من أين وكيف يبدأ الانطلاق الاقتصادي بالعراق؟ / كاظم حبيب  

نقاش موضوعي وهادف مع السيد عادل عبد المهدي

الحلقة الأولى: تشخيص الظواهر والعواقب والابتعاد عن الأسباب الحقيقية

نشر الاقتصادي العراقي السيد عادل عبد المهدي مقالاً تحت عنوان "الانطلاق الاقتصادي" وتضمن خمس حلقات بعناوين فرعية مختلفة في جريدة العالم البغدادية خلال الفترة 27/08/-03/09/2017. وهو في جوهره مقالاً نقدياً لواقع الحال بالعراق ومقترحات اقتصادية لتجاوز هذا الواقع المزري. وأشر المقال بصيغ مختلفة عدداً من المشكلات الجوهرية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي والتي يمكن تلخيصها، وأرجو أن يكون تلخيصي دقيقاً وأميناً على مضمون المقال وما أراد الكاتب قوله:

  1. إن الاقتصاد العراقي ريعي، استيرادي واستهلاكي، يعتمد على موارد النفط المالية في تأمين حاجات المجتمع الاستهلاكية عبر الاستيراد.
  2. والاقتصاد العراقي بهذا المعنى اقتصاداً وحيد الجانب ويعاني من خلل في بنيته، ولاسيما في تخلف قطاعيه الإنتاجيين الصناعي والزراعي حيث لا يساهمان إلا بنسبتين ضئيلتين في الناتج المحلي الإجمالي. ويرى بأن ".. فالأموال الريعية السهلة، وتدمير العلاقات الزراعية، وتأميم الصناعة والمصارف والسيطرة على التجارة الاساسية، وهروب الرساميل والخبرات، والهجرة الواسعة من الريف، والحروب والحصار والعقوبات والارهاب والسياسات الفاشلة، دمر هذه القطاعات وجعل البلاد تعتمد على الاستيراد والواردات النفطية. ويرى ضرورة تغيير هذه البنية المشوهة.
  3. لا توجد استراتيجية تنموية حقيقية ولا توجد خطط للتنمية الوطنية الاقتصادية والبشرية، إذ ".. ركزت معظم خططنا على الاستقطاعات والجبايات من اقتصاديات هي ضعيفة اساساً، واللجوء للقروض الداخلية والخارجية". ويرى " إن مزيجاً ناجحاً من استراتيجيات “بدائل الاستيراد ومحفزات التصدير” Import Subsitution and Export Promotion يمكنها مع الاستراتيجيات الاخرى، ان تحقق نتائج مهمة لانطلاق القطاعات الحقيقية".
  4. ويقول عادل عبد المهدي بوضوح: أن "الاقتصاد هو الاقتصاد الكلي Macro-economy والجزئي Micro-economy، وان قليلين، من اصحاب القرار التنفيذيين والتشريعيين، او حتى بين الجمهور من يقدر اهمية هذه القضايا، ليس لصعوبتها، بل لاعتيادهم على مفاهيم “الاقتصاد السلطاني” ومعادله المعاصر “الاقتصاد الريعي”. وبتعبير آخر لا توجد عقلية اقتصادية تعي مفهوم التنمية، ويتطلب الأم "تغيير عقليات وسياسات، وأولها إزالة التشدد والبيروقراطية كأسباب أساسية للجمود والفساد وهدر الأموال وغسيلها وهروبها".
  5. ويرى ضرورة أن يلعب القطاع الأهلي (الخاص) الدور الأول في الاقتصاد، "مع اهمية الحفاظ على قوة وفعالية ورشد القطاع العام لإحداث التوازن المطلوب انطلاقاً من ظروفنا الواقعية والبنيانية ولاعتبارات اجتماعية وسياسية. ويرى ضرورة قلب المعادلة بعد أن كان القطاع الخاص تابعاً للقطاع العام، إذ لا بد من تفكيك احتكار الدولة للصناعة والزراعة والتجارة والمصارف والاتصالات والمواصلات والطباعة والاعمال البلدية والمياه والكهرباء والتعليم والصحة والكثير من النشاطات. وان تبدأ القطاعات الاهلية بأخذ المبادرة في جميع هذه النشاطات بدعم وتشجيع الدولة، ونقل الكثير من قدراتها في هذا المجال لمؤسسات المجتمع الفردية والجماعية".
  6. ثم يقترح لضمان الاحتفاظ بأموال الشعب المسروقة ومن السحت الحرام بالعراق من خلال عدة مقترحات أولها: "1 - نقترح –خلال مدة محددة- اعفاء الاموال التي تودع، من كشف مصدرها او اخضاعها للتحاسب الضريبي، وذلك خلافاً للتعليمات الدولية والعراقية المتشددة، والتي تساهم، بوعي او جهل، بهروب الاموال وبقائها خارج الدورة المصرفية. فالدولة تضغط اليوم على موجودات المصارف لتوفر لنفسها الاموال، في وقت تعاني المصارف من ضعف الاقتصاد، وعدم سداد معظم المقاولين لديونهم، لعجز الحكومة عن تسديد مستحقاتهم".

في المقال بحلقاته الخمس العديد من التشخيصات السليمة لطبيعة الاقتصاد العراقي وسماته الأساسية والاختلالات فيه، ولكن فيه زوغان أيضاً عن العوامل الحقيقية وراء هذا الواقع. إذ أن المقال لا يغوص في عمق المسألة السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية العراقية، ويقف عند السطح. ولا أدعي أنه لا يعرفها، ولكنه، على اقل تقدير، يبتعد عنها، لأنها تمس الفئة الحاكمة بالعراق كلها، وهو جزءً عضوي منها، فقد تبوأ وما يزال مناصب سيادية في الدولة والنظام السياسي والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية الحاكمة ومن كبار الأثرياء بالبلاد. هناك العديد من المقترحات التي يمكن الأخذ بها لو كان ضد وضع السيد الكاتب يده على الجرح المركزي في الوضع العراقي، إذ بهذا الوضع لا تنفع معه تلك المقترحات ولا حتى أفضل الاستشاريين الاقتصاديين بالعراق، إذ إن التغيير الجذري هو الحل الأمثل للواقع العراقي الراهن. وعليه لا بد لمن ينبري لهذا الموضوع أن يسعى لوضع الأمور التي زاغ عنها الكاتب في نصابها الصحيح.

