسوس امام الفرعون المصري ( احمس ) مؤسس السلالة الثامنة عشر ، والذي طاردهم حتى بلاد الشام ، حيث قضى عليهم في معركة ( مجدّو ) الفاصلة في حدود عام ١٤٧٩ ق م .
وبدأ الفراعنة حينها مرحلة استبداد واستعباد للعنصر السامي ، الذي كان ممثّلاً ببني اسرائيل في الغالب ، حيث هم ذرية الأنبياء ، والتي تكون مناسبة جداً للمرحلة الاولى في إبادة الأديان التوحيدية الإبراهيمية المخالفة للديانة المشفّرة الباطنية الفرعونية . فصاروا يذبّحون ابنائهم ويستحيون نسائهم ، واستخدموهم في الاعمال الشاقّة ، واتخذوا منهم لاعمال السخرة ونظام العبودية ، في مرحلة ثانية لكسر النفس التوحيدية السامية ، ومن ثمّ إبهارها بالمادية الفرعونية .
لذلك استخدم القران الكريم في هذه المرحلة - التي ترافق قصة موسى النبي - لفظ ( الفرعون ) للتعبير عن حكّام مصر ، (ُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣] ، ) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) ( يونس (١٠)| الآية: ٧٥( ، [ (فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٣] .
ورغم انّ الاسرة الطيبية الفرعونية التي قاتلت الهكسوس هي السابعة عشر الا انّ الاسرة التي تولت الحكم تماما بعد خروج الهكسوس هي الثامنة عشر التي أسسها ) تحوتمس ) . و المثير ان يختفي البناء الهرمي في هذه المرحلة ، وهو عصر الاسرة الثامنة عشر ، كما انّ احد ملوك هذه الاسرة ترك عبادة الفراعنة وتوَّجه لدين توحيدي هجين ، والالتزام باله واحد ، هو اله الشمس ( اتون ) ، وأطلق على نفسه لقب ( اخناتون ) . وهذا يكشف عن مدى الأثر العقائدي والفكري الذي تركه الساميون الهكسوس ومن رافقهم من الأنبياء والمفكرين ، رغم خروجهم مهزومين عسكريا .
لكن عاد كهنة الديانة المصرية القديمة للثورة على ديانة اخناتون ، وحرّكوا الجمهور والقادة ، لتعود الديانة الامونية المصرية القديمة رغما على خلفاء اخناتون . الا انّ مصر لم تستقر فكريا او عقائديا بعد ذلك ، رغم قيام اول امبراطورية في تاريخ مصر .
الا انّ المصريين من الفراعنة في الاسرة الثامنة عشر الذين أبادوا كل الذي وجدوا من اثر للهكسوس أبقوا على المعابد الوثنية لبعض الساميين في منف وفي حيّ ( الحيثيين ) ، بل انهم اعتبروا الآلهة الوثنية الكنعانية ( عشتارت ) ابنة للاله ( بتاح ) ، فيما قرروا انّ ) عنات ) من بنات الاله الكبير لديهم ( رع ) . وذلك يكشف بوضوح عن حقيقة الصراع الذي دار بين الفراعنة وبين الهكسوس ، حيث هو صراع ديني ، بين عقيدة التوحيد والعقيدة الوثنية الشيطانية ، الى جانب كونه صراعاً حضاريا ، خصوصاً انّ المصريين أبقوا على كل المعابد الوثنية في سوريا بعد احتلالها حين طاردوا الهكسوس ، بل انهم قد احترموا تلك الآلهة وقدّسوها كجزء من منظومة الآلهة المصرية ! . ومن الغريب ان نرى ملكا منتصراً منتقماً هو ( رمسيس الثاني ) يسمّي ابنته باسم آلهة العدو ! ، حيث اطلق عليه ( ابنة عنات ) .
ويبدو واضحاً من الشغف الذي عاشه الامير ( خع ام واست ) ابن الفرعون الشهير ( رعمسيس الثاني ) اهم ملوك الاسرة الثامنة عشر التي طاردت الهكسوس وارادت ابادتهم انّ البعد الديني لدى هذه الاسرة الفرعونية المنتصرة كان مركزياً وحاكماً على ما سواه . فهذا الامير الذي اشتهر بعلمه الغزير بالديانة المصرية القديمة قد أعاد ترميم اغلب اثار الاجداد من الفراعنة القدماء . فيما كان الأخ الذي خلف ( خع ام واست ) في ولاية العهد وهو الأمير ) ومرنبتاح ) قد وصل الى مرتبة ( الكاهن الأعظم ) للاله ( بتاح ) ، وكان يقوم على طقوس الاله العجل ( أبيس ) .

 

 

 

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.