القيادة المركزية والكفاح ..-15/فيصل الفؤادي

  قبل الخوض في الموضوعة لابد من معرفة طوبغرافية منطقة الاهوار , والتي أختارتها القيادة المركزية كمنطلق لنضال لاحق هو الكفاح المسلح من أجل أسقاط السلطة القائمة أنذاك .

الاهوار هي تلك المساحات الواسعة من الماء والخضرة وتسمى ( المسطحات المائية ) والتي تكونت لمئات السنين في منطقة جنوب العراق ومساحتها حوالي 9324 كم مربع  وهي دائمة الخضرة و تقع في الاراضي المنخفضة بين دجلة والفرات وتنمو فيها نباتات القصب والبردي وهما يشكلان غابة كثيفة يصعب الدخول لها, وفي نفس الوقت صعوبة معرفة طرقها وممراتها , وعاشت فيها أنواع الحيوانات المائية والطيور والاسماك . ومن أهم الاهوار التي تقع بين الناصرية وميسان هي ( أهوار الصحين والسلام والميمونة وهور السنية والحويزة والحمار وأهوار المجر ) والتي تصب فيها بعض الانهار والروافد ( البتيرة والكحلاء والمشرح وفروع دجلة , المجر الكبير والعدل ونهر الكسارة والسطيح ) , وهناك يعيش سكان كما يسمون ( عرب الاهوار ) وهي مجموعة من العشائر المعروفة في العراق  والذي يصفهم المستشرق البريطاني (ويلفريد ثيسيغر ) في كتابه بالكرم والشجاعة والمروة والحب .. الخ .

الكفاح المسلح

  كانت المشكلة الرئيسية في ( قضية الحسم ) تصب في محاسبة راسمي سياسة خط أب 1964 وهم ( عبد السلام الناصري وباقر أبراهيم وعامرعبد الله وبهاء الدين نوري ) , وبعض القياديين الذين التفوا حول هؤلاء, وكانت لجنة تنظيم بغداد هي المطالبة بذلك وقد أصدرت بيانا حيث أدانت فيه هذا الخط  ووزعته وبدون موافقة اللجنة المركزية أو الرجوع اليها وقد ردت اللجنة المركزية ببيان في أب 1966  على بيان صادر في حزيران نفس السنه وفيما بعد رفع تنظيم بغداد شعار (الانتفاضة الشعبية  المسلحة ) في حين رفعت اللجنة المركزية شعار  العمل الحاسم , وبعد الاشكالات التي حدثت بين التنظيمين عقد أجتماع للجنة المركزية في شباط 1967وكلف عضو المكتب السياسي عزيز الحاج بأن يشرف على تنظيم بغداد بدلاً من عمر علي الشيخ , وهذا هو الخطأ الفادح خاصة وعزيز يميل الى القرارات الفردية وحب الظهور .. الخ  .

عقد أجتماع حزبي في شهر ايلول قاده عزيز الحاج واكد على ضرورة عزل القيادة , وتنفيذاً لقرارات هذا الاجتماع وضعت خطة لاعتقال أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية .

بعد أنشقاق مجموعة (عزيز الحاج ) عن اللجنة المركزية شكلت تنظيما جديد اطلق عليه اسم: "القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي " وذلك في 17 أيلول وأنضم اليه  الكم الاكبر من الكوادر والقواعد في بغداد وبعض التنظيمات في الجنوب، وانتقل بعض كوادرها الى القيام بما سمي في حينه بـ  " أنتفاضة الاهوار " . وبالمقابل طردت اللجنة المركزية عزيز الحاج وكوادر تنظيم بغداد المنشقين وذلك في 19 أيلول 1967 ..

(جاءت فكرة الانتفاضة – أنتفاضة الاهوار - كرد على أنقلاب 8 شباط 1963 وما صاحبها من تصفية المنجزات لثورة تموز واغراق العراق في بحر من الدماء والظلام , من قبل خالد احمد زكي والذي سمي جيفارا العراق ,حيث ترك عالم لندن وكل مافيها من عالم جميل حيث كان سكرتير لمنظمة برتراند رسل السلام في أنكلترا وعاد ليناضل الى جانب شعبه ضد الطغيان والارهاب [1] ).

  قاد خالد أحمد زكي تنظيم بأسم ( فريق الكادر ) حيث أجتمعت مجموعة من الكوادر في 30 /7/1967 واكدت على ضرورة عقد المؤتمر الثاني للحزب .