 

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"

الحلقة الثانية: ما هي طبيعة العلاقات الإنتاجية الفاعلة بالعراق؟

هناك الكثير من الأسئلة التي تواجه كل كاتب اقتصادي عراقي جاد وموضوعي والتي تفرض عليه ضرورة السعي للإجابة عنها، ومنها: ما هي طبيعة علاقات الإنتاج الفاعلة بالعراق في الوقت الحاضر؟ وما هو مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية؟ ما هي طبيعة الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها؟ وما هي طبيعة السلطة التنفيذية والتشريعية على نحو خاص؟ وما هي طبيعة القوى والأحزاب السياسية الحاكمة بالبلاد؟ وما هي سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الداخلية منها والخارجية؟ وما هي عواقبها تلك السياسات على الاقتصاد والمجتمع؟  وهل للدولة العراقية استراتيجية تنموية ورؤية اقتصادية – اجتماعية عقلانية؟ وهل يمكن إصلاح ما خُرّبَ حتى الآن بنفس القوى الحاكمة ونهجها وأدواتها وأساليبها في الحكم؟ وما هو البديل الذي يفترض العمل من أجله لتغيير ما جرى ويجري حتى الآن لصالح المجتمع العراقي ومستقبل أجياله وتقدم اقتصاده وازدهار شعبه؟

نحن لسنا أمام طلسم يحتاج إلى من يفك أسراره، فأسرار العراق مكشوفة أمام العالم كله. وما يجري بالعراق منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية الغاشمة يؤكد طبيعة الأوضاع المزرية فيه. ومع ذلك علينا الإجابة عن الأسئلة التي أوردناها وغيرها في عدة حلقات.

يتحدث السيد عادل عبد المهدي عن "الاقتصاد السلطاني" السائدة في صفوف المسؤولين وأصحاب القرار، أي حكام العراق. ولكن لماذا لا يضع النقاط على الحروف ويقول: أن عقلية الحكام السائدة بالعراق حالياً نابعة من طبيعة العلاقات الإنتاجية الفاعلة حتى الآن في العراق، والتي استردت عافيتها بوجود الفئة الحاكمة الحالية بعد أن أجهزت وأكملت التصفية الفعلية لقانوني الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 والقانون رقم 117 لسنة 1970 وعودة كبار ملاكي الأراض الزراعية إلى الهيمنة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، إضافة إلى عودة العلاقات العشائرية إلى سابق عهدها في الهيمنة على سكان الريف وسكان المدن العشوائية حيث يعيش فيها أبناء الريف السابقين، وكذلك البدء بمناقشة مجلس النواب وإقرار " قانون مجلس قبائل وعشائر العراق" والمصادقة عليه واعتماد الدولة ونظام الحكم والعشائر على هذا القانون في التعامل اليومي، وهي رده اقتصادية اجتماعية وسياسية مريعة عما تحقق في أعقاب ثورة تموز 1958 حين ألغي قانون العشائر واعتمدت القوانين المدنية في التعامل اليومي في المجتمع. إن هذه العلاقات الإنتاجية المتخلفة والعلاقات العشائرية لا تعيق التطور الرأسمالي بالبلاد فحسب، بل وتعرقل تطور الثقافة الديمقراطية والتلاقح الثقافي، وتعيق نمو الوعي السياسي والاجتماعي الديمقراطي والتنويري لدى الغالبية العظمى من السكان، ولاسيما بين النساء، كما إنها تصبح القيم على سلوك الناس وإرادتهم وخنق حريتهم الشخصية والتصرف الفظ بمصالحهم، لاسيما وان التحالف السابق بين كبار الملاكين والمؤسسات الدينية الذي عاشه العراق قبل ثورة تموز 1958 قد عاد إلى الفعل في المجتمع العراقي، وهو بدوره يمارس ما جرى تأكيد دوره السلبي الكبير في دفع الناس إلى الغيبيات والغوص في الخرافات والأساطير وأعمال السحر والشعوذة، وفي استفحال الثقافة البالية وتشويه استشهاد الحسين بين علي بن أبي طالب وصحبه الكرام بممارسة طقوس غريبة عن الدين والثقافة بدلاً من ممارسة أساليب حضارية في إبراز دورهم في الدفاع عن المضطهدين ضد الجائرين والفاسدين من الحكام. إن العلاقات الإنتاجية السائدة حالياً تلعب دوراً معرقلاً لتطور القوى المنتجة المادية والبشرية، لأن هذه العلاقات تمنع فكرياً واجتماعياً وسياسياً من تحويل الأموال المكدسة إلى استثمارات رأسمالية في قطاعي التنمية الإنتاجية، في الصناعة والزراعة، وكذلك في قطاعات الخدمات الإنتاجية والأساسية للسكان كالتعليم والصحة والنقل والاتصالات والمواصلات ..الخ، وكذلك صوب تطوير الفنون الإبداعية الجميلة، إنها المعرقل لكل ذلك لأنها لا تسمح بطبيعتها استخدام أموال الدولة وأموال القطاع الخاص لتحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب وتركيزها على الاستهلاك البذخي الذاتي أو توظيفها في شراء العقارات وبناء القصور في والمضاربات وما إلى ذلك في دول أخرى. وهي بهذا لا تفرط بالأموال، وأغلبها منهوب من خزينة الدول وجزء أساسي من السحت الحرام، بل وتمنع تطور الاقتصاد الوطني وتعظيم الثروة الوطنية وتوفير فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل وللأيدي الجديدة التي تدخل سنوياً في سوق العمل المحلي. إنها سياسة مورست خلال السنوات الـ 14 المنصرمة دون احترام لمصالح الإنسان والمجتمع العراقي واقتصاده الوطني. وإذا كان النظام شبه الإقطاعي في العهد الملكي قد استغل الفلاحين ونهب الكثير من قوتهم، إلا إنه خلا من الفساد المالي في سرقة أموال الشعب من خزينة الدولة، كما جرى ويجري مع عودة بقايا تلك العلاقات بصيغة جديدة للفعل في اقتصاد العراق ومجتمعه. والسرقة والتفريط هنا لا يشمل مئات الملايين بل مئات المليارات من الدولارات الأمريكية، وهي سرقة من قوت الشعب. وكان الدكتور أحمد الچلبي قد بدأ بكشف هذه السرقات والتفريط بالمال العام، إلا إنه وبطريقة ما فيها الكثير من الغموض والشك توفى الرجل على حين غرة وبعد أيام قليلة من تصريحاته المعروفة التي استفزت رئيس الوزراء السابق ورهطه، وعلى وفق معلومات الكثير من العارفين بخفايا الفئات الحاكمة بالعراق. 

