القـُبلة المُرّة /علي جاسم شبيب
توقفت سيارة البيك آب وسط عتمة المساء المريب، بين أشجار غريبة، أشجار غابات الجبال البعيدة التي إنحدرت مع إنحدار سلالة البشر صوب السهول. كان حوض السيارة الخلفي، مغطى بساتر غليظ، أخضر، غامق، يشبه غطاء السيارات العسكرية التي تخفي شيئاً خاصاً بداخلها، وهذا ما كان في سيارتنا الرابضة مثل أم تريد أن تلد أولادها دفعة واحدة.. كان بداخل الحوض سبعة عشر رفيقاً بعمر الورود.. رفاق يافعون، إن اقتربت منهم تضيء وجوههم من عيون براقة، وكنت مع المسؤول العسكري محشورين مع دليل فتي أيضا وسائق السيارة الذي يقرض أطراف شواربه الكثة، فالرجل مشرف العمل الذي لم نتعرف عليه، وتوقفت عن إسترجاع منظر القرى ودخان البيوت التي مررنا بها.. بيوت فلاحين لا يعرفون إن أسبوعاً واحداً بقي على هذه السنة حتى تطوى.. وهو نفس اليوم الذي غادرت فيه الوطن إلى سوريا.. توقفت عن التحديق بالظلمة الفاترة عندما توقفت السيارة..
غادرنا مقاعدنا وتنفسنا هواء السهل الرطب، حينها مال علينا صاحب الشوارب وإبتسم بغيظ مفضوح.. قال إرفعوا ساتر الحوض.. عندما فتحنا حبال الربط، إندلق الرفاق من بطن الحوض مثل حاجات لم تربط، فانهالت الأجساد، وتدحرج بعضها على الأديم الندي.
.. في الضوء الشاسع من مصباح جندي الحدود، المرافق، تفتت سجف الظلام عن صف غير منتظم للرفاق الشباب.. صرخ الجندي إن أسرعوا فالوقت قد داهمنا.. دفع صاحب الشوارب مجموعة من الشباب لإنزال باقي الحمولة من حوض السيارة.. أكياس من النايلون الأبيض مثل أكياس العلف، مشدودة الأفواه بإتقان كبير.. ثم نزلت الأسلحة والذخيرة وحقائب سفرنا العسكرية، وزٌع علينا مشرف الحملة.. السلاح والذخيرة، في ظلمة أضائتها عيوننا المرتابة أصلاً من فحيح مشرف الحملة..
أصبح الحديد البارد بين أيدينا وأقعت حقائبنا بين أرجلنا.. كانت دهشتنا غامرة، وإرتجاف الساقين تدفع الحقائب صوب الأرض لتهدأ وتنام، فكرت بالكاسيت الأخير الذي يحمل صوت أمي، فأمسكت بالحقيبة خوف أن تداس بالأقدام.. فزٌ الذعر النائم بين جوانح الرفاق على صوت محرك السيارة.. قال ذو الشوارب ورأسه تهتز.. ضعوا المسدسات في أحزمة البنطلونات وتهيأوا لأي طارئ وطار مع سيارته على أجنحة الظلام السريعة..
ومن بعيد لمع ضياء يرمش بعينيه، لقد أخبرنا جندي الحدود عن هؤلاء الأدلاء وسبق أن لمعت إشارة من مصباح.. إشارة مرتعشة.. والكل يرتعش هنا حتى شفاه الرفيق أبو داود حسبما أتصور.. شفاه غليظة ترتعش وتتيبس.
حملنا أسلحتنا والذخيرة وأكياس النايلون واتجهنا صوب المصباح المضيء..
.. الظلام ثقيل والحاجات التي تحمل.. ثقيلة، نشق غلالة الليل بوجوهنا وأنفاسنا اللاهثة وأرجلنا تخط على الأديم مثل متمرن مصاب بعوق.. هذه خلاصة حالة التسمين التي عشناها في بيوت مغلقة في منطقة القامشلي السورية.. بيوت لرفاق شيوعيين سوريين.. أكراد.. كانوا مثال الطيبة والكرم، في هذه البيوت علمنا الرفيق أبو حسن رياضة مملة.. نثبت أصابع وكف القدمين على طابوقة ثقيلة، ونقلبها برمي ثقل الجسم إلى الأمام.. كانت الرياضة شاقة، لكنها دربت الأقدام على التشبث وجعلت الساقين قويتين عند ربلة كل الساق. هذه الرياضة ساعدت أجسامنا من بلوغ النهر، نلهو مع أصابع الماء التي تسللت ببرودتها وخففت علينا ثقل الحاجات التي نحمل. عند شجرة كبيرة أوراقها تلمع في العتمة المطبقة وجدنا أربعة رجال ينتظروننا.. ملابسهم مدنية ويحمل كل واحد منهم حقيبة على كتفه، والرجل الرابع يتلفع كوفية حمراء مشدودة على فمه كلثام.. سلم علينا بلهجة سورية وبادرنا..