لقد قدم الشهيد خالد وثيقة ضمنها أرائه في مطلع 1968 حيث تبلورت بشكل كامل بتبني الكفاح المسلح والاستفادة من التجارب الغنية ومنها الكفاح البطولي لشعب فيتنام كما  .. وتأثر بأفكار الاممية الرابعة التي تهتدي بالتروتسكية , ومن بين ما ذكر في هذه الوثيقة:

1- استبدال اساليب الكفاح السابقة المعتمدة كليا على العمل السياسي السلمي كالعرائض والمظاهرات بأساليب كفاح جديدة تعتمد على الكفاح الثوري المسلح لآن الطابع الغالب للكفاح الوطني والطبقي هو الطابع العنفي . ... الخ

2-  تكيف التنظيمات ورفع روحها الجهادية لكي تكون قادرة على قيادة الكفاح الثوري المسلح .

3-  توحيد القوى التقدمية في البلاد عن طريق التلاحم في الكفاح المسلح ضد الاستعمار وعملائه .... ,

4-  الالتفات الى ضرورة تعبئة الجنود والعناصر الوطنية في الجيش والقوات المسلحة ... ,

5- دراسة الوضع الجغرافي للعراق ودراسة الظروف المحلية في كل منطقة انطلاقا من مقتضيات الكفاح المسلح وخبرة الجماهير الشعبية ) .

رفعت القيادة العامة شعارالكفاح المسلح وقد أنضمت اليها الكثير من التنظيمات منها المحلية العمالية والطلابية والكرادة الشرقية .

ودعا أحد قادة التنظيم العسكري في البصرة  أمين حسين الخيون الاسدي  ( أبو جماهير ) الى أنقلاب عسكري حيث عارض الانتفاضة المسلحة وهي قادرة على ( العمل الحاسم ) وجمع مجموعة من مناصرية وسمها ( منظمة الكفاح المسلح) ورفض أن ينضم الى المجاميع الاخرى وشرع بجمع السلاح واتخذت المنظمة من اهوار الجبايش في الناصرية منطلقا لعملها .

يقول عزيز الحاج ( كانت العناصر والاعتبارات والعوامل السياسية والشخصية ..ممتزجة ومتشابكة في مجمل الصراعات الحزبية عهد ذاك [2]...).

هذا الجانب الذي أدركه عزيز الحاج بعد أكثر من عقدين على أنشقاقه , وهذا يشير الى مدى الوعي الذي يحمله الكادر الحزبي ومواقفه في ظروف الحزب الصعبة الذي عانى من أجله الكثير , الجانب الذاتي وحب التأثر الذي أمتزج بأرادوية لم تتوفر لها القاعدة الحزبية ولم تساعدها الظروف على تطورها , وكانت الخسارة الكبيرة في أستشهاد العديد من القيادات والكوادر الحزبية والتي كان الحزب بحاجة لها خاصة بعد أنقلاب البعث 1963 .وكون مع مجموعة من بعض الاعضاء الكوادر حركة منتفضة داخل الحزب .

        في الوقت يشير الكاتب  عزيز سباهي الى ذات الموضوع بالقول -

في 17 أيلول سارع المنشقون الى أصدار بيان بعنوان (قرارات الاجتماع الحزبي الاستثنائي ) وأشاروا فيه الى أنه صادر عن اجتماع عدد من الكوادر الحزبية المتقدمة وانه  لم يتسن حضور جميع الكوادر المتقدمة الواعية التي يجب ان تأخذ بأيديها مصائر الحزب ) والحال ان اجتماعا كهذا لم ينعقد كما يقول عزيز الحاج في تلك الايام . واورد البيان عدة قرارات في ادانة اللجنة المركزية وادانة خط أب وتشكيل قيادة مركزية مؤقتة  تأخذ على عاتقها أجراء ( حملة تطهير مبدئية جريئة في جميع الهيئات المركزية واللجان الاساسية في نطاق الحزب كله ولاسيما بغداد و فرع كردستان ) .. وفي حيثيات القرارات وعد المنشقون بأن حركتهم ستجري (عملية تطهير لينينية في اللجنة المركزية أولا ثم في الهيئات القيادية الاخرى وبوجه عام ) , ذلك الانشقاق الذي أضعف كيان الحزب أمام القوى الاخرى والسلطة الدكتاتورية في تلك الفترة والذي كان جزء من ردود الفعل في المرحلة التي مرت في العالم ككل كما قلنا سلفا في المرحلة الجيفارية وأنتشار الافكار اليسارية ونهوض حركات التحرر الوطني في أغلب بلدان العالم الثالث .