إن نظرة فاحصة على مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية، بعد مرور 14 سنة على الحكم السياسي الطائفي الراهن، تكشف عن تخلف شديد في التقنيات المستخدمة في مختلف مجالات الاقتصاد والخدمات الاجتماعية، وعن تخلف في القطاعين الصناعي والزراعي وعن بقاء المؤسسات الصناعية الحكومية مجمدة إلى حين بيعها بأبخس الأسعار للقطاع الخاص، أو حتى لقاء دينار عراقي واحد. ويكفي ان يتمعن الإنسان في القوى العاملة العراقية، التي لا تجد مجالاً للتعليم المهني والفني والتأهيل المستمر، إضافة إلى تخلف شديد في مستوى التعليم المهني المتوفر وكذلك في عموم قطاعي التربية والتعليم في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، بحيث أصبح العراق يحتل موقعاً متخلفاً جداً في مجال المقارنة مع مستوى التعليم في دول نامية أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، دع عنك عن مستواه في الدول المتقدمة.        

من هنا نشير، وبخلاف البحث في الظواهر السلبية القائمة، علينا التفتيش عن العوامل التي تتسبب في بروز تلك الظواهر السلبية، إذ أن العراق يعاني من تشابك بين علاقات إنتاجية متخلفة وعلاقات رأسمالية طفيلية تجنح إلى التوظيف في العقارات والمضاربة وتجارة الاستيراد السلعي الاستهلاكي والبذخي والتحري عن مجالات الربح السريع والتي لا تسمح بتوجيه الأموال المكدسة صوب توظيفات إنتاجية لتنمية الاقتصاد الصناعي والزراعي واستخدام تقنيات حديثة، كما تقف حجر عثرة في طريق تطوير وتقدم القوى العاملة والتعليم بمختلف مراحله والبحث العلمي وتوفير فرص عمل للعاطلين.

 

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"

الحلقة الثالثة: طبيعة ونظام الحكم بالعراق

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"

الحلقة الثالثة: طبيعة ونظام الحكم بالعراق

من يعمل في الحياة الاقتصادية والسياسية عملياً، دع عنك المختص بعلم الاقتصاد، يدرك طبيعة العلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد، فالسياسات الاقتصادية التي تمارس ببلد ما تعكس بدقة طبيعة الحكم والفئات الحاكمة. ويتجلى ذك بوضوح في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية الخمس التالية، أي بضمنها نظام الحكم الحالي. ولهذا يشار إلى الحقيقة التالية: إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة!

فالقراءة المتأنية لواقع الاقتصاد والمجتمع بالعراق، ولنهج الدولة الاتحادية وطبيعة السلطات الثلاث فيها، وسياسات الحكومة الاتحادية منذ العام 2005 حتى الآن، وما آل إليه الوضع بعد اجتياح عصابات داعش لمحافظة نينوى وغيرها، تكشف بأن النخبة الحاكمة الحالية تنحدر من فئات اجتماعية هامشية وغير هامشية، ولكنها انسلخت عنها لتشكل مجتمعة فئة جديدة أَطلقُ عليها مصطلح "الفئة الرثة"، وهي في الواقع فئة طفيلية، وهي ليست ذات الفئة التي يُطلقَ عليها في الأدب الكلاسيكي الماركسي مصطلح "البروليتاريا الرثة" أو الفئة الهامشية أو المهمشة عملياً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافاً، إنها الفئات الفقيرة والمعدمة في المجتمع. إن "الفئة الرثة" تهيمن على السلطات الثلاث بالدولة العراقية، وتتحكم بها من خلال السلطة التنفيذية.  

