من مأثر أنصار../ وردا البيلاتي

 مقدمة

شهدت بداية الثمانينات إستحفال نفوذ المرتزقة من الأغوات ورؤساء العشائر الذين شكلوا ظهيراً  قويا للحكومة العراقية في حربها الضروس ضد الشعب  الكردي.  وكان كثيرا من الجنود الهاربين من جحيم الحرب الأيرانية العراقية يلتحق بصفوفَ هؤلاء المرتزقة حسب اتفاق خاص بين الحكومة العراقية ورؤساء الجحوش من أجل استعابهم وتوجههم ضد قوى المعارضة الوطنية الناشطة في كردستان العراق. وقد اثار ذلك قلق فصائل انصار الحزب الشيوعي وعموم الحركة القومية الكردية . فكان لابد من القيام بعمل لردع هؤلاء وأيقافهم عند حدهم.

وبمبادرة حتمتها هذه الظروف المستجدة اجتمع المكتب العسكري للسرية الثالثة في قاطع دهوك في احد بساتين الرمان في ناحية زاويتة في صيف 1985 لدراسة المقترحات الخاصة بأتخاذ عمل محدد يهدف الى تأديب المرتزقة، وإبراز دور حركة أنصار الحزب الشيوعي كقوة قادرة على اختراق دفاعات العدو رغم انتشارها المكثف.

كان احد المقترحات المقدمة هو القيام بعملية خاطفة داخل مدينة دهوك نفسها ضد المرتزقة، وقد عرض المقترح احد الملتحقين  الجدد بحركة انصار الحزب، وكان من أبناء المنطقة، وقد ابدى استعداده أيضاً لأن يكون دليلاً للمقاتلين داخل المدينة. فتم قبول المقترح، وشرع المكتب بدارسة كل التفاصيل المحيطة به.

كانت الدار التي تستهدفها العملية تقع في محلة " شيلة" وتم تحديد قوام المفرزة التي سوف تنفذ العملية، وتألفت من الرفاق الأنصار أبو زياد والرفيق جلال والرفيق سامر وهم من  الرفاق العرب، واربعة من رفاق الأكراد، والرفيق أبو كريم الأشقر والرفيق قائد المجموعة من الكلدو اشوريين. كانت طبيعة العملية الخاطفة تقتضي أستخدام الأسلحة الخفيفة الكلاشنكوف، أضافة الى قاذف اربي جي 7 الذي تولى مسؤوليته الرفيق جلال.

وبعد أن جرى المكتب العسكري للسرية لقائه مع المشخصين الذين سوف ينفذون العملية، والأستماع الى التحضيرات النهائية لها بانت على وجوه أعضاء المفرزة أبتسامة الفرح الشديد لأختيارهم لهذه المهمة البالغة الخطورة، وثفتهم الكاملة بإنجازها.

وتتجلى خطورة المهمة في الأنتشار الكثيف لأفواج الجحوش الخفيفة في كل مناطق المدينة، اضافة الى منظمة حزب البعث، ومعسكر الجيش ومنظمة الإستخبارات ومديرية الأمن التي تشرف على مركز المدينة، ويبقى خطر اخر هو أمكانية تعرض افراد المفرزة إلى اصابة احد افرادها تعيقها عند الأنسحاب. ومن الصعب على القارىء أن يستوعب خطورة هذه العملية إلا لمن خاضوا رحاها فعلاُ.

