عزيز محمد / عدنان حسين
لو قُيّضَ، بقدرة قادر، للزعيم الشيوعي العراقي الراحل عزيز محمد أن يعود إلى الحياة وينهض من التابوت، وإن لخمس دقائق، أثناء تشييع جثمانه إلى المقبرة في أربيل الخميس الماضي .. ماذا كان سيفعل؟
أزعم أنني أعرف ما كان سيفعله .. كان سيُوقف موكب التشييع الرسمي المهيب طالباً الكفّ عنه، وكان سينضمّ إلى رفاقه ومحبيه ممّنْ اصطفّوا على جانب الطريق لوداعه.
عزيز محمد يستحق المهابة التي شُيّع بها جثمانه إلى المقبرة، لكنه لم يكن يحب أي شكل من اشكال التبجيل والتقديس .. كان يتصرّف بتواضع ويُحب أن يتعامل معه الآخرون بوصفه إنساناً عادياً، صديقاً قريباً منهم، أو فرداً من عائلتهم... التواضع كان من أبرز خصال الرجل الذي أمضى، أو بالأحرى أرغم على أن يُمضي، ثلاثة عقود على رأس قيادة الحزب الشيوعي، في واحدة من أكثر حقب العراق التاريخية صراعاً – سياسياً - واضطراباً ودموية وإشْكالاً.
ذات أمسية في لندن سعينا، الصديق فالح عبد الجبار وأنا، لإقناع عزيز محمد، وكان قد تخلّى منذ سنوات عن موقعه سكرتيراً عاما للحزب، بأن يكتب مذكراته. كان رافضاً الفكرة على نحو قاطع.. قلنا له أنه إذا كان يستثقل التفرّغ للكتابة، فيُمكننا نحن الأثنين أن نعينه بأن نلتقيه في جلسات مطوّلة أينما يكون ونسأله عن حياته وتجربته وذكرياته، ونسجّلها إلكترونياً ثم نفرّغها ونُعيد تحريرها بإشرافه... بيد أنه تمسّك على نحو عجيب بموقف الرفض.
كان يكرر القول بأنه ليس بالأهمية التي نراها.. هو في نظره "شخص عادي" يشبه سائر الاعضاء العاديين في الحزب الشيوعي، وكان يقول إنه لم يكن مقتنعاً تماماً بأنه الأنسب لأن يكون سكرتيراً أول للجنة المركزية ثم سكرتيراً عاماً للحزب.. يقول: في اللجنة المركزية وفي هيئات الحزب الأخرى كان هناك دائماً رفاق أحسن مني وبمستوى ثقافي أفضل من مستواي. في هذا إشارة إلى مستواه التعليمي المتواضع، فقد وُلد وعاش في عائلة فلاحية معدمة، وأعتقل في وقت مبكر من حياته في العهد الملكي، وفي السجن فقط تمكّن من تحسين مستواه التعليمي والإقبال على القراءة. مع ذلك فإن عزيز محمد كان دائماً يتحدث بلغة عربية فصيحة لا تقلّ في مستواها عن مستوى غالبية خريجي الجامعة. فضلاً عن ذلك تميّز بأفكارة المنظّمة وباللغة الودودة التي يتحدث بها،والمُبهّرة دائماً بالمأثور من الكلام وبالطرائف.
كان رأينا، فالح وأنا، أن عزيز محمد شاهد رئيس على كل الأحداث العاصفة في تاريخ العراق منذ منتصف الستينيات حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي .. كان في قلب الصراعات والمواقف والسياسات المختلفة لحزب كان من صنّاع تاريخ العراق المعاصر .. إلتقى وأجرى مباحثات رسمية وشخصية ليس فقط مع أقطاب نظام حزب البعث (في السبعينيات) وقيادات الأحزاب الوطنية العراقية، وإنما أيضاً مع الكثير الشخصيات السياسية في منطقة الشرق الاوسط، بمن فيهم رؤساء ورؤساء حكومات وزعماء أحزاب، فضلاً عن زعامات الحركة الشيوعية العالمية بمن فيهم زعماء الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الاخرى.
حاولنا إقناعه بأن لشهادته قيمة تاريخية كبيرة تُوجب عليه الإدلاء بها لتبقى للمؤرخين، لكنه ظل في تلك الجلسة اللندنية وفي سواها من لقاءات لاحقة يرفض، وقد فعل الزميل توفيق التميمي خيراً في استنطاقه ليحفظ لنا شهادته على التاريخ وإن كانت منقوصة.
عزيز محمد الإنسان العادي في نظر نفسه والزعيم السياسي في الواقع، كانت له ولا شك أخطاؤه .. هو لم يبريء نفسه منها، بل هو أعلن تحمله كامل المسؤولية عن كل ما فعلته قيادة الحزب في عهده، بيد إن من الانصاف القول إن عزيز محمد لم يكن مستبدّاً لتُلقى على كتفيه كامل تبعات سياسة الحزب.. الآخرون، وهم بالعشرات، لكل واحد منهم حصّة من المسؤولية.. ربما أكبر من حصته.