وهذه الفئات الرثة الهجينة تسعى إلى الاغتناء على طريقة القطط السمان، وأغلبها أصحاب نعمة حديثة، إذ إنها تستنزف موارد الدولة من الباطن، وبأساليب مافيوية ورشاوى ونهب وسلب علنيين. وهذا الجزء المؤثر والحاسم في النخبة الحاكمة يطبع عمل الحكومة كله ويميزه ويمنحه سلوكية معينة وإجراءات محددة، إذ تسعى هذه الفئة إلى إنعاش وتوسيع قاعدة الفئات التي يصطلح عليها بالطفيلية، سواء أكان ذلك في قطاع المضاربات المالية، أم في قطاع السمسرة العقارية، أم في قطاع المقاولات والعقود النفطية واستيراد السلاح، أم في قطاع التجارة الخارجية والداخلية، أم في المجالات الاقتصادية والإدارية الأخرى وفي المجتمع عموماً. ويبرز هنا دور العلاقات والسلوكيات العشائرية التي لم تعد تنسجم مع القرن الواحد والعشرين أيضاً، بل تعود إلى علاقات ما قبل الرأسمالية، وهي في نشاطها أسوأ من الفترة التي كان العراق يئن تحت وطأة الهيمنة الاستعمارية المباشرة أو شبه الاستعمارية وسياساتها الاقتصادية ووجود كامل للعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية. إن الواقع العراقي يشير بوضوح إلى تدهور مستمر في الأوضاع العامة. فالوضع القائم بالبلاد يعكس تشابكاً عجيباً يخدم على المدى القريب مصالح النخبة الحاكمة من الفئات الرثة، التي لا يهمها بأي حال تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني والمجتمع المدني، بل يتركز همها وجوهر نشاطها على سبل زيادة ثروتها من سرقة المال العام وتعظيم حساباتها المصرفية الخاصة على حساب الاقتصاد الوطني وقوت الشعب. وهي تدعي محاربة الفساد، ولكنها تحتفي بكبار الفاسدين وتسكت عنهم وتضعهم في أعلى مواقع المسؤولية بالدولة العراقية.

ويتركز ذكاء الفئات الرثة في هدف أساسي هو: كيف تحافظ على الوضع القائم وعلى وجودها في السلطة وإدامته بما يسهم في زيادة فرص نهبها لموارد الدولة وإسكات الشعب ومنع احتجاجاته. ولكنها حتى في هذه القضية فشلت في الاحتفاظ والدفاع عن أرض العراق ووحدته، إذ سمحت هذه "الفئات الرثة" باجتياح "داعش" واحتلاله لما يقرب من ثلث مساحة العراق في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أياماً معدودة. ومع فرحة تحرير أغلب المناطق، فأن مثل هذه المكاسب العسكرية لا يمكن أن تدوم دون وجود وضع سياسي واقتصادي واجتماعي آخر بالبلاد غير القائم حالياً.

والإشكالية الكبيرة في سياسة هذه الفئة الضارة يكمن في عرقلتها للتنمية الاقتصادية، ولاسيما التنمية الصناعية والزراعية والتنمية البشرية العقلانية، وتتصدى للحداثة وتغيير البنية الاجتماعية، والتي مارسها بول بريمر رغم وجوده القصير بالعراق، إلا إنه كرَّس سياسة وسلوكاً معوجين وفاسدين. ولم يخرج بريمر من العراق إلا بعد أن كرس، وبدعم من النظام الإيراني الطائفي، نظاماً سياسياً طائفياً يقوم على المحاصة الشيعية-السنية-الكردية، ليطمر بذلك، مع أشلاء الحرب، مبدأ المواطنة الحرة والمستقلة والمشتركة بالعراق.

هذه الفئات الرثة والهجينة ليست حديثة العهد بل كانت تشكل جزءاً من قوى المعارضة السياسية للنظام الاستبدادي السابق، وهي التي اتفقت مع الإدارة الأمريكية في أعقاب مؤتمر المعارضة ببيروت عام 1991 على تسلم الحكم، بذريعة أنها تمثل الغالبية العظمى من السكان من الناحيتين الدينية والمذهبية وأن تتفق مع أحزاب سنية وكردية أيضاً. وبالتالي فإن غالبية قوى المعارضة حسمت الأمر على هذه الصورة الطائفية والأثنية في بنية قيادة المعارضة التي وافقت على شن الحرب في سنة 2003م لإسقاط نظام صدام حسين. وكانت تشكيلة الحكم الطائفية القائمة على أساس المحاصصة مطلوبة من الإدارة الأمريكية ومناسبة لمصالحها بالعراق وبمنطقتي الخليج والشرق الأوسط، إذ بهذا الصورة يبقي العراق دون استقرار وفي صراع ونزاع مستمرين يبعده عن التنمية وعن تغيير بنية الاقتصاد الوطني وبنية المجتمع الطبقية ومستوى الوعي السياسي والثقافي. لقد حقق بريمر ما أرادته الإدارة الأمريكية في خلق تلك الأجواء السلبية التي أطلقت عليها "كوندليزا رايز" بـ"الفوضى الخلاقة" Creative Chao، الفوضى المدمرة التي يعاني منها العراق حالياً، بل إن الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط تعاني من هذه الفوضى الخلاقة. فما هي السمات التي تميز الفئات الاجتماعية الرثة التي تخلق الرثاثة وتنشرها بالبلاد؟

ابتداءً، يجب أن نشير إلى ضرورة التمييز بين الفئات الهامشية والفئات الرثة، فهما لا يعنيان بشكل تلقائي شيئاً واحداً، كما إنهما ليسا مترادفين، ولكنهما يلتقيان ببعض السمات المشتركة وأهمهما: موقعهما من الإنتاج ومن الملكية لوسائل الإنتاج وفي بعض الأخلاقيات. فالفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا علاقة لها بالإنتاج المادي حتى الآن، وهي غير مالكة لوسائل الإنتاج حتى الآن، ولكن تملك الكثير من الأموال المنهوبة من خزينة الدول بسبل كثيرة وغير مشروعة، كما إنها تهيمن على الاقتصاد الوطني وخزينة الدولة من خلال موقعها في الدولة والحكم وفي الأحزاب السياسية المهيمنة حالياً على الساحة السياسية العراقية. وهي تهيمن على موارد البلاد، وخاصة النفط الخام وعوائده المالية المتأتية من التصدير السنوي للنفط الخام، والذي يشكل أكثر من (97%) من صادرات العراق، ونسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي ومن الدخل القومي. ففي مقال للدكتور مظهر محمد صالح ورد بهذا الصدد ما يلي: "ما ا زلت الثروة النفطية هي المورد السيادي المالي الغالب الذي تصطف حوله قوة الدولة الاقتصادية والسياسية مركزيا، سواء في دور عوائد النفط في تركيب الناتج المحلي الإجمالي الذي لا يقل عن 45 – 55 % من اجمالي الناتج المذكور أو في موارد الموازنة العامة الاتحادية التي تزيد على 90 %". (أنظر: د. مظهر محمد صالح، قراءة في مستقبل الاقتصاد السياسي للعراق، شبكة الاقتصاديين العراقيين، نشر بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2017).

