رفيقنا ابو دنيا .. / محمد علي محمد
محمد علي محمد ( أبو أحرار )
رفيقي ابو دنيا شيوعي مبدئي لا يهادن ولا يجامل.
اول مرة التقيته كان في اليمن الجنوبي, حيث عمل هناك كأستاذ جامعي. ترك كل شيء وجاء مثلنا إلى كردستان عندما كان النظام الديكتاتوري قد سوق لنا بأنه آيل للسقوط وأنه قاب قوسين وأدني كنا نتسابق على الالتحاق بالدورات التدريبية في عدن.
وصلت كردستان قبله بأيام ثم التقيته في قاعدة كوسته, لكنه سرعان ما ذهب مع المفرزة التي كانت بقيادة الرفيق ملازم خضر. وعدنا لنلتقي في ورتة في منطقة بالك عند تشكيل الفوج الخامس بإشراف الرفيق ملازم خضر, وكان ذلك في 31 آذار .
كنا سوية ايام النضال الصعبة في هامات الوطن, في الجبال والوديان والسفوح وعند عيون الماء النبع وفي ايام من الجوع والعطش بحثا عن قطرة ماء في أودية بست الشرغه غرب منطقة الكوي ونحن ندور ونجول في مفارز سرية أربيل حال تشكيلها في ورتة منطقة بالك حيث كانت واحدة من سرايا الفوج الخامس اربيل، إلى جانب سرية ملكان وسرية الكوي.
كان هناك العديد من الأبطال معنا منهم من استشهد ومنهم من خطفته جنية الموت ومنهم من مات غدرا. أتذكر منهم داود وعباس وبريار وشيرزاد ومام عجيل ورفيقنا الطيب كانبي كورة وهاشم ومحسن دشتي وأبو تحرير وسرسور وناريمان والفقيد ابو شروق. اماابو علي الشايب فقيدنا البطل فقد كلف ان يكون اداريا للفوج, والكثير من الأنصار الذين تزدحم بهم المنافي. كنا خليط من الفلاحين والرعاة والعمال والمثقفين والمدنيين والمهندسين وحتى الطلاب.
هناك في سرية أربيل تعلمنا الدروس الأولى في المعارك والعمليات لكن قبلها كانت هناك خبرات محدودة في التعرضات ومفارز السلاح والتموين. اختيرا ابو دنيا وأنا ايضا كمستشارين سياسيين في فصيلين, وكانت هذه أولى المهمات لنا. كان أبو دنيا قدر المسؤولية وهو واحد من هيبة المفرزة بشاربه الكث وطلعته البهية. فالقرى جميعها التي تعودت خطواتنا كانت تعرفه, حتى تسنى لي معرفة تعلق وحرص بيت المعلمات في قرية (..... ) على استضافة ابو دنيا والشاعر النصير هندرين للعشاء في كل مرة ندخل القرية.
يا لها من ايام مليئة بالأحلام. كانت أول العمليات التي اشترك فيها ابو دنيا في حرير ثم توالت العمليات حيث اعاقت ظروف اقتتال الاخوة نشاطاتنا ضد السلطة حتى سياسة المتاركة مع اوك حيث أخذت نشاطاتنا تتسع جغرافيا وأفقيا ايضا. كان أبو دنيا معادلة صعبة في نشاطاتنا أو في المفرزة وأيضا في العلاقات الحزبية والرفاقية. وكان أيضا مصدر غرابة لبعض من رفاقنا عندما اكتشفوا..... انظر بين قوسين، اكتشفوا انه من أصل عراقي كردي, وعندها تهافتوا علي بالسؤال هل هذا صحيح؟؟هل ان ابو دنيا كردي ولماذا لا يتكلم بالكردية؟؟؟. أنه ببساطة شديدة عراقي فوق القوميات, وهو دائما يحمل سلاحين. كان أول درس تعلمناه في حياة البيشمركه أن نتعلم الكذب. فأنا من هذه المحافظة والآخر من تلك وأبو دنيا كان كذبه غير مفضوح ولم يناقض هيئته وهيبته وهو موضع نظر للحسان من صبايا القرى، فهو متزوج وله ثلاثة اولاد وأنه من بغداد وهكذا حتى أصبحنا نحن نصدق اكاذيبنا. فحتى الآن اعتبر نفسي من البصرة، لكني في الحقيقة ابن ميسان وولادتي كانت في الماجدية في العمارة. نعم كنا نكذب كثيرا ونضحك على اكاذيبنا.
في مرة كنت بصحبة ابو دنيا ضيوفا في بيت أحد الرعاة في إحدى قرى بسط الشرغة, وكنا قد اشترينا علبة لحم معلب وطلبنا من صاحب الدار طبخها لنا، عندها سألني صاحب الدار اي لحم هذا. أردت ان اقول له هذا لحم بقر فقلت له هذا لحم (...ير) وذلك لتشابه اللفظ بالكردية, وأنا كنت في طور تعلم اللغة . صاحب الدار شاط غضباً وتدخل العزيز ابو دنيا لينقذني من ورطة وقعت بها. لا يمكنني أن أنسى ذلك. خضنا العديد من المعارك والعمليات سوية مع رفاقنا داخل المدن والقصبات في سهول أربيل والقره جوغ وديبكة واشتركنا سوية في العمليات لتجريد عدد من القرى في سهول أربيل من سلاح الجيش الشعبي.
المهندس ابو دنيا وجد ضالته في تفكيك اثنين من الورش الميكانيكية المحمولة على اثنين من أروع المركبات. كنا قد حصلنا عليها في عملية عسكرية داخل أربيل. كانت هناك اثنتين من المولدات الكهربائية محمولة على المركبات. فككها ابو دنيا وانزلها في القرية بعد ساعات عمل مضنية لعدة أيام عند ذلك بدأ نقاش سياسي بين المسئولين لدينا ترى أين سيضعون المولدات في اية قرية. جاءت مقترحات من أهل القرى في قريتي سماقه وواحدة في قرية باي زاغه.
كان مسئولونا غير قادرين على اتخاذ القرار الصحيح. تركنا المولدات التي تكفي لإنارة أكثر من قريتين في نفس المكان الذي وضعها فيه ابو دنيا. وعند تجدد الاقتتال وانسحابنا من المنطقة باتجاه خوشناوتي جاء من جاء وأهدى المولدات إلى القرى التي فيها عدد من أنصارهم. عندها كان أبو دنيا كعادته يحترق قهرا وغضبا. كان طريقنا طويلا في الانسحاب نحو بشت ئاشان الثانية. وهناك في أعالي الجبال كتبت نهاية صحبتي مع ابو دنيا ، فلم نعد في مفرزة واحدة أو منطقة واحدة. هناك كراهية لتلك الحقبة من النضال التي غيبت حياة الكثير من رفاقنا الابطال ، فكراهيتي لها مزدوجة لأنها كانت سببا في استشهاد الكثير من رفاقي وأحبتي ، وانها ايضا اخذت ابو دنيا مني وأبعدته الى وحدة عسكرية اخرى كنت انا قد رفضت شخصيا الانضمام لها بناء على طلب من رفيقنا الغالي ابو حسان آنذاك. كم زعلت في أعماقي على صديقي ورفيقي ابو دنيا لكني عذرته.
والآن وبعد تلك السنوات لم أجد ابو دنيا قد تغير كشيوعي ونصير وظل صلبا وعنيدا كعادته. كان ذلك يوم التقيته في النشاطات الأنصارية في الداخل والخارج.
تحية وسلاما له ولكل الرفاق المعنيين بتلك الفترة واطلب العذر من الذين فاتني ذكر أسمائهم.