.. رفاق.. هؤلاء رفاق أتراك من حزب ثوري، سيعبرون معكم وسيساعدونكم.. صافحنا واختفى بين الأشجار العملاقة.
عندما صعدنا الطريق صوب الغابة، كان القمر يومئ إلينا، ثم يختفي، وعند فسحة صغيرة إنتصب فوقنا.. توقف القمر فوقنا ولاحظت الرفاق يرمون بالأكياس على الأرض وينتزعون الحقائب عن أكتافهم وعيونهم متعلقة بالشاهد القديم.. سمعت أحد الأدلاء يقول أين المسؤول.. كان يتحدث بلهجة سورية كردية.. إقترب مني أحد الرفاق: لماذا لا تجيب قلت إنه يقصد المسؤول العسكري ودفعته أن يبتعد عني.. أنظر إلى القمر وقبلة راضية، مطمئنة، حلوة، تشدني إليه.. قبلة جعلت مخاوف الجسد والتباس الأوامر، سهلة أمامي مثل صفحته.. وضعت كفي على النقود التي هي زاد المفرزة المفترضة، نائمة في جيب معطفى الثقيل، يغطيها بريد الحزب الذي علينا إيصاله إلى قاطع بهدنان وهناك رسائل إلى رفاق الداخل لففتها بكيس من النايلون وأودعتها جيباً آخر من الجيوب العميقة للمعطف.
إنبرى أحد الرفاق وسأل الدليل: ماذا تريد من المسؤول؟ ـ قال وهو يتفحص أحد الرفاق المتكئين على جذع الشجرة.. أريد معرفة خطتكم في العبور، من أية قرية وإلى أي مكان.. بلع ريقه.. نحن أدلاء فقط، نعرف المكان ثم صرخ بوجوهنا ما هذه الأكياس؟!.. ران صمت كأنه أبدي، لكن حلاوة قبلة القمر دحرجتني إلى الرفيق المسؤول العسكري.. قلت بصوت خافت، ما هي خطة العبور.. قال وكأنه ينشج: لا أعرف، وأضاف أنا رجل مسرحي ولست عسكرياً.. أضاف بصوت متقطع.. أدخلونا في دورة عسكرية قصيرة.. فقط قصيرة جداً وإبتعد عن جذع الشجرة التي كانت متكأ له.
بقيت حائراً.. وفي اللحظة التي تقدم بها رفيق شاب ،كنت قد قررت الرجوع وعبور النهر مرة أخرى.. قال الرفيق: رأيت أحد الأدلاء يشير إشارة غير طبيعية بيده وهي تضيء، كأنه يومئ لأحد.. فطلبت إستراحة قصيرة.. وعندما إجتمعت مع رفاق المفرزة ،لم يعرف أي واحد منهم ماذا تحوي هذه الأكياس وإنشغلوا بتلمسها وريازتها.. إقترب أحد الأدلاء، كان كردياً سورياً، قصير القامة، ضعيف البنية، نشيط، وقف بيني وبين القمر وإمتد ظله حتى ساق الشجرة، قال ..أرى أن نرجع إلى القرية في سوريا.. قلت وهل نحن في تركيا.. أجاب: نعم ثم أضاف بصوت واثق ,إن بيتي يقع قرب النهر، نرجع ونرتاح، ثم.. ماذا تقررون.. وكأنه ملاك نزل مع خيوط أشعة القمر، فإنتعشت أرواحنا وخضنا النهر ببطء شديد، وكان الدليل الملاك يخوض نقاشاً حاداً مع الدليلين الآخرين حيث أنزل بندقيته، وأمسكها بوضع التهيؤ لأي طارئ.