والاقتصاد العراقي رهينة بيد هذه الفئة الاجتماعية الرثة التي توجه الموارد المالية صوب مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وبعيداً كل البعد عن مصالح الشعب والاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبشكل خاص التنمية الصناعية أو حتى استخدام النفط في التصفية وفي الصناعة التحويلية أو في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية ونظافة المدن والبناء والشوارع. وهي فئة نهابة للثروة الوطنية، وتحت وطأة حكمها يسود الفساد المالي والإداري بكل صوره وأبعاده وعواقبه على الاقتصاد والمجتمع، كما ينتشر الخراب والبؤس والفاقة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمدنية والحضارية بالمدن.

هذه الفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا تعرف الوطن ولا الدين الذي تتبناه شكلياً ولا المذهب الشيعي أو السني الذي تدعي الانتساب إليه، ولا الطائفة التي تتبجح بالدفاع عنها، فالمصالح الذاتية لكل فرد فيها هي الغاية الأساسية، وهي الوسيلة والهدف، إنها السلطة بما تعنيه من نفوذ وهيمنة ومال وجاه وإقصاء واستئصال للفكر الآخر والشخص الآخر والحزب الآخر والشعب الآخر. ولو كان في مقدورها أن تحكم بدون الناس لتخلصت منهم أيضاً! واليوم ينهض تحالف شيعي – سني يمثل الأحزاب الطائفية وليس جماهير الشيعة والسنة وعرابه القيادة الإيرانية، وحديثاً السعودية أيضاً. وهو الذي يفترض أن يفضح. في مثل هذ النظام السياسي لا تنفع التوصيات والمقترحات التي يقدمها الاقتصادي "الإسلامي" عادل عبد المهدي. إن المزيد من الناس بدأوا يدركون تدريجاً طبيعة هذه الفئة وطبيعة الحكم السياسي الطائفي المسؤول عن كل ما حصل بالعراق خلال الـ 14 سنة المنصرمة، وهي التي يجب أن تترك مكانها ليقرر الشعب من يفترض ان يحكم البلاد وعلى وفق أسس ديمقراطية-علمانية وعدالة اجتماعية.

انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابع.

 

د. كاظم حبيب

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي

الحلقة الرابعة

غياب الرؤية الاستراتيجية والعقلانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعي بالعراق

إن عرض اللوحة الاجتماعية للنخبة الحاكمة بالبلاد يشير لنا بأن السياسات الاقتصادية التي تمارس في العراق تعبر عن هذا الخليط الاجتماعي المركب وتتجلى فيها العلاقة الجدلية لا بين السياسة والاقتصادية بشكلها العام والظاهر حسب، بل وبمضامينها الاجتماعية أو الطبقية، التي تحرص على مكافحة الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصناعية المتوسطة والطبقة العاملة وفئة المثقفين الواعين لدورهم ومهمتهم في المجتمع، وتحديث وتنويع القطاع الصناعي وحل المسألة الزراعية وتحديث الزراعية وتنويع بنية الإنتاج الزراعي وتنظيم التجارة الخارجية وتغيير بنيتها لصالح عملية التنمية الوطنية والتصنيع ...الخ، وتوجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة لتحقيق التنمية.

حين يكون الحكم على مستوى البلاد والمحافظات بيد هذه الفئات الاجتماعية التي تحدثنا عنها، سيجد المتتبع تجليات ذلك في غياب الرؤية العقلانية أو الرشيدة لعملية التنمية الآفاقية وعلى المدى البعيد أو ما نطلق عليه بـ "إستراتيجية التنمية الوطنية" التي يفترض أن تمتد لعقدين أو أكثر من السنين. وهذا الغياب هو الذي يميز السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الفعالة والواقعية، حيث يغيب أيضاً التوزيع الرشيد للمهمات والأهداف والتقديرات للاستثمارات على خطط خمسية وسنوية وعلى مستوى الحكومة الاتحادية والمحافظات مثلاً. وفي غياب استراتيجية التنمية الوطنية الشاملة وتقدير حاجات البلاد ذات المدى البعيد للموارد المالية بصورة علمية تقريبية، تغيب أيضاً استراتيجية السياسية النفطية في البلاد وتتحول إلى تصريحات فارغة وتقديرات متباينة ومزاجية يدلي بها هذا الوزير أو ذاك حول كمية النفط التي يراد استخراجها وتلك التي يمكن تصديرها أو التي يمكن استخدامها في عمليات التكرير أو التصنيع الأخرى. وهو ما عاشه العراق وما زال في جولات العقود الخائبة التي وقعها حسين الشهرستاني جزافاً، وهي التي تلحق اليوم أضراراً غير قليلة بالعراق. كما ينطبق هذا النهج غير العقلاني والفاسد على القطاعات الأخرى ولاسيما الكهرباء.

