العلمانية ليست إلحادًا.. لكن الإلحاد ليس تهمة / رباب كمال
لطالما ارتبطت العلمانية في مصر بأنها مرادفًا للإلحاد، وكرد فعل.. حاول البعض الترويج لمفهوم العلمانية بمرجعية إسلامية، وهو ما ورد في كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة عام 2002 للباحث الاجتماعي الإسلامي د. عبد الوهاب المسيري (1938-2008).
يبدو أن فلسفة الكتاب كانت شديدة التضارب، تبنى فيه المسيري ما أسماه ” العلمانية الجزئية ” وهي علمانية غير شاملة فلا تخالف مبادئ الشريعة الإسلامية، فأقر المسيري أن المرجعية الإسلامية هي المجال أو الطريق الوحيد لحل مشاكل هذا المجتمع، لأنّ أي مجتمع لابد أنْ يكون له مرجعية نهائية واحدة، كما دافع عن شعارات الإسلام هو الحل ،و أقر أنّ فصل الدين عن الدولة يتجاهل البُعد الإنساني والروحي.
الدكتور المسيري حر في التعبير عن رأيه لكن رأيه لا علاقة له بالعلمانية أو التعددية أو قبول الآخر ولا بالسلام الاجتماعي بالرغم أنه عالم اجتماع .
فالعلمانية تقوم على التعدد لا على المرجعية الأحادية وكان الأجدر في رأيي أن يتبنى د. المسيري توجه إقامة دولة إسلامية بشكل مباشر بدلا من هذا الالتفاف في دائرة مفرغة، كما أن هناك مغالطة في نظريته حين افترض أن كل دولة فصلت الدين عن السياسة في تشريعاتها هي بلد خال من البعد الإنساني والروحاني، فالبلاد العلمانية لا تحارب الروحانيات والإنسانيات بدليل أنها لا تمنع أصحاب الديانات المختلفة سواء إبراهيمية أو غير إبراهيمية من إقامة دور العبادة وممارسة الشعائر .
من هو إذًا المجتمع الفاقد للبعد الإنساني والروحاني؟ هل هو المجتمع الذي يقر بأحقية الاعتقاد وممارسة الشعائر أم المجتمع والبلد الذي يرفض الاعتراف إلا بأديان بعينها ؟
كما أن هناك مغالطة أخرى وهي أن د. المسيري ربط البعد الإنساني بالمجتمعات الإسلامية وهي نظرية عارية عن الصحة لأن الإنسانيات لا علاقة لها بأديان بعينها، هي صفة إنسانية قد تجدها لدى المؤمن ( أيًا كان إيمانه) ولدى الملحد كذلك.
كيف يعتبر د. المسيري البلاد العلمانية ذات الأغلبية غير المسلمة والتي تسمح ببناء المساجد بأنها فاقدة للروحانيات والإنسانيات؟ هذه البلاد لا تمنح أبناء الديانات الإبراهيمية أو غيرها حق بناء دور عبادة على أساس أنها تعترف بنصوص وعقيدة تلك الأديان وإنما انطلاقًا من حق المواطن في حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر.
فالمساجد في البلاد العلمانية لم يتم تشييدها إيمانا بنبي الإسلام ولكن إيمانا بحق المسلم في الصلاة والتعبد وهكذا الحال بالنسبة للهندوسية والبوذية وغيرها ؟ لا يوجد بلد علماني واحد تحفظ على المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على أنه “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة” وهي المادة التي بمقتضاها يحق للمسلمين إقامة شعائرهم خارج بلادهم بمقتضاها وهي نفس المادة التي ُيضرب بها عرض الحائط في البلاد ذات الأغلبية المسلمة ومنها مصر .