بعد أن اكملت المفرزة استعداداتها انطلقت نحو  هدفها المرسوم من قرية لينافا، وعبرت مساءً قرية بريبهار الى  الجانب الثاني من قرى عشائر المزورية, وفي الصباح الباكر تحركت عبر السلسلة الجبلية المطلة على مدينة دهوك،  حيث ظهرت قرى يزيدية في الجانب الثاني، استغرق المسير أثني عشر ساعة تخللها بعض الأسترحات القصيرة. غير أن مؤن المجموعة قد نفذت بما فيها المياه، لكن ذلك لم يفت في عضدها في  تنفيذ المهمة، فدخلت المدينة  بعد أن اجتازت العديد من الربايا العسكرية عند غروب الشمس، واتخذت من بعض البيوت المشيدة حديثاً كنقطة مراقبة لااستطلاع الوضع، تسللت بعدها الى أنبوب إسمنتي يستخدم للمجاري كبير الحجم تم وضعه حديثا، واستخدمته المجموعة كنقطة إنطلاق لتنفيذ العملية.

لاحظ قائد المجموعة علامات الإرهاق والجوع على وجوه الأنصار، وبدا واضحا صعوبة تنفيذ العملية بنجاح في ظل الأنهاك والتعب والجوع، فأجتمعت المجموعة للتشاور لأتخاذ قرار ما, فتقدم احد الأنصار بمقترح وهو الذهاب إلى بيت أحد معارفه في المدينة وجلب المؤنة الى المجموعة ، كان الأقتراح جيدا، وحظى بقبول قائد المجموعة، لكنه تردد في اتخاذ القرار نظراً للاْخطار المحدقة كوقوع الرفيق في كمين، أو اكتشاف أمره على أضعف تقدير، وماذا سيحل بالمجموعة ....الخ كان اتخاذ القرار بارسال الرفيق صعباً ولكنه إتخذ على اية حال، وفي نفس الوقت اتخذت المجموعة وضع التهيؤ والأستعداد للقتال في حالة المداهمة، ولم يمضي وقت طويل حتى عاد الرفيق محملاً بالعنب، وبسطل من الماء، وبعض قطع الصمون المجمد الذي التهمه الرفاق، وأفرغوا الماء في بطونهم بدون إبطاء، فانتعشت النفوس، وارتفعت المعنويات، وتأهب الجميع  لتنفيذ الفصل الرئيس من العملية، غير أن شيئاُ مفاجئا لم يكن في الحسبان قد حدث بالنسبة لمعلومات الأستطلاع السابقة، والمتعلقة بالبيت المستهدف، والواقع في محلة شيلة- فقد تم حفر الشارع الذي يقع فيه البيت لمد المجاري فيه، رغم ذلك توجهت المجموعة الى الدار، ساعدت المجموعة الرفيق ابو زياد في أعتلاء الجدار والقفز إلى داخل الدار وفتح الباب، فدخلت المجموعة، واعتلى احد الرفاق سطح الدار وداهم  رجلا نائماٌ، وما أن استفاق هذا حتى صقع من مفاجأة رؤيته للانصار وهم يقفون على راسه، فذهل وتوسل إليهم بلا يقتلوه فهو ضيف على اهل الدار.إقتحمت بقية المجموعة غرف الدار، وكانت إحداها لإبن صاحب الدار، والأخرى لأمر سرية الجحوش الذي تم كبسه فيها نائمأ مع زوجته. وعندما افاق هذا على الضجة سحب مسدسه إلا أن أمر المجموعة نهره قالاٌ: ليس لديك من الرجولة ما يكفي لأن تطلق النار على الأنصار، فسقط المسدس من يده من شدة الخوف وراح يتوسل بلا يقتلوه، ولهم أن ياخذوا ما شاءوا. فامر احد الأنصار بأن يسلم ما عنده من اسلحة اخرى، فنهض وجلب رشاشتي كلاشينكوف مع مخازن   وطلقات، ومضى في التوسل بلا يقتله، فرد عليه الأنصار بأنهم لا يقتلون من يستسلم .وبان عليه وعلى إبنه بان يتخلى عن مساندة النظام وبان يقفا مع أبناء شعبهم الشرفاء. وراح يتضرع ويتوسل ويقبل الأيادي ويطلب الرافة به. فتركه الرفاق، غير أن النساء بدأن يصرخن: عصاة عرب!!! فرد الرفاق عليهن بأنهم ليسوا عصاة، وأنهم من اصار الحزب الشيوعي العراقي.