إن هذه الفئات الاجتماعية غالباً ما تكون انتقائية وعفوية وذات رؤية ضبابية لما يفترض أن ينمو ويتطور في العراق حالياً وفي المستقبل. هذا ما عاشت فيه البلاد في فترة حكم القوى القومية والبعثية منذ 1963 حتى سقوط نظام البعث وصدام حسين. لقد امتلكت سلطة حزب البعث جهازاً للتخطيط وكفاءات كبيرة وممتازة وإمكانيات مالية كبيرة ووضعت للعراق خطة بعيدة المدى عمل عليها الكثير من الباحثين الممتازين من أمثال الدكتور عبد الرحمن قاسملو والدكتور صبري زاير السعدي والدكتور جعفر عبد الغني والدكتور كامل العضاض والدكتور فرهناك جلال وصباح كچه چي وعشرات من الخبراء والمختصين غيرهم، إضافة إلى بعض الأجانب، كما وضعت خطط خمسية مهمة، ولكن العفوية والانتقائية والرغبات الذاتية كانت سيدة الموقف التي حددت ما يفترض أن يقام في العراق من مشاريع، وهي التي أبعدت كل الخطط عملياً وتركت صدام حسين وطه ياسين رمضان وعزت الدوري يتحكمون اعتباطاً بوجهة تطور الاقتصاد باتجاه التصنيع العسكري على وفق الذهنية العسكرية الراغبة في القمع والحرب والتوسع.

حين تضع استراتيجية للتنمية الوطنية ستكون بحاجة ماسة إلى معلومات تفصيلية عن واقع العراق الاقتصادي والاجتماعي، وإلى رؤية واقعية وصحيحة للإمكانيات المتوفرة في البلاد من النواحي المالية والفنية والكوادر العلمية والفنية والإدارية والعلاقات العربية والإقليمية والدولية المتحركة ووعي ديناميكية المتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها، وان تضع أكثر من احتمال، ثم تحاول استخدام عملية التقريب المتتابع للوصول إلى النموذج الأكثر قرباً للواقع القائم والمتغير. ويدخل في التأثير على هذا الأمر الموقف من قضايا مهمة منها مثلاً: النموذج الاقتصادي الذي تسعى إليه النخبة الحاكمة والموقف من التصنيع والزراعة وبقية القطاعات، وكذلك الموقف من التنمية البشرية ومن البحث العلمي ومن القطاعين الخاص والعام والقطاع المختلط والقطاع الأجنبي ...الخ. وأسمح لنفسي أن أجزم بأن الحكومات الثلاث المنصرمة (علاوي والجعفري والمالكي) والحكومة الحالية، رغم وجود مستشارين جيدين، لم تكن، وليس لديها الآن، رؤية علمية وواقعية لما يفترض أن تكون عليه استراتيجية التنمية الاقتصادية والبشرية، ولكن لدى الكثير من الحكام والعاملين في الحكومة وأجهزة الدولة قدرة فعلية خارقة على أساليب وأدوات الاغتناء على حساب المال العام. وهي مشكلة أخرى ترتبط بدورها بالفقرة السابقة، بالطبيعة الاجتماعية للفئات الحاكمة والذهنية التي تتعامل بها مع الشعب العراقي ومع ثروة البلاد.

وحين توضع استراتيجية للتنمية الوطنية يفترض أن يؤخذ بنظر الاعتبار الثروة الخامية المتوفرة في البلاد، أي النفط الخام والغاز المصاحب بشكل خاص، إضافة إلى موارد أولية أخرى، والموارد البشرية والقدرات العلمية والفنية المتوفرة. وعليه يفترض أن يعتمد المخطط للاقتصاد العراقي على النفط الخام، كمادة أولية، وعلى موارد النفط المالية لتحقيق التنمية الاقتصادية وتغيير بنية الاقتصاد خلال 25 سنة القادمة. ولا بد لنا وبالرغم من الأوضاع المرتبكة الراهنة في العلاقات بين العراق والدول المجاورة والعراق والدول العربية، فأن أي استراتيجية تنموية عراقية يفترض فيها أن تأخذ بالاعتبار التعاون والتنسيق العربي والإقليمي، لأسباب ترتبط بمجموعة من العوامل، سواء أكانت من حيث مستوى التقنيات وحجم رؤوس الأموال وحجم الإنتاج ومستوى الإنتاجية والتكاليف والقدرة على التسويق، خاصة وان العراق يعيش في عصر يزداد عولمةً من سنة إلى أخرى، ويفترض أن لا ينسى ذلك بغض النظر عن الملاحظات التي يفترض أن توضع على واقع سياسات العولمة الجارية من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة التي لا تصب في صالح الدول النامية، ومنها العراق، وبشكل خاص من خلال سياسات المؤسسات المالية الدولية ونموذجها للتنمية، تلك المؤسسات التي يتصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة.

هناك الكثير من المسائل التي يفترض أن نتطرق إليها في مجال استراتيجية التنمية الغائبة عن العراق، ولكن يمكن الاكتفاء  بالإشارة السريعة إلى مسألة تعتبر أساسية بالنسبة للعراق في ضوء الرثاثة السائدة بالعراق وتلوث البيئة نتيجة عواقب الحروب واستخدم السلاح الكيماوي من جانب النظام، والعتاد المشع من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، التي أدت إلى تفاقم التلوث وعواقبه الوخيمة.  وقد ظهرت أمراض خبيثة عديدة في العراق، وخاصة في جنوبه. ولهذا لا بد للعراق حين يضع استراتيجية تنموية أن يفكر بالتنمية الاقتصادية، وباقتصاد النفط الاستخراجي والتصنيعي، التي يفترض أن تقترن بحماية فعلية للبيئة من التلوث بمختلف احتمالاته، وأخص بالذكر هنا موضوع التنمية الصناعية والزراعية بما يحقق التوافق المناسب والمطلوب بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة والطبيعة. إذ بدون ذلك سيتفاقم تعرض العراق لمشكلات بيئية كثيرة تعرض حياة البشر إلى أخطار كبيرة، كما سيصرف أضعاف ما يصرفه اليوم من أموال على التنمية من أجل إعادة تنظيف البيئة التي يصعب عندها تنظيفها من التلوث. إنها عملية ضرورية ما دام الإنسان يريد أن يعيش على الأرض العراقية وينعم بثرواتها الأولية ويبعد عن أجياله الحالية والقادمة أعباء الأمراض الخطيرة والموت المبكر والخسائر المالية الكبيرة بسبب تلوث البيئة.