... ويقول الحاج ( وسنرى ان مجرى الاحداث ودوافع المنافسة الحامية مع الجناح الاخر لكسب مجموع الحزب وبعض التيارات والافكار المتهورة والمتطرفة , اخذت تدفع بنا مع مرور الايام الى ان نضع مشاريع اكثر من طموحة وان نتعجل الخطوات قبل نضوج عوامل نجاحها )[3] .

وبعيدا عن ظروف الانشقاق وحيثياته فأننا نرى من اللازم أخذ الاسباب التي أدت الى تبني هذه المجموعة الكفاح المسلح ضد السلطة الحاكمة حتى بعدعام 1968 ومجيئ البعث نفسه مرة أخرى .

لقد توصل أجتماع شباط عام  1967 الى تثبيت المبادئ الاساسية  في برنامجه ( المنهاج ) والنص على اهدافه النهائية في الاشتراكية والتأكيد على الدور القيادي للطبقة العاملة وعلى النضال الثوري لاقامة دولة ثورية تقودها الطبقة العاملة وحزبها .وفي نفس الوقت تم تنحية ( الرفاق عبد السلام الناصري وباقر أبراهيم وعامر عبد الله ) الذين اعتبروا من مخططي خط أب اليميني .

ولكن هذا الاجتماع لم يعط الصورة الواضحة لشكل النضال في المرحلة الراهنة ( أنذاك ) ففي تشرين الثاني   1965 اكد اجتماع براغ على ( الحاجة الى الكفاح المسلح ) أو ( العمل الحاسم ) ثم عادت اللجنة المركزية وطرحت الامر للنقاش .وهذا الامر يعكس التذبذب في سياسة القيادة في طرح مشروع النضال القادم في المرحلة المعينة , وحالة الترقب التي يصفها الكاتب عزيز سباهي في عدم وجود حسم في مجمل الامور السياسية او التنظيمية التي بدا من جرائها التسيب ينخر التنظيم واللا مبالات في تحمل المسؤولية تجاه هذا العمل الذي يحطم الحزب وهو في حاجة ماسة الى وحدة تنظيمية قوية يجابه بها اعدائه على كل الاصعدة  وكانت البلبلة والتفكك ظاهراً في التنظيم والتبشير بالاراء الفردية داخل أغلب المنظمات , وراح الحديث يدور عن عدم قدرة القيادة على تنفذ البرامج أو سياسة الحزب المطلوبة واخذ البعض يناقش العمل على رفع الكفاح المسلح , وقد أيد البعض من المنظمات هذا الانشقاق وأخرى ادانته ولكن المهم في ذلك هو فرع كردستان الذي أدان هذا الانشقاق بقوة برغم أن جزء من محلية السليمانية كان مع الانشقاق و ايدت الحزب فيما بعد, وعاش الحزب أزمة تنظيمية حزبية و فكرية شديدة أثرت بشكل كبير على التنظيم والجماهير في عموم العراق وخارجه ( لندن ) وكذلك على المتواجدين في السجون قبل وبعد 1968ومنها سجن الحلة الذي انضمت الاكثرية فيه الى الانشقاق . ويشير السيد باقر أبراهيم الى أنه كان مسؤولا عن لجنة منطقة بغداد , حيث كانت هذه اللجنة مركزا لفعاليات وتحضيرات تيارها وأهم مطاليبهم هي ( استلام السلطة هي مهمة الحزب الثوري وثانيا الدعوة لاستقلالية الحركة الشيوعية العراقية عن الحزب الشيوعي السوفيتي وثالثا أعادة النظر في القضايا القومية العربية ورابعا العنف هو أسلوب النضال ) .

وقد دعا سكرتير الحزب عزيز محمد اعضاء اللجنة المركزية ولجنة تنظيم الخارج الى اجتماع وادان هذا العمل ودعم ما اتخذته اللجنة المركزية في الداخل وفضح الانشقاق من خلال اذاعة صوت الشعب وساعد هذا في تعرف عدد من المنظمات الحزبية خارج بغداد على الانشقاق .

أهم أسباب  الانشقاق

1-  الموقف الفكري من مفهوم ( التطور اللارأسمالي) .

2-  سياسية ( الاصلاحات التي قام بها نظام عارف ), وخط أب التحريفي .

3-  تنظيمية (تأخير أنعقاد مؤتمر الحزب ) .

4-  ذاتية وشخصية بين بعض القيادين والكوادر الحزبية .