وبحركة سريعة ترك الأنصار الدار، غير أن زخات الرصاص بدات تنهمر فجاة من اسطح الدور بتجاه المجموعة، فتريثت بالرد على مصادر النار لئلا يؤدي ذلك إلى كشف خط الأنسحاب . وتحركت إحدى المدرعات لقطع الشارع، فامر قائد المجموعة  الرفيق جلال لتجهيز قاذف  بي 7 لضرب المدرعة فتحرك الرفيق بسرعة نظرا لطول ساقيه متخذاٌ وضع القتال، غير أن المدرعة غيرت مسارها فجاة صوب محلة بروشكي ظناُ من العدو بأن خط الأنسحاب سيكون من هناك لأنه السهل، ولم يفكر العدو  الغبي بأن انسحاب المجموعة سيكون من المنطقة الأصعب، ومن بين الربايا المحيطة بالمدينة ومن امام المستشفى الجمهوري( صدام) وصولا إالى قمة الجبل المطل على  قرى اليزيديية. وهكذا تمكنت المجموع من الأفلات من قبضة العدو بسلام. والساعة الثانية ليلاُ حلت المجموعة ضيفا على إحدى القرى، وتناولت الشاي الذي لم يكن ألذ منه  بعد تنفيذ المهمة بنجاح. كان من الصعب المكوث في القرية ليوم اخر رغم أن المجموعة كانت بحاجة إلى نيل قسط من الراحة، فتقرر مواصلة  المسير نحو المناطق الأمنة ،فطرقت المجموعة باب أحد أصحاب السيارات في القرية فخرج وهو خائف، فطمأنته المجموعة بأنها لا تريد إلحاق الأذى به، وأنها من الحزب الشيوعي، وإنها تريد فقط إيصاليها إلى منطقة آمنة، غير انه لم يزد إلا خوفأ ورعبا، فقال له قائد المجموعة مؤنبأ : أ لست رجلا من الرجال؟ فأجاب : اني لست رجلاٌ ! فتركته المجموعة إلى  رجل اخر ، وكان على قدر كبير من الشجاعة، فأبدى استعداده إلى نقلهم على  اي مكان يطلبون ، وتسال إن كانت المجموعة قد جاءت من دهوك بعد أن نفذت عملية، فأشار الرفاق له بالسلاح الذي غنموه من الجحوش فهلل الرجل فرحأ  وأثنى على عملها، وطلب القيام بالمزيد من العمليات داخل المدن، ولم تمضي ساعتان حتى كانت المجموعة قد وصلت إلى القرى المزورية، وأفطرت هناك، وقد دهش أبناء القرية حين سمعوا بان المجموعة  نفذت عملية في مدينة دهوك، وغنمت سلاحا، وكان بعضهم يعتقد بان هذه المفرزة لا بد أن تكون من الحزب الديمقراطي الكردستاني، غير أنهم لما سمعوا بان أفرادها يتحادثون باللغة العربية اقتنعوا بانها للحزب الشيوعي العراقي.

وعند المساء واصلت المفرزة طريقها نحو منطقة عملها، والوصول الى قرية صندور، حيث تم الأحتفاء بالإنجاز الناجح ونحر خروف مباركة بالحدث.

تركت هذه العملية الناجحة في قلب مدينة دهوك صدى واسعا لدى أبناء المدينة والمناطق المحيطة بها، وكانت دليلا على شجاعة الأنصار الشيوعيين،  وحسن تخطيطهم، وقدرتهم على تنفيذ عمليات خاطفة ونوعية في عمق المناطق الخاضعة للحكومة، مما شكل ضربة موجعة لهيبة السلطة ومرتزقتها من الجحوش في عقر دارها، وبالتالي  تعريضها الى  سخرية واستهزاء المواطنين، وهو الأمر الذ اكده المعلمون القادمون من المدينة.