ولكن يستحيل تحقيق التنمية المنشودة إلا حين يستطيع المجتمع أن يخلق ميزان قوى جديد لصالح الفئات المنتجة للثروة الاجتماعية، للسلع المادية والروحية، ولصالح البرجوازية المتوسطة والصغيرة، التي تريد استثمار رؤوس أموالها في التنمية الصناعية والزراعية، عندها يمكن تأمين الضغط الضروري على الفئة الحاكمة لتمارس سياسة اقتصادية فيها شيء من الاستقلالية عن مصالح الفئات المالكة للأموال، أو ما يحقق شكلاً من أشكال التوازن في المصالح، بما يسهم في دفع عجلة التطور والتقدم إلى الأمام. ومثل هذه الحالة تستوجب نضالاً شاقاً من جانب القوى المعبرة عن مصالح تلك الفئات لتنعكس في مجلس النواب وفي تشكيلات مجلس الوزراء وفي القوانين والقرارات التي تصدر عن الحكومة ومجلس النواب. وإلى ذلك الحين، إلى حين تحقيق التغيير الجذري، سيبقى العرق يئن تحت وطأة مشكلاته العصية الراهنة.

 

 

 

الحلقة الخامسة والأخيرة

البديل المنشود لتحقيق التنمية والانطلاقة الاقتصادية

يراهن السيد عادل عبد المهدي على نظام الحكم القائم لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية، وأراهن من جانبي على إن النظام السياسي الطائفي والمستند إلى المحاصصة الطائفية والذي تقوده أحزاب إسلامية سياسية طائفية، سواء المهيمنة على قيادة الحكم أم المشاركة فيها، وسواء أكانت شيعية أم سنية، غير قادر على تحقيق الانطلاقة الاقتصادية والسير على طريق التنمية الاقتصادية والبشرية المستقلة والواعية لتحقيق التغيير المنشود في البنيتين الاقتصادية والاجتماعية وفي الوعي لدى الفرد والمجتمع بالعراق. كما إنها غير قادرة على الحفاظ على وحدة الوطن وسلامة الشعب. وهذا التشخيص ليس اجتهاداً وادعاءً مني، بل هو حصيلة فعلية قائمة للسياسات والممارسات السيئة وغير الديمقراطية الناجمة عن طبيعة النظام الطائفي وأهدافه ونهجه وسلوكه في التمييز والتهميش والإقصاء للآخر، الذي عاش ويعيش حتى الآن تحت وطأته العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية خلال السنوات 14 المنصرمة والذي اقترن بفساد سائد بالبلاد باعتباره نظاماً قائما ومعمول به. وآخر دليل على ذلك يبرز في قرار إعفاء عبد الفلاح السوداني الذي طالبت هيئة النزاهة باعتقاله، واعتقل فعلاً ببيروت، ثم طالبت الحكومة بإخلاء سبيله لأن قراراً بالعفو صدر عنه من جانب الحكومة الحالية. إن السوداني عضو قيادي في حزب الدعوة الذي يترأسه حتى الآن نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السابق، كما أن رئيس الوزراء الحالي هو عضو قيادي في هذا الحزب الشؤم. وكل الوزراء والنواب أو الأبناء الذين سرقوا وهربوا أو هربوا وأولئك الذين زوروا الشهادات واحتلوا مناصب مهمة، وجدوا الاحتضان والعفو من قبل أحزاب الإسلام السياسي الطائفية، الشيعية منها والسنية، ومن الحكومة المعبرة عن تلك الأحزاب.

لا يمكن للعراق المتعدد القوميات والمتعدد الديانات والمذاهب والمتعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية أن يستقيم ويتطور ويحقق الوحدة الوطنية ويعزز نسيجه الاجتماعي الوطني الديمقراطي بوجود مثل هكذا نظام سلفي يعود لقرون خلت، بل لا بد من تأكيد معايير ومبادئ وأسس وأهداف حضارية تعود للقرن الحادي والعشرين، التي من شأنها أن تدفع بالعراق نحو الأمام وليس الانكفاء على الماضي ومآسيه وعلى القوى التي لا تحترم إرادة الإنسان وكرامته: وهنا أطرح بوضوح ما التزمت به قوى التيار الديمقراطي العراقي وما أضافت إليه واقترحته للمناقشة لجنة المبادرة لتوحيد القوى الديمقراطية واليسارية واللبرالية والشخصيات الدينية العلمانية والشخصيات والقوى المستقلة: 

المعايير والثوابت والقواسم المشتركة:
تتفق القوى المستهدفة على المعايير والاسس التالية:
** المواطنة أولاً، واحترام الهويات الفرعية.
** الديمقراطية السياسية والاجتماعية.
 ** الدولة المدنية الحديثة.
 ** العدالة الاجتماعية.
 ** استقلال القضاء.
 ** ضمان استقلال المفوضيات المستقلة عن الأحزاب السياسية والسلطة التنفيذية
 ** احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وضمان حرية التعبير عن الرأي والتظاهر والاعتصام، وحرية الصحافة.
 ** اللامركزية وصلاحيات موسعة للمحافظات، في ظل عراق ديمقراطي فدرالي موحد.
 ** وضع القوانين والنظم المنظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق     