وسترد علينا غالبية الآراء بأن الدستور المصري في مادته الـ 64 أقر أن حرية العقيدة مطلقة، لكن في نفس المادة أقر الدستور بأن ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة حق لأصحاب الأديان السماوية فقط، وبالتالي فحرية العقيدة منقوصة إن نفينا عنها حرية ممارسة الشعائر ولدينا في مصر حجر على تجمعات الصلاة للشيعة والبهائيين مثلا، فمن تغيب عنه الإنسانيات والروحانيات؟ أليست البلاد التي تحجر على حرية ممارسة الشعائر ؟
قضية العلمانية هي قضية تنوير وبالتالي هي لا تحتمل التزوير والتلاعب بالمعاني والمفاهيم وإنما تقتضي تبسيط المفهوم وربطه بحياة المواطن اليومية ليعي أن قضية العلمانية ليست منفصله عن واقعه المعاصر.
المجتمع العلماني ليس له لا مرجعية إسلامية ولا مسيحية ولا هندوسية ولا الحادية، المجتمع العلماني هو ذلك المجتمع الذي يعيش تحت مظلته وقوانينه المؤمن والملحد على حد سواء دون تمييز ولا تقوم تلك المجتمعات بملاحقة الملحدين كما تفعل مصر .
كما أن البلاد العلمانية هي تلك البلاد التي تكفل قانونًا… حرية الخروج من دين إلى آخر أو حق الخروج من منطقة الأديان تماما دون أن يصبح المواطن الذي اعتنق دين- غير دين الأغلبية – نزيلا على الأجهزة الأمنية ولا يكون رهنًا للتحقيقات وبدون أن يفقد أيًا من مزاياه الاجتماعية أو العملية أو المهنية. ففلسفة العلمانية هي الفصل بين الدين والتشريعات لا لإنكار الأديان وحرية التعبد ولكن من منطلق الوقوف على مسافة متساوية من الجميع، وهكذا فإن العلمانية تقر بأن حقوقك كمواطن لا علاقة لها بمعتقدك الديني الشخصي ولا يمكن قبول التمييز ضدك على أساس ديني.
لا يوجد مرجعية علمانية ُيحتذى بها وان لم ُتنفذ نضرب فوق الأعناق ونضرب كل بنان، فالبلاد العلمانية مختلفة في طرح المفهوم السياسي للعلمانية، فالعلمانية في انجلترا ليست كمثلها في أمريكا وليست كمثلها في ألمانيا وليست كمثلها في الهند والمثل الأخير ( أي الهند ) أخرجت ثلاث رؤساء جمهورية من المسلمين، أي من الأقلية الدينية في بلاد تعتنق أغلبيتها الهندوسية، فهل نرى في مصر يومًا ما رئيسًا أو رئيس وزراء أو وزير دفاع مسيحي أو بهائي مثلا فلا يهمنا عقيدته أو عقيدتها..
بالتأكيد أن البلاد العلمانية ليست خالية من التعصب والتطرف لكن رد فعل القانون والدستور والمجتمع غالبًا ما يكون منحازًا للتعددية، مع العلم أن قبول الآخر وقبول التعددية شارع له اتجاهين أي يقوم على قبول من يقبل التعددية وليس قبول من يرفض التعددية.
فلا يمكن أن يمنح بلد علماني لجوءًا سياسيًا لأسرة مسلمة يحض عائلها على عدم مصافحة الكفرة ( أي غير المسلمين)، إن التغاضي عن مثل هذه اللفتات العنصرية ليست قبولًا للآخر وإنما تعد قبولًا لممارسة العنصرية ولذا فإن التصدي للعنصرية ليس عنصرية ولا هو محاربة لحرية اعتقاد أو ممارسة شعائر.
مما سبق يتبين لنا أن العلمانية ليست كفرًا وليست إلحادًا، ولكن الإلحاد في الحقيقة ليس تهمة، فالإلحاد مثله كمثل أي معتقد، يحق لمن يشاء أن يتبناه، والقناعات الفكرية والدينية أو اللادينية حق أساسي من حقوق الإنسان، فالإلحاد ليس تهمة ولا الإسلام السني تهمة ولا المذهب الشيعي تهمة ولا المسيحية تهمة ولا البوذية تهمة ولا الهندوسية تهمة ولا البهائية تهمة، فلا يمكن اعتبار المعتقدات بمثابة اتهامات إلا إذا تم التحريض بمقتضاها على ارتكاب أعمال إرهابية تسلب الناس أرواحهم أو تروعهم.