5-  خلاف حول طرح وثيقة تقيم سياسة الحزب للفترة بين عام 1956 و 1964  وبنودها .

6- ضعف أستيعاب الاراء المخالفة وقصور في فهم الديمقراطية ولهذا كان التفرد في أخذ قرارات مهمة ومصيرية .

7- صراع داخلي غير مبرر يتوج بمفاهيم أنانية بعيدة عن الشيوعية والعمل الجماعي والمسؤولية الحزبية ,والتي أدت الى تكتلات خفية .

كانت روح التمرد وأخذ الثأر من القوى المعادية للحزب ومأساة 1963 التي حلت على الحزب أثرت على كثير من الكوادر والقواعد الحزبية والقاعدة الجماهيرية , ومال الكثيرون للتذبذب وذلك بسبب الصراع الفكري والسياسي بين مجمل اعضاء ومنظمات الحزب .

 أدى مجمل الوضع الى تخلخل في التنظيم وفي العمل الحزبي وبالتالي الجماهيري وكذلك في الجانب الفكري وعدم وضوح في الجانب السياسي لعمل الحزب وتشخيص سليم لطبيعة السلطة الحاكمة .

( كانت الاحداث الدموية لعام 1963 , قد وحدت الشيوعيين العراقيين في ادانة السلطة الجديدة وانتهاكاتها , لكن عوامل الصراع الحزبي الداخلي الحاد, وبذور الانقسامات , قد نشطت منذ رضوخ بعض اعضاء القيادة ( المتواجدين ـ المؤلف ) في موسكو للتعليمات السوفيتية بوجوب مهادنة حكم ( عبد السلام عارف ) والسير وراءها , وتطور الامر الى اعتباره حكما تقدميا ( لا رأسماليا ) يمكن للحزب الاندماج التدريجي في مؤسساته . أما في الوطن فقد أتسعت الشكوك في التنظيمات القاعدية واتسعت موجة الشكوى والاحتجاج , وفي الخارج بدأ الصراع الداخلي الحاد على صعيد الكوادر المتقدمة وعلى صعيد القواعد[4] ) .

ويشير الحاج في كتابه الى أن فترات 1965 و66 و67 شهدت تكتلات خفية في صفوف الهيئات القيادية للحزب في بغداد واختلطت القضايا السياسية والفكرية بالاعتبارات والحسابات الشخصية  .

أهم مايميز وضع السلطة الحاكمة في تلك المرحلة
1-  نظام دكتاتوري ذا توجهات  قومانية .

2- سعي النظام الى ( أشتراكية أسلامية ) ( دولة ديمقراطية أشتراكية تستمد ديمقراطيتها و أشتراكيتها من التراث العربي وروح الاسلام[5]).

3- قيام النظام بأصلاحات غير جدية ومنها تأسيس الحزب ( الاتحاد الاشتراكي العربي ) , وهو الحزب الذي تكون جميع الاحزاب والقوى الوطنية بأختلاف أيديولوجتها وبرامجها تحت جناحه .وعلى هذه الاحزاب أن تحل نفسها في بودقة هذا الاتحاد .

4- تحولات أقتصادية غير جذرية ومنها بعض التأميمات التي أجرها النظام في بعض القطاعات الصناعية والزراعية أو ماسمي ب ( القرارات الاشتراكية ).

(يتعلق الامر هنا بحكم عبد السلام عارف وليس على كل المرحلة التي يتناولها المبحث).

من خلال دراسة الوضع العراقي والدولي نرى كيف أثر ذلك على وضع الحزب وقيادته وكوادره والتي أنقسمت بالتالي الى أكثر من جهة تعمل وفق قناعاتها وفهمها للماركسية اللينينة والافق الثوري وتطلعاتهم , وللاسف الشديد كل هذه الافكار أثرت بشكل سلبي على الحزب ككيان سياسي ومؤسسة لها تأريخها المعروف , وارتبطت مجمل الاوضاع الداخلية والخارجية في تحمل الحزب هذا التشضي والتي أضعفت من قدراته بشكل عام .


[1] بطل أنتفاضة الاهوار ص 8 وقيلت قصيدة بحقه للشاعر صباح الدوري  ( مو خسارة جسمك الطاهر  ... خام أبيض مايلفه

أنت خالد وأسمك خالد  .. سجلك محد يحرفه ) .

[2] شهادة للتأريخ ص 224 .

[3]  نفس المصدر السابق

[4] شهادة للتأريخ عزيز الحاج ص53

[5]  عزيز سباهي ج3 ص33.