      الدستور.
 ** احترام التنوع وخيارات الاتحاد الطوعي وحق تقرير المصير على وفق احكام الدستور.
 ** سيادة العراق ارضاً وجواً وبحراً.
 ** نظام الحكم تعددي برلماني.
 ** التداول السلمي للسلطة وفق انتخابات نزيهة حرة وعادلة.
 ** الفصل بين السلطات.
 **  الفصل بين الدين والدولة.
 ** سيادة القانون وانفاذه دون تمييز.
 ** القوات المسلحة الوطنية بصنوفها وتشكيلاتها كافة هي الجهة الشرعية الوحيدة التي تحمل      السلاح دفاعا عن ارض العراق وامنه الداخلي.
 ** الجيش هو المسؤول عن حماية حدود العراق وسيادته.
 ** الشرطة وجهاز الأمن الداخلي هما المسؤولان عن الأمن الداخلي للبلاد.
 ** الاصطفاف الوطني الشامل ضد الارهاب والتطرف والتكفير والفساد.
 ** إعادة النازحين الى مدنهم وديارهم، واعادة الاعمار لمدنهم وتعويضهم.
نحو ميثاق وطني يتضمن:
 إجراء تعديل في الدستور يخلصه من الاختلالات الراهنة، وبما يضمن ترسيخ الديمقراطية والحداثة واحترام مبدأ المواطنة

** وحقوق الإنسان وتحريم التمييز بمختلف أشكاله وضد نشر الكراهية.
 ** تشكيل حكومة كفاءات وطنية عابرة للطائفية ورافضة لها.
 ** الاصلاح الحقيقي (السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي والاداري والمالي والبيئي).
** استكمال تحرير الارض، ومواصلة مواجهة الارهاب وذيوله فكرياً وسياسياً وأمنياً. واستكمال بسط نفوذ سلطة الدولة ودحر الإرهابيين وإنهاء الانفلات الأمني، عسكريا وفكريا.

** حل مشكلات النازحين وقضايا المهجرين الناجمة عن كل فترة الصراع المسلح ورفض التغيير الديمغرافي وإعادة النازحين إلى ديارهم وإعادة الأعمار وتعويض المتضررين.
 ** إطلاق حملة شاملة لمواجهة مبرمجة ومنظمة للفساد واسترداد الأموال، وإجراء محاكمات عادلة      للفاسدين.
 ** استكمال مشروع المصالحة السياسية والمجتمعية على أسس قويمة.
 ** العمل على معالجة قضايا العدالة الانتقالية وحل مشكلات المعتقلين بمحاكمات عادلة للمتهمين أو إطلاق سراح المعتقلين دون مبرر فوراً وتعويضهم.
 ** الاهتمام بقضايا التنمية المستدامة، واستنهاض الاقتصاد الوطني بمزيد من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية والخدمات الإنتاجية، لاسيما ملفات البنى التحتية، ومنها الكهرباء والماء

     والنقل والمواصلات والاتصالات.
 ** الاهتمام بمشكلة المياه والحصص المائية مع دول الجوار والمنفذ البحري للبلاد.
 ** تنشيط القطاعات الاقتصادية الخاص والمختلط والحكومي بما يسهم في تسريع عملية التنمية

     الاقتصادية والبشرية.
 ** الاهتمام بالسياحة وتوفير مستلزماتها باعتبارها توفي مورداً إضافياً للدخل القومي.
 ** معالجة مشكلة البطالة المتفاقمة ولاسيما بين الشبيبة، وعواقبها.
 ** معالجة تنامي الفقر وتزايد عدد الفقراء الذين يعيشون تحت خطر الفقر المحدد للدول النامية.
 ** الانتهاء من وضع قانون وطني فعال لشركة النفط الوطنية، وربط موارد النفط المصدر بالتنمية المستدامة وعملية التصنيع وتحديث الزراعة وتنويعها، بما يسهم في تخليص الاقتصاد العراقي من طابعه الريعي الاستهلاكي.
 ** العمل على تأمين الأمن الاقتصادي والغذائي للمجتمع العراقي.
 ** وضع القوانين الناظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق الدستور واعتماد المفاوضات في حل المشكلات القائمة بينهما، وكذلك مع الحكومات المحلية في المحافظات.
 ** ايلاء اهتمام استثنائي لقضية المرأة العراقية ومساواتها الكاملة في الحقوق والواجبات مع الرجل.
 ** إيلاء اهتمام خاص بالشبيبة واغناء حياتهم الثقافية والرياضية بمختلف جوانبها.
 ** إيلاء الثقافية الوطنية بجميع حقولها اهتماماً خاصاً وتوفير مستلزمات وصولها لفئات الشعب

      كافة.
 ** إصلاح المنظومة الانتخابية.
 ** إصلاح المفوضيات والهيئات المستقلة ومنع تدخل السلطة التنفيذية بشؤونها.
 ** التدقيق في اختيار شخصيات اعضاء المحكمة الاتحادية العليا وحصرهم بالقضاة المتمرسين المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية والثقافة.
 ** إصلاح أسس التربية والتعليم والبحث العلمي ووضع برامج علمية وديمقراطية لمختلف مراحل

     الدراسة. التوسع بالتعليم المهني والفني بما يتجاوب مع ضرورات التوسع بالتنمية. إنشاء مجلس  

    وطني أعلى للتعليم يأخذ على عاتقه وضع استراتجية التربية والتعلم
 ** إصلاح نظام الخدمات الصحية والتأمين الصحي والرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي

     والاهتمام بذوي الحاجات الخاصة.
 ** توفير مستلزمات العيش الكريم للأرامل وأيتام سنوات الاستبداد والحروب والإرهاب.
 ** وضع حد للتدخل الخارجي بكل اشكاله في شؤون العراق الداخلية، والعمل لإقامة أفضل العلاقات    مع جميع الدول على أسس الاحترام والمنفعة المتبادلين والمصالح المشتركة.

بمثل هذا البرنامج يتمكن العراق من الحفاظ على وحدته واستقلاله وضمان سيادته وتمتع الشعب بخيراته وتمتع الفرد بحريته وكرامته وحقه في اختيار الدين أو المذهب أو الفكر الذي يناسبه ويحقق طموحاته مع الاحترام الكامل لحرية الآخر، وكما جاء في المثل المعروف "مد يدك بحيث لا تمس أنف غيرك".